" مجالات الاستفادة من التقنية فى معرفة الصناعة الحديثية
من خلال موسوعة الحديث الشريف "
د. عبد الله بن محمد حسن دمفو
الأستاذ المشارك ورئيس قسم الدراسات الإسلامية
جامعة طيبة - المدينة المنورة
العودة لصفحة المؤتمر
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فمنذ أن بدأت خدمة التقنية الحديثة للعلوم الإسلامية، وبخاصة علم " السنة النبوية "، وذلك عام 1982 م، وجهود الشركات التجارية التى أنتجت برامج حاسوبية فى السنة النبوية تتركَّز فى الوصول إلى هدفين أساسين، هما:
1- الوصول إلى مظنة الحديث أو الأثر أو العَلَم، ولذلك بنَتْ برامجها على آلاف المصادر والمراجع، وكان ذلك على حساب الاهتمام بدقائق العِلْم كالصناعة الحديثية، مثل إصدارات مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلى " الجامع الكبير " .
2- التركيز على قضايا العِلْم الدقيقة كالتعريف برواة الحديث وبيان حالهم جرحًا وتعديلا، وبيان روايات وطرق الحديث ورسم شجرة الأسانيد، والتخريج بناءً على مداخل متعددة مثل: رقم الحديث، أو أى راوٍ فى الإسناد، أو البحث الصرفى للكلمة، وكان ذلك على حساب عدد المصادر والمراجع التى بَنَتْها عليها، فلم تتجاوز عشرين مصدرًا، وذلك مثل برنامج شركة حرف " موسوعة الحديث الشريف " .
وقد لاحظتُ أن معظم المتعاملين مع هذه التقنية يركِّزون فى الاستفادة منها على الهدف الأول (الوصول إلى مظنَّة المعلومة)، وأغفلوا – فى الغالب – الاستفادة من الهدف الثانى (الصناعة الحديثية)، ولذلك تجد أن البرامج التقنية التى يستخدمها الباحثون وطلاب العِلْم الآن هى " الجامع الكبير "، "المكتبة الشاملة"، فى حين أن القلة منهم يستخدمون برنامج " موسوعة الحديث الشريف " .
كما تبيَّن لى - بعد ممارسة طويلة لهذه الموسوعة - أن التقنية يمكن أن تسهم بدور بارز فى التوصل إلى فوائد عديدة فى مجالات الصناعة الحديثية .
فأردت أن أشارك ببحث علمى يجلِّى جوانب عديدة فى هذا الموضوع، تتكون خطته من مقدمة، وتمهيد، وستة مباحث، وخاتمة:
المقدمة: وتضمنت أسباب اختيار الموضوع وأهميته .
التمهيد: ويتكون من مطلبين:
المطلب الأول: نشأة التقنية الحديثة وخدمتها للعلوم الإسلامية بصفة عامة، وللسنة النبوية بصفة خاصة.
المطلب الثانى: تعريف موجز ببرنامج " موسوعة الحديث الشريف " .
مجالات الاستفادة من برنامج "موسوعة الحديث الشريف" فى الصناعة الحديثية:
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: الكشف عن طريقتين فى التخريج لم تكونا معروفتين من قَبْل .
المبحث الثانى: الحكم على إسناد الحديث من خلال الألوان .
المبحث الثالث: محاكمة القواعد التى استقرت فى العلم، والتأكد من صحتها .
المبحث الرابع: معرفة مناهج الأئمة فى كتبهم .
المبحث الخامس: دفع العلل التى يمكن أن ترِد فى الإسناد .
الخاتمة: وتضمنت أبرز نتائج البحث .
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
تمهيد
المطلب الأول: نشأة التقنية الحديثة وخدمتها للعلوم الإسلامية، وللسنة النبوية:
كانت بداية اختراع الحاسوب فى الأربعينات من القرن الماضى الميلادى، وكان حجمه ضخمًا للغاية، ولم يكن أكثر من مجرد آلة حاسبة عملاقة مخصصة لحساب الأرقام، ولم يكن بالإمكان تطويره أكثر من ذلك، وكان ذلك عام 1945 م وكان يسمى (إنياك ENIAC) اختصارًا لمصطلح: (Electronic Numerical Integrator And Computer)
وكان يحتوى على قرابة (17.500) صمامة هوائية، ويبلغ وزنه أكثر من (30) طنًا، ويحتل مساحة (1500) متر مربع.



وفى عام 1951م اخترع الحاسب الآلى (UNIVAC1) اختصارًا من:
(Universal Automatic Computer)



وفى السبعينات اكتشفت الدوائر الكهربائية المعروفة بـ (الترانزستور)


التى أدت إلى اختراع الإلكترونيات الدقيقة (Microelectronics)، التى أسهمت فى ظهور الحاسبات المصغرة المكتبية أو المحمولة أو الكَفِّية .
خدمة التقنية الحديثة للعلوم الإسلامية:
بدأت هذه الجهود فى بداية القرن الخامس عشر الهجرى، حين أنشأت جامعة أم القرى قسمًا خاصًا للعمل فى إنتاج برمجيات الحديث النبوى الشريف، كما أنشأت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بالتعاون مع وزارة الشئون الإسلامية مركز خدمة السنة النبوية، وكذلك جامعة قطر قسمًا مماثلا، إلا أنها لم تظهر لنا من إنتاجها التقنى شيئًا، وإن كانت جميع هذه المؤسسات قد استفادت من الحاسوب فى برامجها، خدمة للإنتاج الورقى الذى أنتجته، مثل الأجزاء الأولى من كتاب (إتحاف المهرة لابن حجر).
وواكب هذه الجهود المؤسسية فى ذلك الوقت جهد فردى قام به الأستاذ الدكتور / محمد مصطفى الأعظمى بجامعة الملك سعود، الذى أدخل العديد من كتب الحديث النبوى الشريف على الحاسوب، بهدف إصدار موسوعة حديثية مميزة، يعتمد فى تحقيقها وتخريج أحاديثها وفهرستها على الحاسوب، لكنه لم يخرج سوى سنن ابن ماجه فقط عام 1403هـ بهذه الطريقة؛ بسبب أن مثل هذا المشروع يحتاج إلى تمويل مالى ضخم، وفريق عمل، وإمكانات ضخمة، لا يتمكن الجهد الفردى من الوفاء بها، إضافة إلى أن التقدم التقنى وإمكانات الحاسوب فى ذلك الوقت لم يكونا مثل ما عليه الآن .
كما أسهمت الشركات التجارية فى إنتاج برامج تُعنى بخدمة السنة النبوية، وأنتجت برامج مختلفة هدفت إلى التوصل إلى مظنة وجود المعلومة، من تخريج للحديث أو الأثر، أو ترجمة للراوى أو العَلَم، أو تعريف بالكلمات الغريبة، أو بالأماكن أو البلدان، وذلك فى آلاف المصادر، لكن كان ذلك على حساب قضايا ومسائل علوم الحديث الدقيقة (الصناعة الحديثية)، ويعد من أشهر هذه البرامج وأكثرها شيوعًا بين الباحثين وطلاب العلم: الجامع الكبير، والمكتبة الشاملة .
كما أُنتجت برامج أخرى هدفت إلى التوصل إلى الصناعة الحديثية، لكن كان ذلك على حساب كثرة المصادر التى اعتمدت عليها، ويعد من أشهرها: موسوعة الحديث الشريف .
المطلب الثانى: تعريف موجز ببرنامج " موسوعة الحديث الشريف ":
فى عام 1982هـ تأسست شركة " صخر لبرامج الحاسب "، وهى أحد فروع شركة العالمية للإلكترونيات، فأنشأت عام 1985م، إدارة باسم " مركز التراث الإسلامى " بهدف إنتاج البرامج الإسلامية، ثم استقرت تسميتها بعد ذلك بــ " شركة حرف لتقنية المعلومات www.harf.com" ، وهى من أولى الشركات عملاً فى هذا المجال، إن لم تكن أولاها؛ إذ قامت بوضع المصادر الإسلامية الكبرى على وسائل إلكترونية .
وتعد برامجها من أدق البرامج الحاسوبية فى خدمة السنة والسيرة النبوية؛ حيث عنيت فى جل برامجها بالدقة، والمراجعة، والضبط بالشكل للنصوص .
ومن أهم البرامج المتعلقة بالسنة مما أنتجته هذه الشركة " موسوعة الحديث الشريف ":
وهى مكتبة شاملة لأحاديث النبى صلى الله عليه وسلم، بدأت فى إصدارها الأول تحت مظلة شركة "صخر" عام 1985 م، بكتب الحديث التسعة: صحيحى البخارى ومسلم، وسنن أبى داود، والترمذى، والنسائى، وابن ماجه، والدرامى، وموطأ الإمام مالك، ومسند الإمام أحمد بن حنبل:

ثم أصدرت الإصدار الثانى تحت مظلة شركة " حرف " عام 1988 م، وأضافت لكتب المتون المذكورة كتب الشروح الآتية:
- فتح البارى بشرح صحيح البخارى، لابن حجر العسقلانى (852 هـ) .
- المنهاج بشرح صحيح مسلم بن الحجاج، للإمام النووى (676 هـ) .
- عون المعبود بشرح سنن أبى داود، لمحمد العظيم أبادى (1329 هـ) .
- تعليقات الإمام ابن قيم الجوزية (751 هـ) على سنن أبى داود.
- تحفة الأحوذى بشرح سنن الترمذى، لمحمد المباركفورى (1353 هـ) .
- زهر الربى على المجتبى (السنن الصغرى للنسائى)، لجلال الدين السيوطى (911 هـ) .
- حاشية على سنن النسائى للإمام السندى (1138 هـ) .
- مصباح الزجاجة بشرح سنن ابن ماجه، لجلال الدين السيوطى (911 هـ) .
- المنتقى بشرح موطأ مالك، للزرقانى (1122 هـ) .
ولم يعتمد البرنامج شرحى مسند أحمد وسنن الدارمى، وذلك لعدم توفرهما، واستعاض عنهما بكتابى ابن القيم والسندى .

ويحتوى البرنامج على أكثر من 62.000 حديث شريف بالمكرر، ويناهز عدد صفحاتها نحو 25 ألف صفحة، مع شرحها من كتب الشروح المشهورة .
ثم أصدرت الشركة بعد ذلك الإصدار الثالث (الناطق)، حيث أضافت إليه ميزة سماع نص الحديث، لكنها سرعان ما سحبته من الأسواق للإشكالات العديدة التى ظهرت عليه، وأعادت نشر الإصدار الثانى مجددًا .
إيجابيات البرنامج وسلبياته:
تكفل الدكتور/ إبراهيم الريس ببيان إيجابيات البرنامج وسلبياته فى بحثه القيِّم " برنامج موسوعة الحديث الشريف – شركة حرف – عرض ونقد "، وعدد صفحاته (128) صفحة .
وقد أشار إلى إيجابياته إجمالاً فى المقدمة حيث قال: " هو من أشهر البرامج الحاسوبية؛ لأنه يتميز بما عرف لدى الباحثين من العناية بضبط النص وتحريره" (1).
وقال أيضًا: " والبرنامج حوى خدمات حاسوبية فائقة، ودقة تقنية وعلمية متميزة بين البرامج الأخرى، فهو مكتبة حديثية متقنة، ومخدومة تقنيًّا من خلال البحث وغيره من الخدمات الراقية" (2). ثم وضع جدولاً لنماذج تطبيقية من خدمات البرنامج فى البحث، ص 45 .
كما بين السلبيات التى فيه من خلال خمسة أنواع من الملاحظات: علمية، وبرمجية، وفنية، ومنهجية، وعامة (3)، غير أنه – حفظه الله – لم يبين فى إيجابيات البرنامج جوانب عديدة تتعلق بالصناعة الحديثية، وهو ما سأحاول بيانه فى هذا البحث .
مجالات الاستفادة من برنامج " موسوعة الحديث الشريف " فى الصناعة الحديثية :
تقدم أن من مزايا الحاسوب إمكاناته الهائلة فى تخزين معلومات لا حصر لها، وكذلك استدعاؤه لجميع هذه المعلومات أو لبعضها فى أسرع وأقصر وقت، وكان لهذه الميزة دور فاعل فى جميع المباحث الآتية التى يمكن أن تندرج تحت مظلة " الصناعة الحديثية " من خلال الموسوعة، وأبرزها ما يلى:
المبحث الأول: الكشف عن طريقتين فى التخريج لم تكونا معروفتين من قَبْل:
فكل من كتب فى طرق التخريج من المعاصرين يقصرها على خمس طرق هى:
- التخريج بناءً على طرف متن الحديث (أوله – مطلعه – بدايته) .
- التخريج بناءً على أى لفظة فى متن الحديث .
- التخريج بناءً على الراوى الأعلى (الصحابى أو التابعى إن كان الحديث مرسلاً).
- التخريج بناءً على موضوع الحديث .
- التخريج بناءً على نوع الحديث (4).
وأضافت التقنية ممثلة فى موسوعة الحديث الشريف طريقتين جديدتين، هما:
- التخريج بناءً على أى راوٍ فى السند – وليس الصحابى أو التابعى فقط -: وذلك من خلال: اختيار نافذة بحث >> بدلالة رواة الحديث >> كتابة اسم الراوى فى الحقول المخصصة، أو باستعراض قائمة كل الرواة >> اختيار الراوى >> أطراف الأحاديث >> ثم استعراض الأحاديث للوصول إلى الحديث المراد، ويمكن تضييق دائرة البحث إذا عُرف شيخ الراوى أو تلميذه من خلال النافذة المخصصة لهما .

- التخريج بناءً على رقم الحديث: وذلك من خلال: اختيار نافذة عرض >> رقم الحديث >> اختيار الكتاب المراد >> كتابة رقم الحديث فى الحقل المخصص >> عرض الحديث .
لكن ينبغى التنبيه إلى أنه لا بد من اختيار الترقيم المشهور فى جميع الكتب التسعة، ويُفضَّل أن يكون ذلك بعد تنصيب البرنامج مباشرة، وذلك باتباع الخطوات الآتية: اختيار نافذة خيارات >> ترقيمات الأحاديث >> اختيار الكتاب المراد >> اختيار الترقيم المشهور فى النوافذ الأربعة (العرض – القوائم – التخريج – الأطراف) على النحو الآتى: البخارى (فتح البارى)، مسلم (عبد الباقى)، الترمذى (أحمد شاكر)، النسائى (أبو غدة)، أبو داود (محيى الدين)، ابن ماجه (عبد الباقى)، أحمد (إحياء التراث)، مالك (موطأ مالك)، الدارمى (علمى وزمرلى) >> تم .

المبحث الثانى: الحكم على إسناد الحديث من خلال الألوان:
فقد اعتمد البرنامج فى حال الراوى – غالبًا– (5) حكم الحافظ ابن حجر على الراوى فى كتابه " تقريب التهذيب "، كما اعتمد البرنامج مراتب التعديل والجرح ألاثنتى عشرة التى ذكرها الحافظ فى مقدمة الكتاب (6)، وخصص لها ألوانًا للدلالة عليها، على النحو الآتى:
- المرتبتان: الثانية (ثقة ثبت) باللون الأصفر الفاتح، والثالثة (ثقة) باللون الأصفر الداكن: وهما مرتبتا رجال الحديث الصحيح.
- المراتب: الرابعة (صدوق) باللون الأخضر الفاتح، والخامسة (صدوق له أوهام) باللون الأخضر الداكن، والسادسة (مقبول) باللون الأخضر الداكن جدًا: وهى مرتبة رجال الحديث الحسن - على تفصيل سيأتى بيانه -.
- المرتبة السابعة (مجهول الحال أو مستور) باللون الوردى (الأحمر الفاتح).
- المراتب: الثامنة (ضعيف)، والتاسعة (مجهول العين)، والعاشرة (متروك)، والحادية عشرة (متهم بالكذب)، والثانية عشرة (كذَّاب) باللون الأحمر.

ومن خلال ما تقدم توضيحه، يمكن التوصل إلى حال رجال الإسناد، وبالتالى إلى درجة الحديث، من خلال نظرة يسيرة إلى شجرة الإسناد الملوَّنة.
والبرنامج وإن كان مفيدًا فى هذا الجانب، إلا أن لى ملاحظات يسيرة عليه تتمثل فيما يلى:
- لون المرتبة السادسة (مقبول) الأخضر الداكن جدًا فيه نظر؛ وذلك لأنه ألحقه بمرتبة رجال الحديث الحسن وهذا غير صحيح؛ لأن الغالب على راويه الضعف، فإن توبع قُبِل حديثه، وإلا تساوى مع الصدوق الذى له أوهام، الذى الغالب فى حاله خفة الضبط وعدم الوهم، فإن ثبت أنه وهم ضُعِّف حديثه، فكان الأَوْلى أن يكون لون أصحاب المرتبة السادسة اللون الوردى – الأحمر الفاتح، ضمن رجال الحديث الضعيف ضعفًا منجبرًا .
- لون المراتب: السابعة (مجهول الحال أو المستور)، والثامنة (ضعيف)، والتاسعة (مجهول العين) الأحمر الداكن فيه نظر كذلك؛ لأنها مراتب رجال الحديث الضعيف ضعفًا منجبرًا، فتُلحق بالمرتبة السادسة كما تقدم، وتظل المرتبة العاشرة (متروك) ، وهى مرتبة شديد الضعف الذى لا ينجبر، وحدها باللون الأحمر الداكن .
- لون المرتبتين: الحادية عشرة (متهم بالكذب)، والثانية عشرة (كذَّاب) (7) الأحمر الداكن فيه نظر؛ لأنهما تساوتا مع مرتبة شديد الضعف، والأولى أن تكونا باللون الأسود الفاتح للحادية عشرة، والأسود الداكن للثانية عشرة، فهو المناسب لهما .
المبحث الثالث: محاكمة القواعد التى استقرت فى العلم، والتأكد من صحتها:
وذلك عن طريق معرفة عدد روايات الراوى فى الكتاب، وكيف أخرجها المصنِّف .
فمثلاً: شاعت عند العلماء والباحثين مقولة الإمام أبى الحسن على المقدسى : إن رجال الصحيحين قد جازوا القنطرة، وفى هذا يقول ابن رُشَيْد: وكان شيخ شيوخنا الحافظ أبو الْحَسَنِ المقدسى يَقُولُ فى الرجل الذى يخرج عنه فى الصحيح: " هذا جاز القنطرة "، يعنى بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه، وهكذا نعتقد وبه نقول، ولا نخرج عنه إلا ببيان شاف، وحجة ظاهرة لتزيد فى غلبة الظن على المعنى الذى قدمناه من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بالصحيحين، ومن لوازم ذلك تعديل رواتهما (8)، وكذلك قال ابن حجر فى مقدمة الفتح (9)، وغيرهما.
لكن لو أخذنا شيخ البخارى أزهر بن جميل مثالاً، لوجدناه روى عنه فى الصحيح حديث ابن عباس فى الخلع، ثم عقَّب البخارى بعدها بقوله: لم يُتابع فيه عن ابن عباس (10). قال ابن حجر فى الفتح: أى لا يُتابع أزهر بن جميل عن ذكر ابن عباس فى هذا الحديث، بل أرسله غيره . اهـ . وهذا يعنى أن البخارى أخرج روايته ليُعِلَّها، لا ليحتج بها .
ثم جاءت التقنية من خلال برنامج الموسوعة، ومن خلال البحث بدلالة الراوى لتبيِّن أن البخارى لم يرو عن أزهر فى الصحيح سوى رواية واحدة هى هذه، مما يدل على أنه لم يخرج له ليحتج به، بل ليُعلَّ روايته، فلا يصح أن نصحح أحاديث أزهر الأخرى بناءً على أنه من رجال الصحيح .
ويتبين كذلك صواب حكم ابن حجر على أزهر فى التقريب حيث وصفه بأنه: صدوق يُغرِب (11)، وخطأ صاحبى كتاب " تحرير التقريب " حينما تعقَّباه بقولهما " بل ثقة، وثقه النسائى، روى عنه البخارى فى الصحيح، وروى عنه جمع من الثقات الكبار، ولم يصفه أحد بالإغراب البتة، بل لا نعلم فيه أدنى جرح" (12).
كما يتبين أن البخارى قد يخرج فى صحيحه بالإسناد المتصل رواية مرسلة، لبيان وهم من وصل الرواية، والحديث قد صح عنده موصولاً من رواية أخرى (13).
المبحث الرابع: معرفة مناهج الأئمة فى كتبهم:
وذلك من خلال الطريقة التى تقدمت الإشارة إليها فى النقطة السابقة .
فمثلاً: لو أخذنا إخراج مسلم لأشعث بن سوار ومجالد بن سعيد، اللذيْن ضعفهما الحافظ ابن حجر (14)، فى حديث فاطمة بنت قيس فى سُكنى المطلقة ونفقتها (15)، وقال فيها: حدَّثنى زهير بن حرب، حدَّثنا هُشيم، أخبرنا سيَّار، وحُصين، ومغيرة، وأشعث، ومجالد، وإسماعيل بن أبى خالد، وداود، كلُّهم عن الشعبى، قال: دخلتُ على فاطمة بنت قيس ... الحديث .
ولو قارنا روايته برواية النسائى لها (16) الذى قال: أخبرنا يعقوب بن ماهان، عن هُشيم، قال: حدَّثنا سيَّار، وحصين، ومغيرة، وداود بن أبى هند، وإسماعيل بن أبى خالد، وذكر آخَرَيْن (هكذا)، عن الشعبى به .
وباستخدام البرنامج من خلال البحث بدلالة الراوى، يتبين أن مسلمًا لم يرو لهما فى الصحيح سوى رواية واحدة هى هذه، ومعروف من منهج مسلم التحرى والدقة فى أداء الحديث كما سمعه من شيخه دون تغيير، وقد وصلته الرواية هكذا بذكر شيوخ هشيم السبعة، فلم يُرِد أن يُبهم الراوييْن الضعيفيْن أشعث ومجالد كما فعل النسائى .
وبناءً عليه يمكن القول بأن من منهج مسلم فى كتابه إيراده لرواة لم يقصد الاحتجاج أو الاستشهاد برواياتهم، فلا يحسبون من رجاله، ولا يُعاب على صحيحه بوجودهم فيه، والله أعلم .
المبحث الخامس: دفع العلل التى يمكن أن ترِد فى الإسناد:
من العلل الظاهرة التى يمكن أن ترِد فى الإسناد: التدليس، والاختلاط، والتعليق، والوهم، ويمكن للبرنامج بما له من مزايا متعددة، أن يُسهم فى دفع هذه العلل فى أسرع وأقصر وقت .
- فأما علة التدليس: فمعلوم أن القاعدة العامة فى قبول رواية المدلس التى عنعنها، أن ترِد فى موضع آخر مصرَّحًا فيها بالسماع (17)، ومن مزايا البرنامج أنه يتيح للباحث خاصية التنقل من مصدر إلى مصدر، ومن رواية إلى رواية فى أقصر وقت، وفى دقائق معدودة بحثًا عن رواية التصريح بالسماع، وذلك من خلال الخطوات الآتية:
استدعاء رواية المدلس المعنعن بأى طريقة من طرق التخريج (رقم الحديث – البحث الصرفى – الراوى) >> سند >> على مستوى الكتب التسعة >> طرق الرواية >> مطابقة السند مع النص، ولو أخذنا رواية زكريا بن أبى زائدة وهو مدلس، التى رواها بصيغة العنعنة عن شيخه عامر بن شراحيل الشعبى لحديث " الحلال بيِّن "، وأخرجها البخارى برقم (52)، وبيَّنت نافذة السند على مستوى الكتب التسعة أن عدد طرق الحديث فى الكتب التسعة 22 طريقًا، وبعد استعراضها فى البخارى ومسلم وأبى داود والترمذى والنسائى وابن ماجه لم أجد رواية التصريح بسماع زكريا من الشعبى إلا فى مسند أحمد برقم (27638)، وقد استغرق البحث دقائق معدودة، فى حين أنه لو كان بتصفح المصادر ورقيًا، لاستغرق مدة طويلة .
- وأما علة الاختلاط: فيمكن دفعها من خلال خاصية سرعة استحضار المعلومات التى يكفلها البرنامج من نافذة البحث بدلالة الراوى، ثم تأمل رواياته فى الكتاب كيف جاءت، وكيف أوردها المصنِّف .
فمثلاً: الراوى حفص بن غياث، قال فيه الحافظ: ثقة فقيه، تغير حفظه قليلاً فى الآخر (18)، وبيَّن البرنامج أن البخارى روى له (94) حديثًا، وأن مسلمًا روى له (59) حديثًا، وأن عدد شيوخه فى الصحيحين (21) شيخًا، ومن هؤلاء الشيوخ سليمان بن مهران الأعمش، وكانت نتيجة استدعاء عدد رواياته عن هذا الشيخ فى الصحيحين (89) حديثًا عند البخارى، و (15) حديثًا عند مسلم، مما دل على أنه لا يخلط إذا روى عنه، وأن روايته عنه موثوق فيها، فإذا تبين هذا عُلِم أن سائر رواياته فى الكتب التسعة عن الأعمش لا يتطرق إليها احتمال الاختلاط، وعددها (164) من (328)، وهذا يؤيد ما ذكره يحيى بن سعيد القطان من أنه أوثق أصحاب الأعمش (19).
- وأما علة التعليق: فيمكن الكشف عنها عن طريق استحضار المعلومات التى تقدمت.
فمثلاً: الراوى عبدالله بن الوليد بن ميمون، قال فيه ابن حجر: صدوق ربما أخطأ (20)، ورمز إلى أن البخارى روى له فى الصحيح تعليقًا، وقد أظهر البرنامج أن عدد الروايات التى رواها عنه ست (1747 – 2245 – 2253 – 2868 – 2875 – 4523)، ومن تأملها تبيَّنت له النتائج التالية:
1- جميع الروايات رواها البخارى تعليقًا، بعد أن أخرج الحديث بالإسناد المتصل .
2- جميع الروايات رواها عبدالله بن الوليد بصيغة الجزم " قال "، والعلماء كالإمام النووى ذكروا أن المعلقات فى الصحيحين إذا جاءت بصيغة الجزم، فإن لها حكم الصحة (21).
3- جميع الروايات رواها عبدالله عن سفيان الثورى، ومِنْ بحث المسألة تبيَّن أن عبدالله هذا هو راوية " جامع سفيان " عنه، وجميع هذه الروايات المعلقة وُصِلت فى الجامع، كما ذكر ذلك ابن حجر فى شرحه للأحاديث المتقدمة .
4- وذكر الحافظ ابن حجر فى الشرح أن البخارى أخرج هذه الروايات المعلقة لأنها قد جاءت من سفيان بصيغة التصريح بالسماع، فى حين أنها فى طرق الحديث الأخرى بالعنعنة، ولذلك لم يستطع البخارى أن يستغنى عنها .
وأما علة الوهم: فيمكن دفعها من خلال استحضار روايات الراوى، وتأملها، ومعرفة كيف أخرجها المصنِّف .
فمثلاً: إبراهيم بن يوسف السبيعى، قال فيه ابن حجر: صدوق يَهِم، وذكر أن البخارى ومسلمًا وأبا داود والترمذى وابن ماجه أخرجوا له (22)، وقد أظهر البرنامج أن عدد رواياته فى الكتب التسعة (23) رواية، منها (15) رواية عند البخارى، و (3) روايات عند مسلم، ومن خلال اختيار نافذة شيوخ الراوى تبيَّن أنه لم يرو عندهم إلا عن أبيه، وجميع رواياته المذكورة عنه، مما يدل على أنه مختص به، فلا يهِمُ فيه، بل ولم يَخِّفَّ ضبطه، وبالتالى يُحكم على هذه الروايات بأنها فى درجة الحديث الحسن لذاته، ويرتفع بقرينة الاختصاص إلى الصحيح لغيره، يؤيده إخراج البخارى ومسلم لمعظمها كما تقدم، والله أعلم .
وأخيرًا:
فإن مما يُلحق بهذه المباحث من إسهام البرنامج فى التوصل إلى جوانب تتعلق بالصناعة الحديثية، قد يغفل عنها مستخدمه لوجودها فى غير مظنتها، نافذة العرض بدلالة الفهارس، ففيها عرض لأقوال الترمذى فى الحكم على الحديث من خلال (97) مصطلحًا له، ثم التوصل إلى عدد مرات استخدامه فى كتابه ومواضعها، مثل مصطلح " حديث حسن صحيح " الذى استخدمه فى (1641) موضعًا، أو فى الحكم على الرواة جرحًا وتعديلاً من خلال مواضع بلغت (401) .
وكذلك الحال بالنسبة لنافذة " أقوال " التى توصل إلى أقوال باقى أصحاب الكتب التسعة، وأقوال تلاميذهم رواة كتبهم .

الخاتمة
وبعد أن منَّ الله على بإتمام هذا البحث أذكر أبرز النتائج، وهى كالتالى :
1- إن التقنية الحديثة نعمة أنعمها الله علينا فى هذا العصر، وهى مثل أى مستجدٍّ فيه الإيجابيات والسلبيات، فوجب علينا أن نأخذ منها النافع، وننبِّه إليه، وأن نتجنب الضارَّ ونحذر منه .
2- إن أعظم مزايا البرامج الحاسوبية فى خدمة السنة النبوية إمكاناتها الضخمة فى تخزين كميات هائلة من المعلومات، واستحضارها بأسرع وقت، لكنها تعتمد فى كل هذا على التغذية البشرية لها بالمعلومات، ويرجع الصواب والخطأ فيها إلى هذا السبب، وعليه فهى أداة ووسيلة للوصول إلى العلم، وليست العلم ذاته .
3- أسهمت المؤسسات التجارية فى الاستفادة من التقنية فى السنة النبوية، على الهدفين الأساسين فى إنتاجها: الوصول إلى مظنة المعلومة فى معظمها، وإلى فروع العِلْم ودقائقه (الصناعة الحديثية) فى بعضها .
4- يُعتبر برنامج " موسوعة الحديث الشريف – حرف " من أفضل البرامج الموجودة حاليًا على الساحة، التى تسهم فى معرفة الصناعة الحديثية .
5- تعددت مجالات خدمة الموسوعة للصناعة الحديثية، وقد توصل البحث إلى أبرزها، وهى:
- الكشف عن طريقتين فى التخريج لم تكونا معروفتين من قَبْل .
- الحكم على إسناد الحديث من خلال الألوان .
- محاكمة القواعد التى استقرت فى العلم، والتأكد من صحتها .
- معرفة مناهج الأئمة فى كتبهم .
- دفع العلل التى يمكن أن ترِد فى الإسناد، من تدليس، أو اختلاط، أو تعليق، أو وهم .
وما زال المجال مفتوحًا للكتابة فى هذا الموضوع بشكل شمولى وموسع .
وختامًا:
فإنى أشكر القائمين والمنظمين لهذا المؤتمر المبارك، لحسن اختيارهم لموضوعه ومحاوره، وكريم استقبالهم وكرمهم، داعيًا الله العلى القدير أن يثيبهم على جهدهم، ويبارك لهم فى عملهم .
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
فهرس المصادر والمراجع
1- برنامج المكتبة الألفية للسنة النبوية عرض ونقد للدكتور إبراهيم الريس، بحث منشور .
2- تحرير تقريب التهذيب: للدكتور بشار عواد، والشيخ شعيب الأرنئوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1 – 1417 هـ .
3- تقريب التهذيب: للحافظ على بن حجر العسقلانى (ت 852 هـ)، قدَّم له وقابله: محمد عوامة، دار الرشيد، حلب، 1411هـ .
4- التقنية الحديثة فى خدمة السنة والسيرة النبوية بين الواقع والمأمول، للدكتور: إبراهيم الريس، مطبوعات ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية، 1425 هـ .
5- الجامع الصحيح: لأبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى (ت 256هـ) المطبوع مع شرحه فتح البارى للحافظ ابن حجر، المطبعة السلفية بالقاهرة، 1380هـ .
6- روايات المدلسين فى صحيح البخارى، للدكتور: عواد الخلف، دار البشائر الإسلامية، بيروت .
7- صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيرى النيسابورى، دار إحياء التراث العربى، بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقى .
8- طرق تخريج حديث النبى صلى الله عليه وسلم، للدكتور: عبد المهدى عبد القادر عبد الهادى، دار الاعتصام، القاهرة .
9- علم التخريج ودوره فى خدمة السنة النبوية، للدكتور: عبد الغفور عبد الحق البلوشى، مطبوعات ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية، 1425 هـ .
10- الكواكب النيرات فى معرفة من اختلط من الرواة الثقات، لمحمد بن أحمد ابن الكيال (939 هـ)، تحقيق: عبد القيوم عبد رب النبى، المكتبة الإمدادية، مكة، 1420 هـ .
11- المجتبى من السنن، أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائى، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، الطبعة الثانية 1406 – 1986، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة .
12- المستخرج على المستدرك للحاكم، أمالى الحافظ العراقى، بتحقيق: محمد عبد المنعم رشاد.
13- ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة فى الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة، محمد بن عمر ابن رُشيْد (721 هـ)، تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة، الشركة التونسية 1321 هـ .
14- المنهاج شرح صحيح مسلم للنووى، ومعه صحيح مسلم، ط مؤسسة قرطبة بالقاهرة، سنة 1414هـ .
15- هدى السارى مقدمة فتح البارى شرح صحيح البخارى، أحمد بن على بن حجر، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقى , محب الدين الخطيب .
العودة لصفحة المؤتمر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - برنامج موسوعة الحديث الشريف – شركة حرف – عرض ونقد، ص 3.
2 - المرجع السابق، ص 13- 14.
3 - المرجع السابق، ص 61 – 79.
4 - انظر: طرق تخريج حديث النبى صلى الله عليه وسلم، للدكتور عبد المهدى عبد القادر، ص 24، وعلم التخريج ودوره فى خدمة السنة النبوية، للدكتور عبد الغفور البلوشى، ص 94 .
5 - أحيانًا يخالف البرنامج حكم الحافظ، كما فى على بن عبد الله البغدادى، قال الحافظ فى التقريب 4759: مقبول، وفى البرنامج: متقن.
6 - التقريب ص 74.
7 - الفرق بين المتهم بالكذب والكذاب، أن الأول هو الذى يكذب فى حديث الناس ولم يثبت أنه كذب فى حديث النبى صلى الله عليه وسلم، وأما الثانى فهو الذى كذب فى حديث النبى صلى الله عليه وسلم)
8 - ملء العيبة 1/327.
9 - هدى السارى، ص 384.
10 - صحيح البخارى، حديث رقم 5273.
11 - التقريب، ترجمة 303.
12 - تحرير التقريب 1/ 109 باختصار.
13 - انظر روايات حديث ابن عباس المتقدم فى الخلع ليتضح المقصود.
14 - التقريب 524 و 6478.
15 - صحيح مسلم، حديث رقم 42 ـ 1480.
16 - المجتبى، حديث رقم 3550.
17 - ذكر الدكتور عواد الخلف فى كتابه القيِّم " روايات المدلسين فى صحيح البخارى " ص 26 – 31، ثلاثة وثلاثين ضابطًا لقبول روايات المدلسين وإن كانت معنعنة.
18 - التقريب، 1430.
19 - انظر ملحق محقق الكواكب النيرات، ص 459.
20 - التقريب، 3692.
21 - مقدمة المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج .
22 - التقريب، 274.