جهود أهل العلم فى خدمة السنة النبوية

 

د. أسامة السيد الأزهرى

مدرس الحديث بكلية أصول الدين - الزقازيق

  العودة لصفحة المؤتمر 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد: 

فإنى أرحب بحضراتكم فى رحاب الجامع الأزهر الشريف، فى رحاب مصر الطاهرة، وأخص بالترحيب أستاذنا وشيخنا ومعلمنا ومربينا الذى طال عهدى به منذ خمس سنوات، والذى طوق عنقى بفضله العلامة المحدث النحوى الفقيه الورع الذى عرفته، فغمرنى بفضله، والله على ذلك من الشاهدين، والحر من حفظ من وداد لحظة وإفادة لفظة: العلامة الأستاذ الدكتور أحمد محرم، متعه الله تعالى بالصحة والعافية، ونضر الله تعالى وجهه، وبلغه فى رضاه أمله.

ثم إنى أقول بعد ذلك كلمتى إليكم بعنوان: جهود أهل العلم فى نشر كتب السنة النبوية، وبعد حمد الله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقول: 

إن نشر الكتب والأصول الحديثية المسندة وإخراج الكتب المتعلقة بالفنون الحديثية خصوصًا، أو لسائر الفنون العلمية عمومًا - أمر فى غاية الأهمية والخطورة، إذ هو الجذر والأساس الذى تنبنى عليه الحركة العلمية بكل صورها ومناحيها، نقلاً وتأليفًا وتدريسًا وفكرًا وتعليلاً واستخراجًا وتطبيقًا، فإذا بنيت الصور المذكورة على أصل صحيح، وانطلقت بنص معتمد موثق، آذن ذلك بإمكان استوائها على سوقها وتحصيل ثمارها وأغراضها العلمية المرجوة. 

أما إذا ما جاء نص الكتاب مضطربًا مشوشًا مصحفًا، فإنه تضطرب باضطراب ذلك كافة صور الحركة العلمية المتعاقبة، والمبنية على صحة النص، من القراءة فيه أو النقل منه، أو تدريس نصوصه ومقاطعه، أو التأمل فيما يطرحه مؤلفه من رؤى وأفكار وتقريرات علمية. ولأبى عثمان عمرو بن بحر الجاحظ - رحمه الله تعالى - عبارة فى هذا المعنى، فى غاية من اللطف والألق والإبانة، فقد قال - رحمه الله - فى كتاب الحيوان حول مشقة تصحيح الكتاب: ولربما أراد مؤلف الكتاب أن يصلح تصحيفًا أو كلمة ساقطة فيكون إنشاء عشر ورقات من حر اللفظ وشريف المعانى أيسر عليه من إتمام ذلك النقص حتى يرده إلى موضعه من اتصال الكلام، إلى أن قال: ثم يصير هذا الكتاب بعد ذلك نسخة لإنسان آخر، فيسير فيه الوراق الثانى سيرة الوراق الأول، ولا يزال الكتاب تتداوله الأيدى الجانية، والأغراض المفسدة حتى يصير غلطًا صِرفًا وكذبًا مصمتًا. انتهى كلامه. 

قلت: فصار نشر الكتاب وتصحيحه وضبط نصوصه وأنقاله وعباراته من أجلِّ المطالب التى ينبغى الاعتناء بها عند أهل العلم عمومًا، وعند أهل الحديث خصوصًا، وكيف لا وأصحاب الحديث هم الذين قامت علومهم على تحرير النقل وتصحيحه وضبط مخارجه والتوثق من طرائق أدائه. 

ولقد انتبه المحدثون إلى هذا الأصل، فأنشئوا علمًا كاملاً وبابًا مختصًا من أبواب علوم الحديث، ربما عبر عليه الدارسون ومضوا دون التفات إلى ما هو كامن وراءه من نظرية حديثية كاملة، ألا وهو باب كتابة الحديث وضبطه، حتى تكلموا فيه على ما يجب على الكاتب من ضبطه وتحقيقه ونقطه وشكله، وضبط الملتبس من الأعلام، وتكلموا على تحقيق الخط، وكراهية تدقيقه دون عذر، وكيفية ضبط الحروف المهملة برموز، وعدم جواز اصطلاحه على رموز لا يعرفها الناس، وإن فعل فليبين اصطلاحه، وتكلموا على ضبط الروايات وكيفية إيراد الزيادات، وتكلموا على آداب اللحق والحواشى، وهل يمكن التمييز بحمرة، وعن كيفية الفصل بين النصوص بدوائر، حتى يتبين مقدار النصوص المنقولة، ثم تكلموا على مقابلة الكتاب بأصل وآداب المقابلة، وتكلموا على كيفية تخريج الساقط أو اللحق، وفى أى موضع من هوامش الكتاب يورد، وتكلموا على التصحيح والتضبيب والتمريض إلى غير ذلك من الآداب العجيبة، التى بلغت المنتهى فى إخراج نسخة مصححة وموثوقة من نص الكتاب. 

حتى صار ذلك الباب من أبواب علوم الحديث هو الأساس الذى نما وتبلور ونضج واتسع واستقر عند أهل العلم باسم آخر مغاير تمامًا، وهو علم تحقيق المخطوطات. 

والذى يطالع باهتمام وتأمل باب كتابة الحديث وضبطه فى كتب علوم الاصطلاح ويطابقه بكتاب معتبر فى قواعد علم تحقيق المخطوطات - يجد أنه هو هو، مع زيادات وبسط فى بعض البحوث أوجبها تراكم المعارف البشرية عبر الزمان، وكان ممن طابق وقارن العلامة المحدث الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله تعالى - فى تقدمته النفيسة على سنن الإمام أبى عيسى الترمذى رحمه الله، فقد أطال النفس فى الكلام على قواعد تصحيح النصوص ونشرها، وقال: لم يكن هؤلاء الأجانب مبتكرى قواعد التصحيح، وإنما سبقهم إليها علماء الإسلام المتقدمون، وكتبوا فيها فصولا نفيسة، على أن يذكر القارئ أنهم ابتكروا هذه القواعد لتصحيح الكتب المخطوطة؛ إذ لم تكن المطابع وجدت ولو كانت لديهم لأتوا من ذلك بالعجب العجاب. ثم نقل - رحمه الله - الفصل الذى دبجته يراعة الحافظ أبى عمرو بن الصلاح فى تصحيح النسخ الحديثية بطوله، ثم عقب قائلًا: وهذه القواعد التى ذكرها ابن الصلاح يصلح أكثرها فى تصحيح الكتب المطبوعة، وهى كلها إرشاد للمصحح عند النقل من الكتب المخطوطة، حتى يعرف قيمة الأصول التى يطبع عنها. انتهى كلامه. 

قلت: والحاصل أنه من الفنون العريقة الضاربة بجذورها فى عقلية المحدثين قضية العناية بتصحيح الأصول والكتب والنسخ الحديثية والتدقيق الزائد فى ضبطها، وإتقان نصوصها وأن المقابل المعاصر والمعادل الموضوعى لباب النسخ الحديثية هو نشر كتب السنة وضبطها. 

وأن المحدثين المعنيين بنشر كتب السنة قد استصحبوا مجموعة الضوابط القديمة التى راعاها الأقدمون فى النسخ الحديثية وفى كتابة الحديث وضبطه، بحيث إن الحفاظ الكبار من أهل القرن الرابع والخامس والسادس والسابع لو كانوا فى زماننا هذا وقد انتشرت المطابع لكانوا على رأس المحققين، ولأبدعوا قواعد نشر الكتب وضبطها وتداولها صحيحة متقنة مطابقة لمراد المؤلف. هذه قضية. 

والقضية الأخرى، أنه على ضوء ما سبق، فإنه مما ينبغى التقعيد والتقرير له والإبانة عنه من قواعد التعامل مع الكتب - أن قيمة الكتب تابعة لقيمة ناشريها، ولقد ظفرت بهذه العبارة المهمة عند رجل خَبر النشر وعاناه وأنفق فيه عمره، وهو الشيخ محمد منير عبده أغا الدمشقى، فقد قال فى كتابه المهم: نموذج من الأعمال الخيرية فى إدارة الطباعة المنيرية، قال: وأما الكتب العلمية فيختلف تصحيحها باختلاف مطابعها ومكانة ناشريها العلمية. انتهى كلامه. 

قلت: فكلما زاد قيمة الناشر، وكان عالى الكعب فى العلم، أريبًا صاحب مقدرة وبراعة فى الضبط والتحرى والتدقيق ارتفعت بذلك قيمة ما يكتبه وما ينشره ويحققه. يأتى هذا فى ظل فوضى عارمة قد طرقت باب نشر الكتب، وطرقت دورًا كبرى للنشر تطلب الربح وتعجلت إخراج الكتب، وعهدت بها إلى من لا علم له ولا خبرة ولا صبر، فشهدنا طوفانًا من الكتب المصحفة المحرفة المضطربة الضبط التى بترت أطرافها بالأسقاط التى تبلغ صفحات أحيانًا، مما يؤثر بلا شك على النقل منها، بل على سائر مراتب الحركة العلمية قراءة وحفظًا وتفكرًا كما قدمت. 

وقد ذكرنى هذا بعبارة أخرى مهمة للشيخ محمد منير الدمشقى، يعدد فيها أنماط الناشرين، ويشير إلى قلة المصححين الموصوفين بالإتقان، قال رحمه الله: وأما الكتب التى تطبع - ومؤلفوها أموات من سنين أو قرون - بإدارة طابعيها والمنفقين عليها، فتختلف أيضًا باختلاف مكانتهم، فتارة يكون المنفق عليها والطابع لها من الأميين، فَيُكِل الأمر إلى عمال المطبعة، أو أحد المعممين ممن لا علم عندهم، فهذه لا يُسأل عن درجة تصحيحها، وما لحقها من التغيير والتحريف والتبديل والتصحيف. وتارة يكون من المتعلمين المتمرسين فى فنون العلم وصناعة الطباعة، فيختار لها مصححًا ممن ينتسب إلى العلم فى الجملة، ويكون قبل ذلك تمرن على صناعة التصحيح المطبعى، فهذه طبعًا يكون فسادها أقل من فساد الأولى بكثير. وتارة يكون من المتعلمين العالمين إلا أنه ليس اختصاصيًا بالعلوم أو فنون الطباعة، فهذه الكتب تمتاز عن غيرها بالمحافظة على أصولها مع تقليد لمؤلفها أو ناسخ أصلها، أو مصحح نسخها الأصلية بدون أن تراجع على أصول متعددة أو روجعت على أصول ولم تراجع على محال مظانها فى كتب أخرى، إذا احتاج الأمر إلى ذلك. إلى أن قال: وكأنى بالصائحين يصيحون ما هذه المبالغة فى نفى طرق التصحيح حقيقة ووجود مصححين كما ينبغى ويجب. فأقول نعم يوجد فى العالم أفراد يسمون بالمصححين حقيقة علمًا وعملا، إلا أن العثور عليهم أو الاتفاق معهم يعسر جدًّا أو يتعذر. انتهى كلامه. 

قلت: فيستفاد من عبارته تجريد مجموع الشروط التى لا بد من توفرها فى الناشر، وهى أن يكون متعلمًا عالمًا بفنون العلم، خبيرًا بصناعة الطباعة، اختصاصيًّا فى العلوم التى ينشر كتبها، بصيرًا بأصول صنعة المقابلة والضبط المحرر للنص، إلى غير ذلك من الضوابط. 

ومن أجلِّ السادة المحدثين الناشرين الذين تحققوا بتلك الشروط على نحو فائق، وبرزت جهودهم فى النشر وفق خطط علمية فى الغاية العليا من الجودة والدقة والانضباط، السادة الأعلام: 

* العلامة المحدث الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمى اليمانى، وفى شريف علمكم تصحيحه للجرح والتعديل لابن أبى حاتم والأنساب للسمعانى، والإكمال للأمير أبى نصر ابن ماكولا. 

* والعلامة المحدث الشيخ أحمد محمد شاكر، ويكفيه القدر الذى أخرجه من مسند الإمام أحمد وسنن الإمام أبى عيسى الترمذى.

* شقيقه العلامة المحقق البليغ الشيخ محمود محمد شاكر - رحمه الله -. 

* العلامة الشيخ عبد العزيز الميمنى الراجكوتى.

* العلامة الشيخ عبد السلام هارون.

* العلامة السيد أحمد صقر.

* العلامة السيد عبد الله بن صديق الغمارى.

* العلامة الشيخ محمد محيى الدين عبد الحميد.

* العلامة المحدث الشيخ عبد الفتاح أبو غدة.

* العلامة المحدث محمد محمد عوامة، ويكفيه خدمته لمصنف ابن أبى شيبة، وقد أقام فى خدمته ست عشرة سنة.

فضلا عن أعيان الناشرين الذين منهم: محمد أمين الخانجى، وحسام الدين القدسى، وغيرهم كثير ممن رصدهم وتتبعهم العلامة الدكتور محمود محمد الطناحى فى كتابه القيم (مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربى)، وللدكتور السعيد داود كتاب مهم أيضًا عنوانه (النشر العائلى فى مصر دراسة تأصيلية) تتبع فيه العائلات الكبرى التى اشتهرت بالنشر فى مصر، فأتى فيه بفوائد مهمة لمن يعتنى بهذا الشأن. 

فكان من المهمات العلمية الجليلة ومن المطالب الدقيقة النبيلة - أن نعتنى بالرصد والتتبع والإلمام والدراسة لأحوال المحدثين المعاصرين الذين اجتهدوا فى نشر الكتب، وكيف نهضوا بأعباء هذا الفن وقاموا بنشر الكتب على أصول بالغة التدقيق والمنهجية، وبذلوا فى سبيل ذلك النفس والنفيس، واحتشدوا لذلك احتشادًا. فضلا عن أن هذا الإجراء سيدفعنا حتمًا إلى إخراج عدة تآليف فى تراجم المحققين المحدثين المعاصرين، وإحصاء ما أخرجوه من الكتب، وقد سبق إلى الكتابة فى هذا الباب الدكتور السيد الجميلى، فقد كتب عدة مقالات فى مجلة الأزهر بعنوان (طبقات المحققين)، كما نشروا فى الهيئة المصرية للكتاب كتابًا مهمًّا عنوانه (شوامخ المحققين)، طبع فى جزأين. 

ثم ينبغى أن نستخلص من ذلك كله كتابًا فى أعيان المحققين من المحدثين، ونعكف على النظر فى مناهجهم، بحيث يمكن أن نستخلص من مجموع تقدماتهم للكتب ووصفهم للمناهج والخطط التى التزموها فى النشر - ما يعد تذييلا وتتمة لباب كتابة الحديث ونشره، ويمكن أن يتم إلحاق هذا الباب بالتآليف الجديدة من كتب علوم الحديث، حتى نخطو خطوة فى إعداد جيل من المحدثين القائمين على النشر، وفق أصول معتبرة، وأن يكون هذا الإجراء خطوة فى باب تمديد علوم الحديث والزيادة إليها.

وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.