دور السنة فى تأصيل الوسطية والاعتدال فكرًا وسلوكًا

أ.د أحمد عمر هاشم

رئيس جامعة الأزهر الأسبق ، وعضو مجمع البحوث الإسلامية

العودة لصفحة المؤتمر 

 

1- المقدمة

 

2- دور السنة النبوية فى تأصيل الوسطية

3- مفهوم الوسطية

4- وسطية العقيدة

5- الوسطية فى العبادة

6- إن لربك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا

7- سماحة التشريع الإسلامى

8- رد بعض الشبهات

 

  بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. 

أما بعد:

فقد أمرنا الله تعالى أن نأخذ ما جاءنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ننتهى عمَّا نهانا عنه، حيث قال الله سبحانه وتعالى {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة المجادلة، الآية 7]

ومن المعلوم أن السنة النبوية المشرفة فَسَّرَتْ وفَصَّلَتْ كتاب الله سبحانه، وأوضحت السنة النبوية كل ما تحتاجه الإنسانية لسعادتها دنيا وأخرى، وكان لها دورها فى تأصيل الوسطية والاعتدال فكرًا وسلوكًا. 

وقد وَضَّحْتُ فى هذه الصفحات هذا الدور الهام فى جانب العقيدة والعبادة، وكيف كانت سماحة التشريع الإسلامى طريقًا لدخول الناس فى دين الله أفواجا، وكيف كان للوسطية والاعتدال أكبر الأثر فى نهضة الدعوة الإسلامية، وانتشارها بالحكمة والموعظة الحسنة. 

ندعو الله تعالى أن يُوَفِّقَنَا جميعا إلى ما فيه الخير لديننا ودنيانا وأُمَّتِنَا، وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أ.د. أحمد عمر هاشم

 

دور السنة النبوية فى تأصيل الوسطية والاعتدال فكرا وسلوكا

للسنة النبوية المطهرة -على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- مكانتها فى التشريع، فهى المصدر الثانى للتشريع الإسلامى بعد القرآن الكريم، ولها منزلتها من القرآن الكريم، فهى الْمُفَصِّلَةُ لِمُجْمَلِهِ، الْمُقَيِّدَةُ لِمُطْلَقِهِ، الْمُخَصِّصَةُ لعَامِّهِ، الشارحة لأحكامه. 

وللسُّنَّة النبوية دورها فى الاعتدال والوسطية من حيث البيان والتفصيل لما جاء فى القرآن الكريم، ومن حيث توضيح منهج الاعتدال والوسطية، من خلال الأحاديث النبوية، ومن تطبيقات الرسول -صلى الله عليه وسلم- لها فى المجتمع الإسلامى، ومع المسلمين، فكرًا وسلوكًا.

وقد كان للتوجيهات النبوية أثرها فى إرساء أسس الاعتدال فى الأمور كلها. وقد كان للاعتدال والوسطية أعظم النتائج فى نشر الإسلام وفضائله، وحب الناس له، ودخولهم فى دين الله أفواجًا، بسبب اعتداله ووسطيته، وعظمته وسماحته.

ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوجه المسلمين إلى منهج الاعتدال، عن أبى هريرة -رضى الله عنه- عن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال «دَعُونِى مَا تَرَكْتُكُمْ ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ ، وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَىْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (1).

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يوجه أصحابه إلى أن من أراد الاستمرار فى العبادة والعمل فعليه ألاَّ يغالى أو يتشدد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضى الله عنهما- قال : قال لى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :« يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» (2).

أى : كان التشدد سببًا فى عدم استمراره على عبادته وقيامه الليل، بسبب ضعفه، فالأخذ بالاعتدال والوسطية فيه الاستمرارُ، والمحافظة على دوام العمل والعبادة. 

وكان -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن التشدد، عن ابن مسعود -رضى الله عنه- عن النبى صلى الله عليه وسلم قال « هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» قَالَهَا ثَلاَثًا»  (3).  والمتنطعون هم الذين يتشددون فى غير موضع التشديد. 

وعن أبى هريرة -رضى الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم- قال «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ، وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» (4).

والمعنى : استعينوا على طاعة الله بأداء العبادة فى وقت النشاط، و«الغدوة» هى: أول النهار، و«الروحة» هي: آخر النهار، و«الدلجة» هى: آخر الليل. 

وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا علم أن أحدًا من الناس يتشدد أو يغالى، حتى ولو كان فى العبادة ينهاه عن ذلك، ويوضح أن أحب الدِّين إلى الله تعالى ما داوم عليه صاحبه. 

عن عائشة رضى الله عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، قال : من هذه؟ قالت : هَذِهِ فُلاَنَةُ، تَذْكُرُ مِنْ صَلاَتِهَا قَالَ«مَهْ عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا» وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ (5).

وعن أنس -رضى الله عنه- قال : دَخَلَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمَسْجِدَ، فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقَالَ«مَا هَذَا الْحَبْلُ؟» قَالُوا : هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ بِهِ. فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-«حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَرْقُدْ»  (6).

وسطية الإسلام

مفهوم الوسطية:

يتحدد مفهوم الوسطية ببيان معناها اللغوى، ومعناها الاصطلاحى :

فأما المعنى اللغوى: فوسط الشىء هو ما بين طرفيه. 

وأما المعنى الاصطلاحى: فالمراد بالوسطية : التوازن والتعادل بين الطرفين، بحيث لا يطغى طرف على آخر، فلا إفراط و لا تفريط، ولا غلو ولا تقصير، وإنما اتباع للأفضل والأعدل، والأجود والأكمل. 

ولا نريد بالوسطية أن يكون الإنسان فى درجة المتوسط فى عبادته أو عمله أو سلوكه، ولا أن يكون متوسط العلم أو العمل أو السعى أو الخلق، أو أنه لا يكون متقدمًا ممتازًا فى هذه الأمور، بل نريد بالوسطية الأجود والأفضل، والأكمل والأعدل، وخير الأمور أوسطها أى : أعدلها. 

قال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [سورة البقرة، الآية 143] أى : عدولا خيارا. وقال تعالى: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [سورة العاديات، الآية 5] أى: تتوسط الصفوف فى المعركة. وقال سبحانه: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [سورة المائدة، الآية 89].

وقال جل شأنه: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} [سورة القلم، الآية 28] أى: قال أعدلهم وأصلحهم. وقال سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [سورة البقرة، الآية 238] وأرجح الآراء أنها صلاة العصر، لقوله -صلى الله عليه وسلم- فى يوم الأحزاب «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الْوُسْطَى، صَلاَةِ الْعَصْرِ، مَلأَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا»  (7).

وسطية الأمة: 

لقد وصف القرآن الكريم الأمة الإسلامية بأنها الأمة الوسط، قال الله تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [سورة البقرة، الآية 143].

والوسط: الخيار والأجود، ولما أنعم الله على هذه الأمة بنعمة الوسطية فكانت خير الأمم، خصها سبحانه وتعالى بأكمل الشرائع وأوضح المناهج وأيسر التكاليف وأوضحها، كما قال سبحانه وتعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [سورة الحج، الآية 78].

وفيما رواه الإمام أحمد -بسنده- عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-«يُدْعَى نُوحٌ -عليه السلام- يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُدْعَى قَوْمُهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ. أَوْ مَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ. فَيَقُولُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ. قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [سورة البقرة، الآية 143] قَالَ: الْوَسَطُ الْعَدْلُ، فَتُدْعَوْنَ فَتَشْهَدُونَ لَهُ بِالْبَلاَغِ، ثُمَّ أَشْهَدُ عَلَيْكُمْ»  (8)

وفيما رواه أحمد -بسنده- عن أبى سعيد الخدرى -رضى الله عنه- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يَجِىءُ النَّبِىُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ الرَّجُلُ ، وَالنَّبِىُّ وَمَعَهُ الرَّجُلاَنِ ، وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، فَيُدْعَى قَوْمُهُ ، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَكُمْ هَذَا . فَيَقُولُونَ: لاَ ، فَيُقَالُ لَهُ : هَلْ بَلَّغْتَ قَوْمَكَ ، فَيَقُولُ: نَعَمْ . فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ ، فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ . فَيُدْعَى وَأُمَّتُهُ ، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ بَلَّغَ هَذَا قَوْمَهُ ، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ ، فَيُقَالُ: وَمَا عِلْمُكُمْ ، فَيَقُولُونَ: جَاءَنَا نَبِيُّنَا فَأَخْبَرَنَا أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا . فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}ْ [سورة البقرة، الآية 143] »  (9)

والآية الكريمة تشير إلى أن الله تعالى حين حوَّل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة - قبلة إبراهيم عليه السلام - واختارها لهم ليجعلهم خيار الأمم، ليكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم؛ لأن الجميع معترفون لهذا الأمة بالفضل. 

وواضح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثرَ أهل المدينة اليهودُ، فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرًا، وكان قبلة إبراهيم، فكان يتوجه بالدعاء إلى ربه سبحانه وتعالى، وينظر إلى السماء، فأنزل الله تعالى قوله {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [سورة البقرة، الآية 144]

وكان - عليه الصلاة والسلام - قبل هجرته - قد أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكة يصلى بين الركنين، فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس. 

وكان الأمر باتجاهه إلى بيت المقدس من الله تعالى، وكان التحويل إلى الكعبة من الله، ووافق رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شرع الله التوجه إلى بيت المقدس، ثم شرع التحول إلى الكعبة، ليظهر من يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ممن ينقلب على عقبيه، قال تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [سورة البقرة، الآية 143]

عَنِ الْبَرَاءِ - رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا ، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ ، وَإِنَّهُ صَلَّى أَوْ صَلاَّهَا صَلاَةَ الْعَصْرِ ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ صَلَّى مَعَهُ ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَهُمْ رَاكِعُونَ ، قَالَ : أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مَكَّةَ . فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ ، وَكَانَ الَّذِى مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ الْبَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا ، لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (10) [سورة البقرة، الآية 143].

وسطية العقيدة

تعنى وسطية العقيدة أنها عقيدة خيرة، سمحة واضحة، مستقيمة عادلة، لا إكراه فيها، ولا تعقيد، يؤمن العباد فيها بالله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، ويؤمن العباد فيها إيمانًا لا تمثيل فيه ولا تعطيل؛ لأن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شىء وهو السميع البصير. 

وكما تتجلى وسطية العقيدة فى عدم التمثيل والتعطيل فى الصفات فإنها تتجلى أيضًا فى الإيمان بالقدر، فنرى أهل السنة لا يقولون إن الإنسان مجبور على عمله، ولا ينكرون القدر، وإنما وقف أهل السنة والجماعة الموقف الوسط، فيؤمنون بالقدر خيره وشره ولا ينفونه، وفى الوقت نفسه لا يقولون بأن الإنسان مجبور على كل الأعمال مسلوب الإرادة. 

إنهم يثبتون أن الله تعالى خالق كل شىء، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ويؤمنون أيضًا بأن للعبد قدرة واختيارًا، فيقفون موقفًا وسطًا بين الذين ينفون اختيار العبد، والذين ينفون القدر، فيؤمنون بأن الله على كل شىء قدير، وأنه لا يكون فى ملكه إلا ما يريد، ويؤمنون بأن للعبد قدرة واختيارًا. 

كما تتجلى وسطية العقيدة بعدم الإغراق والتوسع فى الإيمان بكل شىء، سواء أكان حقًّا أو غير حق، قام عليه دليل أو لم يقم، وأيضًا بعدم الركون إلى الماديين الذين يقولون : الحياة مادة، ولا يؤمنون إلا بالمحسوسات التى يدركونها بحواسهم، فلا يؤمنون بالغيب، ولا بما قامت الأدلة على وجوب الإيمان به، وإنما يؤمنون بالغيب، وبما جاء به القرآن الكريم والسنة الصحيحة. {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [سورة البقرة، الآية 3]

وتتجلى وسطية العقيدة فى الإيمان " بالملائكة "، وأنهم عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، فلا ننزلهم عن مكانتهم كما فعل بعض المخالفين ممن حقروهم وقولوا عنهم إنهم إناث، ولا مغالاة فى شأنهم كالذين عبدوهم وألهوهم، فكلا الفريقين على خطإ، وإنما هم عباد الله خلقهم لمهمة سامية، وجعل لهم وظائف كلفهم بها، منهم ملك الوحى، ومنهم ملك الموت، ومنهم حملة العرش، ومنهم السياحون فى الأرض، ومنهم الحفظة إلى، آخر الوظائف التى خلقوا لها. 

وفى الإيمان بالرسل تتجلى الوسطية فى عدم الغلو فى الإيمان بهم، كمن غالى حتى ألَّههم ولا نفرط فنساويهم بسائر الناس، بل إنهم معصومون ويوحى إليهم من ربهم، فالذين قدَّسوا الأنبياء وعبدوهم، ورفعوهم إلى مرتبة الألوهية على باطل، والذين كذبوهم أو قتلوهم - كبعض الأمم السابقة - على باطل، فالأنبياء بشر، ولكنهم يتميزون بالوحى الإلهى لهم وبعصمتهم. 

قال الله تعالى {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة إبراهيم، الآية 11]وقال رسول - الله صلى الله عليه وسلم - «لاَ تُطْرُونِى  كَمَا  أَطْرَتِ  النَّصَارَى  ابْنَ  مَرْيَمَ  فَإِنَّمَا  أَنَا عَبْدُهُ  فَقُولُوا  عَبْدُ  اللَّهِ  وَرَسُولُهُ»  (11).

وجملة القول أن دعوة الإسلام إلى العقيدة الحقة التى نؤمن فيها بالله ربًّا وبالإسلام دِينًا، وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولا، دعوة فيها التوجيه الإسلامى، وليس فيها الإكراه عليها، كما قال الله تعالى {لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَى} [سورة البقرة، الآية 256].

الوسطية فى العبادة

من العبادات التى تتجلى فيها الوسطية : الصلاة، فليست كثيرة شاقة، ولا قليلة لا تترك أثرا، بل هى خمس صلوات فى اليوم والليلة، ولا تعارض بين أدائها وبين العمل فى الحياة، والسعى فى الرزق، فالمسلم يعمل ويكدح ويسعى، فإذا نودى للصلاة، أجاب ثم يعود إلى عمله.. وهكذا فهو يعمل لدنياه ويعمل لآخرته. 

وفى يوم الجمعة يقول الله تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِى لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِى الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة الجمعة، الآيتان 9- 10]

ولا تستغرق مساحة كبيرة من اليوم، وإنما حددها رب العزة سبحانه فى مواقيت معينة، دون إفراط ولا تفريط، ولا مشقة فى أدائها ولا حرج {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة البقرة، الآية 286]وقال سبحانه وتعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن، الآية 16]

وفى أداء الصلاة والقراءة فيها لا يجهر بها ولا يخافت، كما قال الله تعالى {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [سورة الإسراء، الآية 110]

وألا يؤدى صلاته بسرعة دون طمأنينة، ولا يطيل بالمصلين - إذا كان إمامًا - إطالة تشق عليهم، بل عليه أن يؤدى صلاته بكامل أركانها، مطمئنًا بها، خاشعًا لله وألاَّ يطيل بالناس. وعندما أطال معاذ فى صلاته، وشكا منه بعض المسلمين، قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - « أَفَتَّانٌ أَنْتَ أَوْ فَاتِنٌ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَلَوْلاَ صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ، فَإِنَّهُ يُصَلِّى وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ»  (12)

وقد وجَّه الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الذين أرادوا أن يشددوا على أنفسهم بعد أن سمعوا موعظته، فوجَّههم إلى الوسطية وعدم المغالاة. 

عن أنس - رضى الله عنه - أن نفرا من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبى صلى الله عليه وسلم عن عمله فى السر، فقال بعضهم : لا أتزوج النساء، وقال بعضهم لا آكل اللحم. وقال بعضهم : لا أنام على فراش. فحمد الله وأثنى عليه، فقال « مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا ، لَكِنِّى أُصَلِّى وَأَنَامُ ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى»  (13).

وقد أمرنا الله تعالى أن نقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [سورة الأحزاب، الآية 21].

وهكذا كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه - وهو الأسوة الحسنة، والنبى المعصوم المقتدى به - يحث على الوسطية، وينهى عن المغالاة والتشدد، وقد قال رب العزة سبحانه {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سورة البقرة، الآية 195]

وعن ابن مسعود رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال « هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلاَثًا» وهم المتعمقون الذين يتشددون فى غير موضع التشديد. (14)

إن رحمة الإنسان بنفسه لها أهميتها وأثرها، حتى ولو كان ما يأتيه الإنسان عملاً من أعمال العبادة، فالإسلام يدعو الإنسان إلى إعطاء جسده قِسطًا من الراحة، ليستطيع القيام بأعماله وعباداته. 

عن أبى رِبعى حنظلة بن الربيع - أحد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – قَالَ : لَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ : كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ ، قَالَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ ، قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ . قَالَ قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ (أى : مارسنا ولاعبنا) فَنَسِينَا كَثِيرًا ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا . فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَمَا ذَاكَ» قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ ، إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِى وَفِى الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِى طُرُقِكُمْ ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلاَثَ مَرَّاتٍ»  (15)

تلك هى رحمة الإنسان شرعها الإسلام، وجعل تعاليمه تنادى إليها، وتحرص عليها. 

وكما نلاحظ الوسطية فى الصلاة نلاحظها أيضًا فى الزكاة، فلم تفرض فى كل وقت، ولكن {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [سورة الأنعام، الآية 141]، وعند بلوغ النصاب، وفى النقدينِ بعد مرور حول، وإذا كان الجهد المبذول أكثر كان ما يدفع أقل، وإذا كان الجهد أقل كان ما يدفع أكثر، فما سُقِىَ من الزروع والثمار بماء السماء أو بدون آلة أو تعب ففيه العُشر، وما كان بتعب أو آلة ففيه نصف العشر، وما كان فيه تعب أكثر وجهد أكثر ففيه ربع العشر، كزكاة النقدين وعروض التجارة، وما جاء بلا تعب كالركاز ففيه الخمس. 

وإذا نظرنا إلى الصيام وجدنا أنه يرخص بالفطر للمريض والمسافر والحامل والمرضع، وعليهم القضاء بعد ذلك، وأن الحج إنما يجب مرة واحدة فى العمر كله وهو على المستطيع. 

وهكذا نرى أن العبادات لا مشقة فيها ولا حرج، قال تعالى :

{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [سورة البقرة، الآية 185]وقال الله سبحانه {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج، الآية 78]كما قال الله تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [سورة البقرة، الآية 286].  

إن لربك عليك حقًّا ، ولنفسك عليك حقًّا 

- بين سلمان وأبى الدرداء -

قال الإمام البخارى – رحمه الله - : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِى جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : آخَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِى الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا : مَا شَأْنُكِ ؟ قَالَتْ : أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِى الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ : كُلْ. قَالَ فَإِنِّى صَائِمٌ. قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ. قَالَ : فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ نَمْ. فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ نَمْ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ : قُمِ الآنَ. فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ : إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِى حَقٍّ حَقَّهُ. فَأَتَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم «صَدَقَ سَلْمَانُ».  (16) 

فى هذه القصة عدة دلالات على وسطية الإسلام، وعلى دقة التشريع السماوى؛ حيث كفل الحقوق التى يجب أن يراعيها الإنسان المسلم، فهناك حق الله تعالى الذى يجب على الإنسان أن يؤديه، وهناك حق للأهل على الإنسان يجب أن يقوم به، وهناك حق للنفس على صاحبها يجب أن يتنبه إليه، وأن يعطى كل ذى حق حقه، بحيث لا يشغله جانب على آخر، وبحيث لا يقصر فى حق على حساب الآخر. 

ولقد بدأت هذه القصة ببيان صورة المؤاخاة التى عقدها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وقد ذكر أصحاب المغازى أن المؤاخاة بين الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين قد وقعت مرتين : الأولى قبل الهجرة بين المهاجرين خاصة على المواساة والمناصرة، فكان من ذلك أخوة زيد بن حارثة وحمزة بن عبد المطلب، ثم آخى النبى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار بعد أن هاجر، وذلك بعد قدومه المدينة، فأرسى منهج الوسطية الاستمرار. 

وهذا نموذج لأخوين ممن آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما سلمان وأبو الدرداء، لقد ربط الإسلام بينهما برباط وثيق، فكانا يتناصحان على الخير، ويوجه أحدهما صاحبه إلى طريق الإسلام وهداه، وإلى ما ينبغى أن يكون عليه الإنسان المسلم من أداء حق ربه سبحانه وتعالى، وأداء حق نفسه وحق أهله. 

ولقد زار سلمان أبا الدرداء فوجد امرأته رثة الهيئة، متبذلة، تلبس ثياب المهنة، تاركة للبس ثياب الزينة. فقال : لها، ما شأنك ؟ وفى رواية الترمذى : يا أم الدرداء أمتبذلة ؟ فأجابته قائلة : أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة فى الدنيا. وذلك لأنه يجهد نفسه فى العبادة، ويعزف عن طيبات الحياة، وعن التمتع بزينتها الحلال، ويعزف عن النساء. 

ولما جاء أبو الدرداء، وصنع لسلمان الطعام، وقدمه إليه ليأكل، قال له سلمان : كُل. فقال أبو الدرداء : إنى صائم. وأبَىَ سلمان - وهو الضيف - أن يأكل من طعام أبى الدرداء حتى يأكل معه، وهدفه من وراء ذلك أن يصرفه عن رأيه وخطته التى يسير عليها فيما يصنعه من إجهاد نفسه فى العبادة، وفى غير ذلك مما شكته إليه امرأته، لقد قال سلمان له : ما أنا بآكل حتى تأكل. فأكل، وهذه ناحية من النواحى التى كان يلزم بها نفسه، وذلك بالصيام. 

وهنا ناحية أخرى : وهى قيام الليل، إنه كان يأخذ بالقيام ولا يعطى جسده قسطًا من الراحة، ولا يعطى نفسه حقها فى النوم، ولا يعطى أهله كذلك، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال : نم. فنام، ثم ذهب يقوم، فقال : نم. فلما كان من آخر الليل قال سلمان : قم الآن. فصليا، وبهذا التصرف العملى أراد سلمان توجيهه إلى ما ينبغى أن يتبعه من حق الله وحق نفسه وحق أهله، وعندئذ واجهه بالحقيقة وأرشده إلى ما يحسن اتباعه قائلا له : إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعط كل ذى حق حقه. 

إن مقاييس التقوى والخوف من الله ليست بأن يكلف العبد نفسه ما لا طاقة لها به، وليست فى الانهماك فى العبادة، فقد يورث هذا عدم الاستمرار أو التقصير فى الحقوق الأخرى، ويقطع على الإنسان مواصلة السير فى الطاعة، ولكن مقياس الخشية والطاعة فى المداومة، وفى الإقبال على العبادة بمحبة ورغبة، وتذوق لحلاوة الإيمان، ولما ذكر أبو الدرداء ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال له «صَدَقَ سَلْمَانُ». 

وفى رواية الترمذى وابن خزيمة : "وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا "، وعند الدارقطنى : " فَصُمْ وَأَفْطِرْ وَصَلِّ وَنَمْ، وَائْتِ أَهْلَكَ ". 

إن الإسلام دين اليسر فلا عسر فيه، إنه دين الرحمة فلا حرج معه {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [سورة البقرة، الآية 185]، وقال الله سبحانه : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج، الآية 78]

وفيما رواه الإمام مسلم - بسنده – عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَمَلِهِ فِى السِّرِّ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لاَ أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لاَ آكُلُ اللَّحْمَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لاَ أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ. فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقَالَ «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؛ لَكِنِّى أُصَلِّى وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى»  (17).

وهكذا أَوْضَحَ الصحابى الجليل سلمان لأخيه المنهج الأمثل، والذى كان من أبى الدرداء إنما هو اجتهاد من نفسه، وقد اتبع ما أشار به سلمان، وما أقره عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن لهما مكانتهما التى وضحها الحديث الذى رواه مسلم، عندما أتاهما أبو سفيان وهو كافر قبل الإسلام فى الهدنة بعد صلح الحديبية، 

أَتَى عَلَى سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وَبِلاَلٍ فِى نَفَرٍ ، فَقَالُوا : وَاللَّهِ مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللَّهِ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللَّهِ مَأْخَذَهَا . قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ ؟ فَأَتَى النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ «يَا أَبَا بَكْرٍ ، لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ» فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ : يَا إِخْوَتَاهْ أَغْضَبْتُكُمْ ؟ قَالُوا : لاَ ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أُخَىَّ  (18).

ونستنبط من هذه القصة أهمية النصيحة للمسلمين وفضل قيام آخر الليل، ومشروعية تزين المرأة لزوجها، وجواز النهى عن الأمور المستحبة إذا خيف منها الإفضاء إلى السآمة والملل وتفويت الحقوق الواجبة، وجواز الفطر من صوم التطوع، وكراهية الحمل على النفس فى العبادة، قال تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة البقرة، الآية 286].

 ومن أبرز سمات الوسطية 

 سماحة التشريع الإسلامى

 من أبرز سمات التشريع الإسلامى : سماحته ويسر أحكامه، فليس فيه حرج ولا مشقة، ولا عسر ولا تنفير، بل فيه اليسر والرحمة، والخير والتبشير. 

والذى يتصفح تعاليم الإسلام يرى هذه الحقيقة واضحة بأجلى معانيها وأوضح صورها ونماذجها فى العقيدة والعبادة والمعاملة. 

أما فى العقيدة :

فليس فيها تعقيد ولا غموض، ولا نظرية جانحة، ولا فلسفة حائرة، بل تتركز عقيدته فى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيرِه وشرِّه، حلوِه ومرِّه. 

وليس فى عقيدته إيمان بما جاء به البشر، بل إيمان بما أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم : {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [سورة البقرة، الآية 285]

وليس فى عقيدته عصبية ممقوتة؛ بل احترام لما أنزله الله وإيمان به، واحترام لجميع رسل الله تعالى وإيمان بهم، دون تفريق بين أحد من رسله {كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [سورة البقرة، الآية 285]

وأما فى العبادة : 

فهى عبادة ميسورة، فى وسع كل إنسان أن يأتى بها فلا صعوبة فيها، ولم يكلف الله تعالى عباده إلا بما هو فى وسعهم {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة البقرة، الآية 286]

وقد شرع الله العبادة وأحكامها ومع يسرها، فقد رفع الحرج عنها {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج، الآية78]

فمن لم يستطع الوضوء بالماء لتعب أو مرض أو حرج يمنعه من الماء، أو لأنه لم يجد الماء، فقد شرع الله له التيمم بالتراب الطاهر {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [سورة النساء، الآية 43]

وشرع الله الصلاة، وما فيها من قيام وقعود، وركوع وسجود، ومع يسر هذه العبادة فقد رفع الحرج عنها، ورخص لغير القادر على القيام أن يصلى من قعود، ولغير القادر على أدائها من قعود أن يؤديها مضطجعًا، ولغير القادر على أدائها مضطجعًا أن يؤديها بإشارة رأسه، ولغير القادر على ذلك يجرى أركان الصلاة على قلبه، ولا يتركها ما دام عقله ثابتًا؛ لأنها الصلة بينه وبين خالقه، فانظر إلى أى مدى وصل التيسير ورفع الحرج أن يُكتفَى بأن يُجْرِىَ الأركان على قلبه عند عجزه عن الحالات السابقة ؟ إنها الرحمة الإلهية {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [سورة البقرة، الآية 185]

وأما عبادة الصيام :

فقد رخص الله تعالى للمريض والمسافر سفرًا طويلاً أن يفطر، ويقضى الصوم فى أيام أخر، قال تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة، الآية 184]. وكذلك رخص للحامل والمرضع فى الإفطار والقضاء. 

وأما فى الحج :

فقد جعله الله للمستطيع ومرة واحدة فى العمر كله، وإذا نظرنا إلى سماحة الإسلام فى المعاملات وجدنا الهدى النبوى يرشد إلى السماحة فى كل المعاملات، من بيع أو شراء أو اقتضاء، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضى الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى»  (19).

وإقرارًا لروح السماحة والتراحم بين العباد فى معاملاتهم ينبئنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ثمرة ذلك فى الآخرة حيث يتجاوز؛ الله تعالى عن عباده الذين يتجاوزون ويتسامحون مع عباد الله. 

روى البخارى بسنده أن حذيفة رضى الله عنه قال : قال النبى صلى الله عليه وسلم «تَلَقَّتِ الْمَلاَئِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، قَالُوا : أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا، قَالَ كُنْتُ آمُرُ فِتْيَانِى أَنْ يُنْظِرُوا وَيَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُوسِرِ، قَالَ فَتَجَاوَزُوا عَنْهُ»  (20)

وعن ابن عمر رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَرَادَ أَنْ تُسْتَجَابَ دَعْوَتُهُ وَأَنْ تُكْشَفَ كُرْبَتُهُ فَلْيُفَرِّجْ عَنْ مُعْسِرٍ»  (21).

وكما راعى الإسلام السماحة فى العقيدة والعبادة والمعاملات، فإنه راعى السماحة فى معاملة المسلمين لغيرهم {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورة الممتحنة، الآية 8]

بل قرر الإسلام حماية أهل الذمة والمستأمنين ما داموا فى ديار الإسلام، وهذا الحق الذى قرره الإسلام لحمايتهم يجب أن يعمل به أهل الأديان الأخرى فى معاملة الأقليات الإسلامية، حماية لهم وتمكينا لعباداتهم، حتى يتم التعاون بين عنصرى الأمة. 

ولننظر كيف أكد الإسلام على حقوق أهل الكتاب والمعاهدين.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوِ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»  (22).

ومن وصايا سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه : " أوصيكم بذمة الله، فإنها ذمة نبيكم ورزق عيالكم ". 

وإرساء لأسس التعاون والتواصل بين عنصرى الأمة أحل الله طعامهم، فقال {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [سورة المائدة، الآية 5]

وشرع الزواج بالمرأة الكتابية ولا توجد رابطة فى الظواهر الاجتماعية أقوى من ذلك، قال الله تعالى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [سورة المائدة، الآية 5]

ومما يدل على انتشار الإسلام بسماحته وحسن معاملة المسلمين لغير المسلمين، هذه الواقعة التى حدثت بين الإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه وبين رجل من أهل الكتاب، وذلك عندما فقد الإمام على رضى الله عنه درعه، ثم وجدها عند هذا الرجل الكتابى، فجاء به إلى القاضى شريح قائلا : إنها درعى ولم أبع ولم أهب. فسأل القاضى شريح الرجل الكتابى قائلا : " ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين ؟ فقال الرجل : ما الدرع إلا درعى، وما أمير المؤمنين عندى بكاذب. 

فالتفت القاضى شريح إلى الإمام على رضى الله عنه يسأله : يا أمير المؤمنين هل مِن بَيِّنة ؟ فضحك علىٌّ وقال : أصاب شريح، ما لى بينة. فقضى بالدرع للرجل، فأخذها ومشى، وأمير المؤمنين ينظر إليه إلا أن الرجل لم يخطُ خطوات حتى عاد يقول : أما أنا فأشهد أن هذه أحكام أنبياء... أمير المؤمنين يديننى إلى قاضيه فيقضى عليه ؟ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين، انبعث الجيش وأنت منطلق إلى صفين فخرجت من بعيره الأورق، فقال الإمام على رضى الله عنه : " أما إذا أسلمت فهى لك ". 

وهكذا نرى كيف وصلت سماحة الإسلام إلى هذا المدى الذى يقف فيه أمير المؤمنين نفسه أمام القاضى مع رجل من أهل الكتاب، ومع أن أمير المؤمنين على حق، فإن القاضى طالبه بالبينة، وهذا أمر جعل أمير المؤمنين يضحك؛ لأنه على حق، وليس معه بينة، وواضح أنه المدعى، والبينة على المدعى واليمين على من أنكر، ثم تكون النهاية : أن يحكم القاضى للرجل بالظاهر؛ حيث لم تظهر البينة. 

إن هذه المعاملة السمحة، التى لا يُفرَّق فيها بين أمير وواحد من الرعية من أهل الكتاب، جعلت الرجل يفكر فى هذا الدين، ويتملكه الإعجاب بهذا الدين، الذى يقف فيه أمير المؤمنين أمام قاضيه ويحكم قاضيه عليه، لا له، حكم بظاهر ما أمامه، وإن كان ذلك خلاف الواقع فأنطق الرجل يقول : أما أنا فأشهد أن هذه أحكام أنبياء.. وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.. ويعترف ويقر بالحقيقة قائلا : الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين، انبعث الجيش، وأنت منطلق إلى صفين فخرجت من بعيرك الأورق، ولكنه وقد اعترف وأحب الإسلام ودخل فيه جعل أمير المؤمنين يتنازل عن الدرع للرجل قائلا : أما إذا أسلمت فهى لك. 

إنها صورة من صور القضاء فى قمة عدالته؛ حيث يسوى بين هذا الرجل وبين أمير المؤمنين، وصورة من سماحة الإسلام فى ذروتها؛ حيث كان الحكم بالظاهر وعلى أمير المؤمنين، لا له. 

إن مثل هذه المعاملة السمحة مع غير المسلمين هى التى قربت الإسلام إلى الناس وجعلتهم يدخلون فى دين الله أفواجًا. 

أما صور التعصب الممقوت التى يساء فيها الإسلام فإنها لا تدفع الناس إلى الدخول فيه، بل تدفعهم إلى النفور منه.. ومن أجل هذا كان القرآن الكريم يجلى هذه الحقيقة {لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ} [سورة البقرة، الآية 256] وأيضا لا حرج فيه ولا مشقة {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج، الآية 78]

إنه دعوة إلى اليسر والتسامح، لا إلى العسر والغلظة {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [سورة البقرة، الآية 185]

وإذا كان التسامح وحسن المعاملة وعدم التعصب أمورًا مطلوبة من المسلمين فى معاملتهم مع غير المسلمين، فإنها كذلك مطلوبة من غير المسلمين، حتى تتم معاملة كل طرف للآخر فى دائرة التعاون والتضامن، فلا يسىء أحدهم إلى الآخر، بل يتعاملون بروح الفريق الواحد فى الوطن الواحد.

رد بعض الشبهات

وقد أثار أعداء الإسلام وخصومه بعض الشبهات، يحاولون بها أن يتهموا الإسلام بأنه يعادى الناحية الروحية، وهى - بدون شك - شبهة واهية لا أساس لها من الصحة، فإن التشريع الإسلامى جاء وافيًا بحاجات البدن والروح، وبتنظيم الجانبين والاعتدال فيهما، بلا إفراط أو تفريط. فقد وجَّه القرآن الكريم جميع المسلمين إلى مراعاة مطالب الدنيا والآخرة، حتى فى دعائهم، فقال سبحانه وتعالى : {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [سورة البقرة، الآيات 200- 202] 

ونهى القرآن الكريم عن تحريم الطيبات؛ حفاظًا على جانب الاعتدال بين المادة والروح، كما حرم الاعتداء، ومجاوزة الحد من ذلك، بل على الإنسان أن يأكل مما رزقه الله من الحلال الطيب على أساس من التقوى والإيمان وفى ضوئها.

قال سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [سورة المائدة، الآيتان 87- 88] 

ويركز الإسلام على توجيهه للمسلمين محذرًا لهم أن تغرهم الحياة الدنيا بماديتها ومباهجها، وأن الأموال والأولاد فتنة، وعند الله عظيم الأجر للمخلصين، فقال سبحانه وتعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [سورة الأنفال، الآية 28] 

وقال تعالى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [سورة آل عمران، الآيتان 14- 15]

وقد وضَّح الإسلام أهمية طلب الآخرة، وضرورة العمل لها، فمن كانت الآخرة همه وعمل لها، جَمَع الله له ما يريد، وجعله غنىَّ النفس بالإيمان، وتأتيه الدنيا منقادة راغمة.

وأما الذى ينكب على المادة يجمعها، ويجعل الدنيا همه، فإن الله يجعل الفقر بين عينيه، ومهما واصل التعب والكد فى سبيلها فإنه لا ينال منها إلا ما قدَّره الله سبحانه وتعالى.

عن زيد بن ثابت رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِى قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِىَ رَاغِمَةٌ» (23)

وحياة السلف حافلة بالإيثار والبذل والتضحية والمعروف، حتى وإن ترتب على ذلك بذل كل ما يمتلكون.

نعم، الإسلام دعا بالتوسط كما سبق.. قال تعالى {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [سورة الإسراء، الآية 29].

ولكن سَلَفنا الصالح فى نظرتهم الإيمانية الفاحصة يدركون قيمة ميراث الأبناء من بعد، وخطورة المادة حين يقوى جانبها ويشتد، وحين يمسك الأبناء بها، وينحرفون بسببها.

فمن الناس من يورث أبناءه أموالًا طائلة، وعقاراتٍ وافرةً؛ ظنًّا منه أنه حين يفارق الحياة يفارقها وهو مطمئن عليهم من الفقر، وينسى أن البُعد عن الإيمان هو أشر المخاوف. ومن الناس من يورث أبناءه إيمانًا صادقًا، وعملًا صالحًا، وسلوكًا قويمًا، ولم يترك لهم من المال شيئًا؛ فإذا بثروة الإيمان والعمل الصالح تجعلهم أغنياء فى الدنيا وفى الآخرة.

ها هو ذا نموذج من السلف الصالح؛ إنه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه، لقد قال له مسلمة بن عبد الله عند مرض موته: يا عمر، لقد تركتَ أولئك لا شىء عندهم، فيصبحون فقراء، وما كان هذا يصح منك يا عمر. فردَّ عليه قائلًا: واللهِ ما منعتهم حقًّا هو لهم، فبَنِىَّ أحدُ رجلينِ: إما رجل يتقى الله، فسيجعل الله له من كل ضيق مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب. وإما رجل مكبٌّ على المعاصى، فإنى لم أكن لأقويه على معصية الله.

إن الإسلام دعوة إلهية لسعادة البشر دنيا وأخرى، وفى قوانينه الرشيدة أمان للنفس والمال والعرض، وفى ظل تعاليمه السمحة المضيئة تشرق حياة الناس بالخير والرشد والحق والسعادة، والله هو الهادى إلى سواء السبيل.

 

 

 

(1)  البخارى 7374

(2)   البخارى 1160

(3)  مسلم 6955 .

(4)  البخارى 39 .

(5)  مسلم 43

(6)  البخارى 1158 ، ومسلم 1867 . 

(7)  مسلم 1457 .

(8)  مسند أحمد 11456 . 

(9)  مسند أحمد 11736. 

(10)  البخارى 4257 . 

(11)  البخارى 3484 ، وأحمد 337 . 

(12)  البخارى 710 ، مسلم 1068 ، سنن أبى داود 790

(13)  مسلم 3469 ، أحمد 13738 . 

(14)  مسلم 6955 .

(15)  مسلم 7142

(16)  البخارى 2005 . 

(17)  مسلم 3469

(18)  مسلم 6568

(19)  البخارى 2115 .

(20)  البخارى 2116

(21)  أحمد 4840 .

(22)  أبو داود 3054 . 

(23)  ابن ماجه 4244.

العودة لصفحة المؤتمر