دور السنة فى تأصيل الوسطية والاعتدال فكرًا وسلوكًا

أ.د مصطفى أبو عمارة 

أستاذ الحديث وعلومه بكلية أصول الدين

العودة لصفحة المؤتمر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. 

وبعد.. .

1- فإن السنة النبوية هى صِنْو القرآن الكريم ، وكلاهما يخرج من مشكاة الوحى، وللسنة دورها الخاص فى بيان ما أُجمل فى القرآن، أو تخصيص عامه، أو تقييد مطلقه، أو غير ذلك مما هو معروف لدى أهل الشأن.. .

والسنة فى عمومها تشمل أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وتقريراته وصفاته، وكذا ما يتعلق بالصحابة والتابعين.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة والأسوة فيما يفعل أو يَذَرُ، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [سورة سورة الأحزاب ، الآية 21]

وقال، الآية {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِى أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة النساء ، الآية 65] وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [سورة الأحزاب ، الآية 36]

2- والإنسانية لن تستقيم على طريق صحيح إلا إذا اتبعت النهج الإسلامى الذى جاء به رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم، فكل ما جاء به نور وضياء؛ فأما من أغمض عينيه عن النور فإنه يضر نفسه ولا يضر النور، قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِى هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [سورة الإسراء ، الآية 72]

ولقد استخلف الله عز وجل الإنسان فى الأرض {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة ، الآية 30] والغاية من تلك الخلافة هى: إعمارُ هذا الكوكب الأرضى، وتنميتُه واستثمار خيراته، قال تعالى{هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود ، الآية 61]

ونظرًا لتلك الغاية فقد هيأ الله عز وجل الوسائل لتحقيق تلك الغاية، المتمثلة فى تسخير كل طاقات الكون لهذا الإنسان، سواء ما كان فى السماء، أو الأرض. 

قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} [سورة إبراهيم ، الآية 33] و{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ} [سورة لقمان ، الآية 20] وقال {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [سورة البقرة ، الآية 164] إلى غير ذلك. 

وفى الأرض سخر الجبال والأنهار والفلك إلى غير ذلك. 

قال تعالى {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [سورة إبراهيم ، الآية 32] ، {وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة النحل ، الآية 14]

3- وهذا التسخير الإلهى للإنسان باعتبار أنه المخلوق المكلف؛ لما أودع الله فيه من العقل، تلك الجوهرة التى يدرك بها الأشياء، فالعقل هو مَنَاطُ التكليف، ولا مؤاخذة على غير العاقل، ويقابل التكاليف والمسئولية الجزاء، فالإنسان الذى يقوم بمسئوليته فى هذه الحياة الدنيا يجازى على ذلك، أما من قَصَّر َوتَنَكَّبَ الطريق وأهمل تلك التكاليف فالعاقبة والخسران مآله. 

والتكاليف التى جاء بها الإسلام تتفق وطبيعة هذا المخلوق، الذى خلقه ربه فأحسن خلقه ، ونفخ فيه من روحه. 

إن الإنسان مُركَّب من مجموعة عناصر، وقوى مختلفة، فهناك الجسد، وهناك النفس والروح والعقل والعاطفة، ولكل من هذه القوى خصائصها، وتشريعات الإسلام راعت كل تلك القوى المختلفة، وأعطت تلك المدارك ما يناسبها دون زيادة أو نقصان، فكان التوازن.. وكانت الوسطية.. وكان الاعتدال.. وكان التيسير.. وحنان الوحى.. 

المراد بالوسطية التى هى مدار البحث :

- إن كلمة الوسطية مأخوذة من الوسط، وهى كلمة عربية فصيحة فى مبناها ومعناها، عرفها العرب قبل الإسلام وجرى الحديث عنها فى أشعارهم، ونطق بها القرآن الكريم، واستعملها الرسول صلى الله عليه وسلم قال الشاعر العرجى 

كَأَنِّى لَمْ أَكُنْ فِيهِمْ وَسِيطًا   وَلَمْ تَكُ نِسْبَتِى فِى آلِ عَمْرِو

 وقال تعالى{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [سورة البقرة ، الآية 143] وفى الحديث «خَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَطُهَا»  (1)

وأوسط الشىء أفضله وخياره ، كوسط المرعى فإنه خير من طرفيه؛ وكوسط الدابة للراكب فإنه خير من طرفيها فكلمة الوسط اسم لما بين طرفى الشىء؛ وتأتى فى الأمور المعقولة كالمحسوسة تمامًا، قال أعرابى للحسن: «علمنى دينًا وَسُوطًا، لا ذاهبًا فروطًا ولا ساقطًا سقوطًا» يعنى: دينًا متوسطًا بين الغالى والجافى. (2) 

وقال ابن الأثير فى تفسير قوله «خير الأمور أوسطها» كل خصلة محمودة فلها طرفان مذمومان، فإن السخاء وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والإنسان مأمور أن يتجنب كلَّ وصف مذموم، وتجنبه بالتعرى عنه، والبعد عنه، فكلما ازداد منه بعدا ازداد منه تعريا، وأبعد الجهات والمقادير والمعانى من كل طرفين وَسَطُها، وهو غاية البعد عنهما، فإذا كان فى الوسط فقد بعُد عن الأطراف المذمومة بقدر الإمكان. (3) 

وهذا الكلام فى غاية الأهمية، وهو وثيق الصلة بموضوع البحث؛ حيث يؤكد أن الاعتدال فى الأمور هو بغية كل باحث ، وأن البعد عن الوسط والاعتدال إلى أحد الطرفين مذموم ؛ إما من حيث الإفراط أو التفريط ، وكلاهما مذموم. 

قال الأوزاعى (ت 157هـ) " ما من أمْر أمَر الله به إلا عارض الشيطان فيه بخصلتين، لا يبالى أيهما أصاب: الغُلُوّ أو التقصير" . 

وقال وهب بن منبه: إن لكل شىء طرفين ووسطا، فإذا أُمسك بأحد الطرفين مال الآخر، وإذا أُمسِك بالوسط اعتدل الطرفان، فعليكم بالأوساط من الأشياء. 

وقد مدح الله التوسط فى مواطن كثيرة من كتابه مثل {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [سورة الفرقان ، الآية 67] ، وقال {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [سورة الإسراء ، الآية 110] وقال تعالى{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [سورة الإسراء ، الآية 29] ، {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [سورة البقرة ، الآية 68] . وقال {وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [سورة لقمان ، الآية 19] .

فهذه الآيات يفهم منها أن القوام والسبيل والعوان والاقتصاد أو القصد معانٍ متقاربة مع لفظة الوسطية. 

وذم القرآن التطرف والانحراف بالخروج عن الوسطية، وصَوَّر غيرَ المتمكن من دينه بصورة من هو على طرَف من دينه غير متمكن منه، قال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [سورة الحج ، الآية 11] .

* تأصيل السنة لمبدإ الوسطية والاعتدال:

إن المفهوم السابق لمعنى الوسطية والاعتدال قامت السنة النبوية بتأصيله والتأكيد عليه، من خلال الجانب النظرى المتمثل فى الأحاديث الكثيرة التى تدعو إلى الوسطية، وتبين يسر الإسلام وسماحته فى كل تشريعاته.. وكذلك فى الجانب العملى الذى كان يسلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأمر أصحابه بهذا النهج ومن ناحية أخرى، حارب الرسول صلى الله عليه وسلم كل سلوك خارج عن الوسط والاعتدال، حارب الغلو فى الفكر.. والتطرف فى السلوك.. والتشدد فى الأعمال.. والانحراف عن الاعتدال. 

وإنما كان صلى الله عليه وسلم ينشد الاعتدال فى أقواله وأعماله. لأن الاعتدال مأخوذ من العدل، الذى هو وسط بين طرفين، يقتدر به على رد الزائد والناقص، ومعلوم أن الزيادة أو النقصان، والكثرة أو القلة هى التى تفسد الأشياء إذا لم يكن بينها مناسبة تحفظ عليها الاعتدال بوجه ما. 

ونحن هنا نركز على ثلاثة محاور فى بحثنا هذا : 

 المحور الأول: النصوص النظرية التى تدعو إلى الوسطية والاعتدال :

1- جاء فى الحديث الصحيح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» (4)

وفى حديث «إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ، إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ» (5)

وفى حديث آخر «إن دين الله فى يسر، إن دين الله فى يسر» يقولها ثلاثًا، وهذا الخبر قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فى معرض سؤال له كما رواه الصحابى الجليل سيدنا عروة الفقيمى رضى الله عنه قال: كنا ننتظر النبى صلى الله عليه وسلم ، فخرج رَجِلاً يقطر رأسه وضوء أو غسل، فصلى، فلما قضى الصلاة، جعل الناس يسألونه يا رسول الله أعلينا حرج فى كذا ؟ وفى رواية: ما تقول فى كذا ؟ ما تقول فى كذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ، أيها الناس، إن دين الله فى يسر» يقولها ثلاثًا. (6)

وفى حديث آخر يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله رضى لهذه الأمة اليسر وكره لها العسر».(7) 

ووصَّى النبى صلى الله عليه وسلم سيدنا معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعرى رضى الله عنهما حين وجههما إلى اليمن قائلا لهما «يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا، بَشِّرَا وَلا تُنَفِّرَا». (8)

وفى خطاب عام للناس جميعًا يروى أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا». (9) 

وكانت الغاية من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم هى التيسير على الناس، ورفعُ العنت عنهم، يقول عليه الصلاة والسلام «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِى مُعَنِّتًا وَلاَ مُتَعَنِّتًا وَلَكِنْ بَعَثَنِى مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا»(10). إلى غير ذلك من النصوص، وهى كثيرة جدًّا، وفيها وصف النبى صلى الله عليه وسلم الدين بأنه يسر، وسواء كان المراد من الدين: الإسلام، أو الإيمان، أو هما معا وهو الأرجح كما أشار إلى ذلك ابن أبى حجرة الأندلسى فى كتابه "بهجة النفوس"، فإن ذلك دالٌّ على وسطية الإسلام واعتداله فى كل تشريعاته. 

العلاقة بين الوسطية واليسر جد وثيقة؛ كل مصطلح منهما يؤدى إلى ما يؤدى إليه الآخر، فإن كنا قررنا سابقًا بأن الوسطية تعنى الاعتدال وعدم الجنوح إلى أحد الطرفين المذمومين، فإن كلمة اليسر تفيد معنًى يؤيد هذا؛ لأن اليسر هو عمل لا يجهد النفس، ولا يثقل الجسم؛ وهو فى مقابلة العسر الذى يجهد النفس ويضر الجسم، ومما لا شك فيه أن الجنوح إلى أحد الطرفين مما يجهد النفس ويثقل الجسم لأن فيه من الشدة والعنت ما لا تحتمله النفس البشرية. 

وحكمة هذا اليسر الذى جاءت به الشريعة أن الله جعل هذا الدين دين فطرة، وأمور الفطرة مستقرة فى النفس، يسهل عليها قبولها، ومن الفطرة النفور من الشدة والعنف، وقد أراد الله لهذه الشريعة أن تدوم وتستمر إلى يوم القيامة ، فاقتضى ذلك أن يكون تنفيذها سهلا ميسَّرًا. 

وصفة اليسر تحمل معنى السماحة ، والسهولة والوسع واللين والرفق. 

ولذا ورد فى الحديث «وَشَرَعَ الدِّينَ فَجَعَلَهُ سَمْحًا سَهْلا وَاسِعًا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ ضَيِّقًا»(11)

وفى حديث لأبى بن كعب رضى الله عنه ضمن حديث طويل قال النبى صلى الله عليه وسلم «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ غَيْرُ الْمُشْرِكَةِ وَلاَ الْيَهُودِيَّةِ وَلاَ النَّصْرَانِيَّةِ».(12)، وفى حديث آخر «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ». (13)

ومن ناحية أخرى فالذى يقابل اليسر هو العسر، والعنت، والشدة، والحرج ، وهى صفات مذمومة ، وهى رذائل خارجة عن حد الفضيلة؛ لأن الفضائل أوساط بين أطراف، وكل فضيلة وسط بين رذيلتين، تلك الأطراف هى الرذائل، فالوسطية واليسر فضيلة، وكل فضيلة انحرفت عن موضعها الخاص بها أدنى انحراف قربت من رذيلة أخرى، ولم تسلم من العيب بحسب قربها من تلك الرذيلة التى تميل إليها. 

المحور الثانى: الجانب العملى أو السلوك التطبيقى لهذه القواعد النظرية آنفة الذكر. 

** ما خُيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم.(14) 

** ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم أن يصلى وهو يدافعه الأخبثان : البول والغائط، أو أن يصلى وهو حاقن، أو أن يصلى بحضرة طعام، وإذا حضر العَشاء والعِشاء فابدءوا بالعَشاء، ونهى المسلم أن يصلى وهو ناعسٌ ؛ ربما يذهب يستغفر ربه فيسب نفسه وهو لا يدرى . 

** ويدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ، وهو يريد أن يطيل فيها ، فيسمعُ بكاء الصبى فيتجوز فى صلاته . 

** وقصة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى صلاة التراويح ، وعدم خروجه إلى المسجد لها بعد ثلاث أو أربع ليال ، وقوله لأصحابه رضى الله عنهم «لم يمنعنى من الخروج إليكم إلا أنى خشيت أن تفرض عليكم».(15) 

** وفى صحيح البخارى عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يُطيقون قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيغضب حتى يعرف الغضب فى وجهه، ثم يقول «إنَّ أتقاكم وأعلمكم بالله أنا».(16) 

وقد استنبط العلماء من ذلك أن الأخذ بالأرفق الموافق للشرع أولى من الأشق المخالف له، وأن الأَوْلى فى العبادة القصد والملازمة، لا المبالغة المفضية إلى الترك، فإن المنبتَّ لا أرضًا قطع ، ولا ظهرًا أبقى. 

** وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل مصلِّيًا إلا رأيناه. وما نشاء أن نراه نائمًا إلا رأيناه. (17) وقال: كان يصوم من الشهر حتى نقول: لا يُفطر منه شيئًا . ويفطر حتى نقول لا يصوم منه شيئًا. (18) 

وهذا هو عين الوسطية والاعتدال فى فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمله؛ لأن رسول الله كان يحب من العمل أدومه وإن قل، حتى صار ذلك مثلا يقال فيه: قليل دائم خير من كثير منقطع؛ لأن القليل فيه صفة اليسر، والكثير فيه صفة المشقة والعنت .

المحور الثالث: إنكار رسول الله صلى الله عليه وسلم على من خرج عن حد الوسطية والاعتدال

من أصحابه من ذلك:

 1- ما روته عائشة رضى الله عنها قالت: دخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندى امرأة، قال: من هذه ؟ قلت: فلانة لا تنام الليل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عليكم من الأعمال ما تُطيقون ، فوالله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحبَّ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى يدوم عليه صاحبه». (19)  وفى رواية عند البخارى قالت: فلانة تذكر من صلاتها، قال «مه ، عليكم بما تطيقون». (20)

فهذه امرأة - وهى الحولاء بنت تويت على أصح الآراء - خرجت عن حد الاعتدال والوسطية فى أدائها للصلوات الليلية ، حتى إنها كانت لا تنام بالليل، أو أنها كثيرة الصلاة ليلا، حتى كان يقال: إنها أعبد أهل المدينة، فأنكر عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الإفراط، وأمر الإنسان أن يعمل بما يستطيع المداومة عليه، وأن يقتصر على ما يقدر عليه من العبادة. 

ومعنى لا يمل الله حتى تملوا أى لا يترك الله الثواب والجزاء ما لم تملوا من العمل، فالملال بمعنى الترك لأن مَن ملَّ شيئا تركه وأعرض عنه، فكنَّى بالملال عن الترك لأنه سبب الترك. 

2- وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: دخل النبى صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: «ما هذا الحبل ؟ » قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت، فقال النبى صلى الله عليه وسلم «لا، حلوه، فليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد» . (21) 

وقد ذكر البخارى هذا الحديث تحت باب: ما يكره من التشديد فى العبادة، قال ابن بطال: إنما يكره ذلك خشية الملال المفضى إلى ترك العبادة. 

3- قصة معاذ بن جبل رضى الله عنه حين صلى بالناس صلاة العشاء، فافتتح البقرة، فانحرف رجل، فسلّم، ثم صلى وحده وانصرف، فقالوا له: أنافقت يا فلان ؟ فقال: لا والله، ولأتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنا أصحاب نواضح نعمل بالنهار، وإن معاذًا صلى معك العشاء ، ثم أتى فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ ، فقال «يا معاذ: أفتان أنت، اقرأ بكذا، واقرأ بكذا» ،.. . وفى رواية «اقرأ والشمس وضحاها، والضحى والليل، وسبح اسم ربك الأعلى». (22) 

4- قصة عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما ، ورغبته فى أن يصوم النهار، ويقوم الليل، ويقرأ القرآن كله فى ليلة ، ففى صحيح البخارى أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال : قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم « اقرأ القرآن فى كل شهر» . قال: قلت إنى أجد قوة، قال « اقرأه فى عشرين ليلة». قال: قلت إنى أجد قوة . قال« فاقرأه فى سبع ولا تزد على ذلك». (23) 

وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نازله إلى ثلاث ليال، ونهاه أن يقرأه فى أقل من ثلاث. وصح أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند الترمذى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال« لم يفقه من قرأ القرآن فى أقل من ثلاث». قال الترمذى : هذا حسن صحيح. (24) 

وفى السماح لعبد الله بن عمرو بقراءة القرآن فى ثلاث إنما كان فيما نزل من القرآن وقتئذ، ثم بعد هذا القول نزل ما بقى من القرآن. 

وعلى ضوء هذا فإنه يُكرَه قراءة القرآن كلِّه فى أقل من ثلاث، فما فَقِهَ ولا تدبر من تلا فى أقل من ذلك، ولو تلا ورتل فى أسبوع ولازم ذلك لكان عملاً فاضلاً، فالدين يسر. 

يقول الإمام الذهبى رحمه الله تعليقًا على هذا: فوالله إن ترتيل سُبُع القرآن فى تهجد قيام الليل مع المحافظة على النوافل الراتبة والضحى، وتحية المسجد، مع الأذكار المأثورة الثابتة، والقول عند النوم واليقظة، ودبر المكتوبة والسحر، مع النظر فى العلم النافع والاشتغال به مخلصًا لله، مع الأمر بالمعروف وإرشاد الجاهل وتفهيمه، وزَجْر الفاسق، مع أداء الفرائض فى جماعة بخشوع وطمأنينة وانكسار وإيمان، مع أداء الواجب واجتناب الكبائر، وكثرة الدعاء والاستغفار، والصدقة وصلة الرحم.. . لَشغل عظيم جسيم، ولمقام أصحاب اليمين وأولياء الله المتقين؛ فإن سائر ذلك مطلوب، فمتى تشاغل العابد فى ختمة كل يوم فقد خالف الحنيفية السمحة ، ولم ينهض بأكثر مما ذكرناه، ولا تدبر ما يتلوه. 

هذا الصحابى الجليل بعدما كَبِر وشاخ قال: ليتنى قبلتُ رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفى رواية: لأن أكون قبلتُ الثلاثة أيام التى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبُّ إلىَّ من أهلى ومالى. 

5- وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل، وهو يُهادَى بين ابنيه، قال « ما هذا ؟» قالوا: نَذَرَ أن يمشى ولا يركب. قال صلى الله عليه وسلم « إن الله لغنى أن يُعذِّب هذا نفسه» . فأمره أن يركب. (25)

6- وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: بينما النبى صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل ، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم ويصوم . فقال النبى صلى الله عليه وسلم« مُرُوه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه».(26) 

7- قصة الرهط الثلاثة الذين ذهبوا إلى بيوت أزواج النبى صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها وقالوا: وأين نحن من النبى صلى الله عليه وسلم ، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقال بعضهم: أنا أصلى الليل أبدا . وقال آخر: وأنا أصوم الدهر لا أفطر. وقال آخر: وأنا لا أتزوج النساء . وقال بعضهم: وأنا لا آكل اللحم . فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال« أنتم القوم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنى أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد، فمن رغب عن سنتى فليس منى». (27) 

إن عدم إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء النفر على ما أقدموا عليه دال على رغبته صلى الله عليه وسلم من هؤلاء أن يأخذوا دينهم برفق واعتدال؛ لأن دين الله مبنى على اليسر والسماحة، وتشريعات الإسلام لا مشقة ولا حرج، وقد رفع الله عز وجل عن هذه الأمة الإصر والأغلال. 

8- ومن هذا القبيل قصة بول الأعرابى فى المسجد، فزجره الصحابة زجرًا شديدًا ونالوا منه، فأنكر عليهم النبى صلى الله عليه وسلم ذلك وقال« لا تزرموه، إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين». 

إلى غير ذلك من الأمثلة التى يضيق المقام عن حصرها والتعليق عليها، وكلها دالة على أن أحكام الإسلام ومبادئه ومثله قائمة أصلا على مبدإ الوسطية والاعتدال ، وملائمة لطبيعة الإنسان وما يجب أن يتكمل به، ويسمو إليه. 

* إنها مبادئ ليس فيها انحراف ، لا إلى اليمين ، ولا إلى اليسار، ولقد مُرِّنت هذه الأمة على تلك المبادئ حتى أصبح ذلك سليقة لها وغريزة فيها. 

* إن هذه الوسطية روعى فيها الطبيعة المزدوجة للإنسان المركَّب من الروح والجسم ، كما سبق أن أشرنا حتى يكون صالحًا للماديات والمعنويات معا. 

* كما أنها اعتراف بالفطرة البشرية ، وبما ركب فيها من ميول وعواطف، فإن أى إنسان يشتهى أن يأكل ويشرب، ويلبس ويتزوج، ويروح ويغدو إلى غير ذلك من الأمور التى جبل عليها، فلا يمكن أن تكون التشريعات واقفة حجر عثرة فى طريقه فتقول له: (تبتل) ، وهو جزء من نوع لا يكمل ذكره إلا بأنثاه، ولا أنثاه إلا بذكره؛ ولا يمكن أن يحرم من الطيبات وقد أحلها الله له. 

** إن تلك الوسطية شملت العقيدة.. والعبادة.. والمعاملة. من مظاهر الوسطية فى العقيدة أننا نرى الاعتدال والوسطية فى العقيدة الإسلامية القائمة أصلاً على موقف المسلم من الله جل جلاله، فهى قائمة على وصفه تعالى بكل جميل، وتنزيهه عن كل قبيح ، وقد أمرنا الشارع بأن نفكر فى آثار الله فى الخلق والإيجاد والتصرف، دون أن نخشى ضلالا، أما ذات الله فهى فوق العقول، فلا يفكر فيها. 

وقد وردت روايات فى هذا الصدد، وهى وإن كانت ضعيفة إلا أنها يشد بعضها بعضا منها :

-« تفكروا فى آلاء الله ، ولا تفكروا فى الله» . أخرجه الطبرانى فى الأوسط من حديث ابن عمر رضى الله عنهما. 

- عن ابن عباس« تفكروا فى الخلق ، ولا تفكروا فى الخالق فإنكم لا تقدروا قدره». أخرجه أبو الشيخ. 

- وعن أبى هريرة« تفكروا فى خلق الله ولا تفكروا فى الله» أخرجه ابن النجار فى ذيل تاريخ بغداد. 

أما فى العبادة.. فقد سبق ذكر الأمثال.. ..

وختامًا.. فإن من يسر الإسلام وسماحته ووسطيته واعتداله أنْ جَعَلَ التكاليف والمسئوليات المنوطة بهذا الإنسان فى حدود قدرته واستطاعته، ووزَّعها توزيعًا متوازنًا :

فإن لربك عليك حقًّا ، أن تعبده ولا تشرك به شيئًا. وإن لنفسك عليك حقًّا ، ألاَّ تضرها ولا تشق عليها، بل تحسن إليها. وإن لأهلك عليك حقًّا.. وأهلك على نوعين : خاص.. وهم ألصق الناس بك. وعام.. الناس جميعًا. 

وإن لعدوك عليك حقا.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [سورة المائدة ، الآية 8] .. 

إن أى إنسان لا يلزم نفسه فى تعبده وأوراده بالسنة النبوية التى أصلت منهج الوسطية فى الفكر والسلوك، سيندم ولات ساعة مندم، ويترهَّب ويسوء مزاجه، ويفوته خير كثير من متابعة سنة نبيه الرءوف الرحيم الحريص على نفعهم، وما زال الأب الرحيم صلى الله عليه وسلم معلمًا للأمة أفضل الأعمال، وآمرا بهجر التبتل والرهبانية التى لم يبعث بها. 

فنهى عن سرد الصوم، ونهى عن الوصال، وعن قيام أكثر الليل إلا فى العَشْر الأخير، ونهى عن العزبة للمستطيع، ونهى عن ترك أكل اللحم، إلى غير ذلك من الآوامر والنواهى. 

فالعابد بلا معرفة لكثير من ذلك معذور مأجور.. والعابد العالم بالآثار المحمدية المتجاوز لها مفضول مغرور.. 

وأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل. 

ألهمنا الله وإياكم حسن المتابعة، وجنبنا الهوى والمخالفة ، ورزقنا الصدق فى القول، والإخلاص فى العمل 

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. والحمد لله رب العالمين .

 

أ.د/ مصطفى محمد أبو عمارة

أستاذ الحديث وعلومه بكلية أصول الدين

القاهرة فى 18 من صفر الخير سنة 1433هـ ، 12 من يناير سنة 2012م

 

 

 

 

(1) رواه ابن السمعانى فى ذيل تاريخ بغداد بسند فيه مجهول عن على مرفوعًا .

(2) سنن الدارمى (1/63).

(3) النهاية مادة وسط.

(4) أخرجه البخارى 39.

(5) أخرجه أحمد 16182.

(6) أخرجه أحمد 21000.

(7) أخرجه الطبرانى عن محجن بن الأدرع الأسلمى 20/298 رقم 707، وذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد وقال: رجاله رجال الصحيح 4/15.

(8) أخرجه البخارى 4385.

(9) أخرجه البخارى 69.

(10) أخرجه مسلم 3763.

(11) أخرجه الطبرانى 11/213 رقم 11532.

(12) أخرجه أحمد 21594.

(13) أخرجه البخارى معلقا باب الدين يسر.

(14) أخرجه البخارى 3600.

(15) أخرجه البخارى 932.

(16) أخرجه البخارى 20.

(17) أخرجه النسائى 1638.

(18) أخرجه البخارى 2006، ومسلم 2777.

(19) أخرجه مسلم 1870.

(20) أخرجه البخارى 43.

(21) أخرجه البخارى 1158.

(22) أخرجه البخارى 710، ومسلم 1068، وأبو داود 790.

(23) أخرجه البخارى 5109، ومسلم 2787.

(24) أخرجه الترمذى 3202.

(25) أخرجه البخارى 6701.

(26) أخرجه البخارى 6704.

(27) أخرجه البخارى 5118.

العودة لصفحة المؤتمر