تص كلمة أ.د خالد بن مرغوب

أستاذ مشارك فى الحديث وعلومه بكلية الحديث الشريف

بالجامعة الإسلامية  - المدينة النورة

" الجهود المبذولة لتحقيق موطأ الإمام مالك رواية يحيى الليثى

وحاجته إلى المزيد منها "

العودة لصفحة المؤتمر

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حق حمده، نحمده سبحانه حمدًا لا منتهى لعدده، وأشهد بتوحيده، شهادة مخلص فى معتقده، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، النبى الصادق فى وعده، الذى نبع الماء من بين أصابع يده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، رفقائه فى شدائده، ومن تبعه من بعده، ووافقه فى قوله وفعله وعقده، جعلنى الله وإياكم منهم بفضله وجوده، أما بعد:

مشايخى وإخوانى، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وقع اختيارى على هذا الموضوع ضمن هذا العنوان الجميل : السنة النبوية بين الواقع والمأمول. لأمور سأجملها فى ختام عرضى السريع لهذا البحث، إلا أنى أبدأ: أن هذا الاهتمام بهذا الكتاب وبمؤلفه لكثرة شروحه ولتعاقب الأمة بعد زمن الإمام مالك إلى زمننا هذا على الاهتمام به، وكأنه معين لذة للشاربين، ولما فيه من فوائد عظيمة وعبر كثيرة.

ولا شك أن كتابًا كالموطأ لا بد أن يكون قد تناوله العلماء قديمًا وحديثًا بالشرح والتعريف والدراسة، وحظى بدراسات واسعة تعرضت لمنهجه، فمن العجيب أن الباحثين قد يقولون فى بداية بحوثهم إننا واجهنا صعوبة لقلة المصادر، إلا أنى وجدت عكس ذلك، فقد وجدت صعوبة لكثرة المصادر وكثرة المعلومات التى تتدفق ولا يمكن حصرها فكلما وقعت العين على شيء منها لا يسع الإنسان إلا أن يقول إنها تستحق أن تسطر ولا غنى عن أن تدون. لكن هذا سيجعل البحث كبيرًا ويخرج عن المقصود منه، فقطفت من كل بستان زهرة، وتركت زهورًا كثيرة.

وكان هذا البحث على تمهيد عن الإمام مالك رحمه الله، واشتمل هذا التمهيد على عدة مباحث وصلت إلى أكثر من عشرة مباحث أولها عن الإمام مالك اسمه وأسرته ونسبه، فالإمام مالك بن أنس رحمه الله هو أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحى، وأصبح بطن من حمير، وهو من أسرة علمية أسرة مباركة، أمه العالية الأزدية تعممه وهو صبى صغير، وتقول له : اذهب إلى ربيعة وتعلم من أدبه قبل علمه. وأبوه يغضب منه حين يراه يغلط فى مسألة يصيب فيها أخوه ويغلط الإمام مالك، فقال له أبوه: ألهتك الحمام عن طلب العلم. فينقطع متأثرًا بكلام أبيه إلى شيخه ابن هرمز سبع سنين لا يخلطه بغيره حتى يصير متقنا للعلم.

وكذلك ورَّث هذا الاهتمام بالعلم لأسرته فالإمام مالك رحمه الله له أربعة من الأولاد وقد ورثهم أيضًا هذا الأمر على اعتدال، الاعتدال فى الإسلام وعلى ضوء السنة.

فالإمام مالك رحمه الله كان عنده من أبنائه يحيى، وهو يروى عنه الموطأ، ولكن مع هذا لما كبر انشغل بالدنيا وانشغل باللهو المباح، فكان الإمام مالك لا يمنعه عن مقاصده، ويراه يدخل ويخرج والطلبة والمشايخ وأهل العلم جالسون يقرءون على الإمام مالك كتابه، وأما ابنه فاكتفى بما حصل ولم يستمر، وأما بنته فاطمة فإنها تبقى منصتة خلف الباب فإذا وقع شىء من القارئ دقت الباب وطرقت حتى ينتبه إليه الإمام مالك رحمه الله، فيفطن الإمام ويرد على هذا القارئ، ويقول : إن مما يهون علىَّ أن هذا الأمر لا يورث. ولم نر عالمًا كان أبناؤه من أهل العلم إلا القاسم بن محمد بن أبى بكر.

فهذا الأمر يدل على أن الإمام مالك رحمه الله لم يكن يشدد على أبنائه، فإذا كانوا ممن يحب أن يدرس العلم الشرعى فلا بأس فهذا أحسن وأحسن، نور على نور، وإن لم يكن ذلك فعلى الأب أن يعطيهم الأساسيات ثم يدعه للتخصص والميول التى يحبها.

وهنا إشكال، وهو أنه كيف يحصل مثل هذا الغلط فى مجلس الإمام مالك ولا يُرَدُّ عليه حتى ترد عليه بنته، ويظهر لى فى ذلك ثلاثة توجيهات:

1 - ربما يكون هذا حادثًا شاذًا لا يؤثر، فالذهول ليس من عادة أمثال الإمام مالك، ولكنه من شأن البشر عامة، يحصل نادرًا.

2 - أو أن هذا غلط يسير فى أمر تكميلى ربما لا يتعلق بالحديث إلا كلحن خفى فى القراءة، فيسكت عنه الإمام فلما تنبهه بنته فإنه يحب أن يكون القارئ على القراءة الأكمل والأفضل.

3 - أو لعل الخطأ حصل من جهة أن القارئ قرأ من رواية قديمة، وقد حذف الإمام مالك رحمه الله هذا الذى يقرؤه فى الروايات المتأخرة، ولما كان هذا الحديث الذى يقرؤه أو المسألة التى يقرؤها هى من كلام الإمام مالك ومن مروياته لم يرد عليه. فتفطن بنته إلى أنه مما رجع عنه الإمام وحذفه فى الروايات القريبة، فتنبهه إلى ذلك . والله أعلم.

وفى ترجمة الإمام مالك رحمه الله تسلسل المباحث من مولده رحمه الله ، والصحيح أنه ولد سنة 93 للهجرة إلى نشأته وإلى شيوخه وتلاميذه وقد حدث وأخذ العلم عن أكثر من تسع مئة شيخ. ثم تسلسل المباحث إلى ثناء العلماء عليه ومكانته بين أهل العلم، ولا بد أن يذكر فى ذلك كلمة الإمام الشافعى رحمه الله : إذا ذكر العلماء فمالك النجم. إلى غير هذا من الكلمات العظيمة فى الثناء عليه رحمه الله.

ثم من المباحث الواردة فى البحث توقيره لحديث النبى صلى الله عليه وسلم من جملة صفاته ، هناك مبحث يتحدث عن صفات الإمام مالك ومن جملتها أدبه وتوقيره لحديث النبى صلى الله عليه وسلم، كان مالك رحمه الله إذا أراد أن يحدث توضأ وسرح لحيته وتمكن فى جلوسه بوقار وهيبة، ثم حدَّث فقيل له فى ذلك فقال : أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

وكان رحمه الله من أحسن الناس خلقًا مع أهله وولده، ويقول : فى ذلك مرضاة لربك، ومثراة فى مالك، ومنسأة فى أجلك. قال ابن وهب: تعلمنا من أدب مالك أكثر مما تعلمنا من علمه. وكان لا يركب فى المدينة مع عجزه وكبر سنه، يقول : لا أركب فى أرض فيها جسد النبى صلى الله عليه وسلم. من شدة أدبه مع النبى صلى الله عليه وسلم، وتوفى الإمام مالك رحمه الله عن مئة وتسعة وسبعين وعمره ست وثمانون سنة على القول الأرجح.

والفصل الأول من البحث فى تعريف الموطأ، ويشتمل على عدة مباحث منها:

مكانة الموطأ وموقعه بين الكتب، وفى ذلك كلمة الإمام الشافعى أيضًا : ما فى الأرض كتاب أصح من موطأ مالك. وقد حمله الكثيرون على أنه قبل ظهور الصحيحين، ولكن الإمام ولى الله الدهلوى وجماعة ممن سبقوه يرون هذا الرأى، وهناك رأى آخر أنه مساو للصحيحين وما اعترض به من جهة أنه يوجد به بلاغات ومراسيل، فإن البلاغات والمراسيل لم يذكرها الإمام مالك من باب الاحتجاج وإنما ذكرها للفائدة، وتشبه فى ذلك المعلقات عند الإمام البخارى. والله أعلم.

وهناك مبحث يتحدث عن جمع الإمام مالك فى الموطأ بين الفقه والحديث، ولا ريب أن الموطأ كتاب أساس، وأصل فى الحديث والفقه معا، وأنه كتاب من أقدم كتب الحديث وأقدم ما نتداوله من كتب الفقه. ثم هناك كلام عن مزايا الموطأ إلى غير ذلك مما يتعلق بتعريف الكتاب.

الفصل الثانى يتعلق بروايات الموطأ، ومن المعلوم عند مشايخنا وعلمائنا أن الموطأ قد رواه عن الإمام مالك كثيرون، واشتهر من بين تلك الروايات أربع عشرة نسخة متقاربة فيما بينها من جهة مراتب الصحة والمرويات ولكن بينها اختلاف فى التقديم والتأخير وحذف الأحاديث فيما بينها، فبعضها أقل من بعض.

وأشهرها رواية يحيى بن يحيى الليثى والقعنبى ومحمد بن الحسن الشيبانى وأبى مصعب الزهرى، وقد ذكرت فى أصل البحث مزايا كل رواية من هذه الروايات الأربع وما انتقد على بعضها.

وأخلص من باب الاختصار إلى المقصود وهو الكلام على رواية يحيى الليثى، وأقول إن هذه الرواية هى آخر الروايات عن الإمام مالك رحمه الله، ولذا وقع الاعتماد عليها ورزقت القبول، وشرحت وتسلسلت بالرواية أيضًا إلى زماننا، فأسمعها العلماء لتلاميذهم وتداولوها بالشرح وربما يكون ذلك لإخلاص الإمام يحيى الليثى، وربما يكون لأنه لم يخلط بمالك غيره، وربما لأنه كان فى الأندلس ولم يكن بذلك الصقع غيره من الرواة عن الإمام مالك، أو غير ذلك والله أعلم.

وطبع الموطأ طبعات كثيرة، منها طبعة دهلى بالهند سنة 1216 ، وهذه الطبعة من أقدم الطبعات، ثم طبعت بمطبعة مصطفى البابى الحلبى بمصر سنة 1339، وغيرها من الطبعات الكثيرة، لكن من أشهر الطبعات طبعة الشيخ محمد فؤاد عبد الباقى رحمه الله، وطبعة محمد مصطفى الأعظمى، وطبعة شيخنا بشار عواد حفظه الله.

حصل فى بعض هذه الطبعات تلفيق بين روايتين لرواية يحيى الليثى رحمه الله، فيحيى الليثى أخذ عنه ابنه عبيد الله وابن وضاح. وكانت هناك أخطاء من يحيى فى بضعة وثلاثين موضعا، وقال بعضهم بل هى ثلاث مئة موضع، وهذه الأخطاء لم تكن فى أصل موطأ الإمام مالك، وأصلح ابن وضاح تلك الأخطاء، وحافظ عبيد الله بن يحيى على النسخة كما هى، فلما جاء زمن الطباعة لفق بين الروايتين عند الطبع، وحصل هذا فى عدد من الطبعات، وهى سلبية؛ لأنه ينبغى أن تطبع رواية يحيى كما هى بأخطائها ويعلق فى الحاشية أنه هذا كان من أخطاء يحيى، أو خالفه فيه بقية الرواة عن الإمام مالك، وقد تلافى فضيلة الدكتور بشار حفظه الله هذه السلبية فى طبعته، وهناك من الأمور التى ينبغى أن تلاحظ أنه توجد نسخ كثيرة وقد نصصت على عدد من هذه النسخ الخطية النفيسة بكتاب الإمام مالك رحمه الله من رواية يحيى الليثى ينبغى أن يرجع إليها ومنها نسخة ابن الطلاع وهو المتوفى 497 هـ، وهناك نسخة دار الكتب المصرية وغيرها نسخ نفيسة وعظيمة، فلو أن الكتاب أعيد طبعه ملاحظا فيه هذه النسخ، وقد سألت فضيلة الدكتور أحمد معبد منذ سنتين عن ذلك، فقال إنه يحقق فى المكنز على نسخ كثيرة، ولكن لا أعرف عما صدر فى ذلك.

والنسخة الموجودة من المكنز قد قارنتها كاملة بنسخة الأعظمى ونسخة بشار، ودونت بعض الفروقات، ولكن لا يسع المقام ذكرها. إلا أنى أقول إن نسخة الدكتور بشار نسخة رائعة لولا أنه ينقصها التشكيل فى كثير من المواضع أو يقع فيها التشكيل بما هو مرجوح، ونحن ننتظر نسخة المكنز حتى تكون مثلجة لصدور طلب العلم قائمة بفرض الكفاية فى هذا الباب العظيم.

البحث فيه طول ولكن أريد أن أقف فى نهاية كلمتى عند عنوان المؤتمر: السنة النبوية بين الواقع والمأمول. ففى البدء فى ترجمة الإمام مالك نجد الواقع أحيانًا أن طالب العلم والمشتغل به ينشغل بالعلم عن أهله، ونرى الإمام مالك رحمه الله يعطى الأمرين حقهما، فينشغل بأهله ويحسن معاملتهم، وإذا خرج من بيته فهو أيضًا يعطى العلم حقه ولا ينشغل عنه.

وأيضًا نرى فى أنفسنا نحن طلبة العلم أننا ننشغل بالعلم، وننسى التخلق العملى به، بينما نرى عند الإمام مالك العبادة والتقوى وتوقير العلم، وحينما ننظر إلى الفصل الأول: التعريف بالموطأ. فإننا نرى فى الواقع تخبطًا كثيرًا فى المنهج العلمى، وسطحية وضعفًا فى الهمة، والمأمول أن نرجع إلى الأصول ومنها الموطأ، والمأمول أيضًا أن نستفيد من الموطأ لنعتدل فى التعامل مع أقوال العلماء، فكثير من طلبة العلم صار يعرض عن أقوال العلماء، ويزعم أنه يستطيع المعرفة الكاملة للسنة وللدين من خلال نظره فقط دون الرجوع للعلماء، ومنا من يتعصب ولا يحب أن يرجع إلى الأقدم، يتعصب للمتون فقط، ولا يرجع إلى أقوال الصحابة والتابعين وهذا كله من الآفات التى يحترز منها من يجعل الموطأ نصب عينيه، ويجعله سبيلاً لرقيه فى العلم؛ إذ جمع الموطأ بين الحديث والفقه فى آن واحد.

أرى أيضًا أن يجعل الموطأ أصلاً فى التعلم من جهة الفقه والحديث ومن جهة السند والمتن، فيلاحظ قارئه إضافات الكتب الستة على أحاديث الإمام مالك وصلاً لمراسيله وزيادة فى ألفاظه. وكذلك أقترح تبعًا للشيخ ولى الله الدهلوى أن تنظر تعقبات الأئمة للإمام مالك فى مسائله، فكم من تعقب للإمام الشافعى والإمام محمد بن الحسن، حتى الإمام أحمد وإن كان بغير تصريح منه فله تعقبات على مسائل سئل عنها الإمام فأجاب بشيء وسئل عنها نفسها الإمام أحمد بن حنبل فأجاب بشيء آخر، فهذه التعقبات لو جمعها طلبة العلم لكان أعظم سبيل للتفقه وطريقًا للتفقه ليس له نظير.

وفى الفصل الأخير شروح الموطأ، وفى الواقع قد يحضر طالب العلم شرحًا يغلب عليه الوعظ، أو شرحًا يغلب عليه الفقه، وشداة العلم قد يقرءون شرحًا علميًا لأحد المشايخ، وهذا كله خير، ولكن المأمول أن تكون قراءة الشرح الواحد من أوله إلى آخره، ثم يقارن هذا الشرح بالشروح الأخرى، وتضاف فوائدها على هذا الشرح الأصلى، وأقترح أن يكون الزرقانى هو الأصل، وتضاف إليه الفوائد من ابن عبد البر وابن العربى والباجى وأوجز المسالك لشيخ شيوخنا الكندهلوى.

وأخيرًا أختم بسؤال الله تعالى أن يجعلنى وإياكم مباركين أينما كنتم وكنا، وأشكر مشايخى الذين يتحملون سماع كلمتى وقد كنت محتارا كيف أتكلم فى حضرتهم، ولكن عذرنى امتثال الأمر، ومن جهة أخرى أنى أدخل السرور على شيوخي؛ لأن حال الكبار مع الصغار أنهم يفرحون بصغارهم إذا تمتموا وتفأفئوا، حتى إذا تكلموا بشيء لا يعجبهم ولكنه يكون تغريدا بالنسبة لهم إذا كان فى دائرة المقبول عندهم.

وأسأل الله تعالى لى ولكم القبول ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.

 العودة لصفحة المؤتمر