جمع أحاديث الباب وأثرها فى الفقه السديد

 

  أ.د زين الدين بلافريج

أستاذ الحديث بجامعة الدار البيضاء بالمغرب 

العودة لصفحة المؤتمر 

بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الأنبياء وإمام المرسلين، صاحب الوجه الأنور ، والجبين الأزهر ، صلى الله عليه وسلم ، وشرف وعظم ، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الغر الميامين .

أما بعد ،،،

فإن أهمية فقه الحديث السديد لا تخفى على المشتغلين بالعلم الشرعى، وأن هذا الباب يحتاج منا إلى إعطاء عناية كافية ، فإن فقه الحديث كما قال على بن المدينى هو نصف علم الحديث، فإذا كنا نبذل عصارة جهودنا فى الكلام على أسانيد الأحاديث وما صح منها وما ثبت؛ فإن الجهد نفسه يجب أن يمنح لفقه الحديث.

وواقع الناس والمنتسبين إلى العلم والمنتسبين إلى الدعوة أنهم يكثر سؤالهم عن فقه الأحاديث النبوية. ونجد بعض أشكال الانحراف عن الفقه السديد، ومن ذلك أن بعضهم يخيل إليه أن انتزاع حديث من كتاب من كتب الحديث يعد منهجًا صحيحًا فى أن يستنبط أحكام هذا الحديث، ويدعو إلى فقهه.

فانتزاع حديث واستلاله من كتب الحديث - وإن كان الحديث صحيحًا - لا يستقيم هكذا الفقه، بل لا بد من النظر فى أحاديث الباب وجمعها، ولا بد من النظر فى كلام العلماء، لا يمكن للمتفقه أن يتفقه فقهًا سديدًا إلا بجمع أحاديث الباب.

وفى ذلك من أمثلة السائلين اليوم الكثير، فإذا اقترب رمضان وجدنا الناس يسألون عن صيام النصف الثانى من شعبان، وهل يصح أم لا، لحديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى عليه الصلاة والسلام قال «إذا جاء النصف من شعبان فأمسكوا». فيقول الناس : هل نمسك عن الصيام فى النصف الأخير من شعبان، أم نصوم؟

فبعضهم أفتاهم بالإمساك مطلقًا، وقال أمسكوا كما جاء فى الحديث ، والحديث فى مسند الإمام أحمد وعند أبى داود وغيرهما بسند ثابت عن النبى عليه الصلاة والسلام. وإن كان بعض المحدثين يتوقع هذا الحديث أن يحدث به كما نقل عن على بن المدينى، والآفة فى هذا الأمر هو عدم جمع أحاديث الباب، ولو أن المتحدث حول هذا الحديث وُفِّق إلى جمع أحاديث الباب لأمكنه أن يهتدى إلى الفقه السديد لهذا الأمر. وذلك أن حديث «إذا جاء النصف من شعبان فأمسكوا» هو حديث من طريق العلاء بن عبد الرحمن ، والعلاء أخرجه له الإمام مسلم، ولكن الإمام مسلمًا أخرج له انتخابًا، ولم يخرج له أفرادًا بعينها، وتحاشاها وتجنبها الإمام مسلم. وإلى ذلك أشار الإمام الحاكم أبو عبد الله فى المدخل ، وأشار الإمام ابن الجوزى فى كتاب الموضوعات، قال " إن الإمام مسلمًا - رحمه الله - خرج للعلاء بن عبد الرحمن الحرقى الجهنى المدنى، وتحاشى تخريج بعض أحاديثه، ومنها حديث «إذا جاء النصف من شعبان فأمسكوا».

وذلك أن هذا الراوى إنما يكون على شرط مسلم فيما انتخب له مسلم، فالرواة الثقات أو الصديقون الذين يحتاجون إلى متابعة ليس الإمام مسلم ولا غيره من رواة الصحيح يتكفلون دائمًا بتصحيح أحاديثهم، إلا إذا وجد الحديث منتخبًا لهم - أى الذين يشترطون الصحيح - مِن ثَم عزف الإمام مسلم عن تخريج حديث «إذا جاء النصف من شعبان فأمسكوا». فالعلاء ثقة لكن له أفراد، وأصحاب الأفراد يحتاجون إلى متابعة، بل إن أحاديثهم قد تكون شاذة إذا لم يوجد متابع، فمن أقسام الشذوذ أن يتفرد الصدوق بما لا متابع له فيه ولا شاهد، فيسمى شاذًّا فإذا كان الأمر كذلك فالعلاء - وإن كان ثقة - لكن الإمام مسلمًا انتخب له دفعًا لما يخشى من تفرده.

الحديث ظاهره أنه ثابت حسن أو صحيح، لكن فقهه يحتاج إلى جمع أحاديث الباب؛ وذلك أن المنصرف عن جمع أحاديث الباب يكون فقهه غير كامل ولا مستقيم، وليس من الإنصاف أبدًا أن تعمد إلى حديث تستخرج فقهه، وتقول بدلالته، أو بمعناه، وما دل عليه، وتترك أحاديث الباب، ففى ذلك ضرب من الانحراف عن المنهج الصحيح، فأحاديث الباب إذا صحت وجب استحضارها، ووجب التفقه فيها.

فمن أحاديث الباب حديث عمران بن الحصين رضى الله عنه وهو حديث سرر شعبان المشهور بحديث السرر، وهو من أعجب الأحاديث، وهو متفق على صحته، أن النبى عليه الصلاة والسلام قال لرجل فى رمضان: (هل صمت من سرر شعبان؟) قال: لا قال فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين ). قال صاحب المفهم أبو العباس القرطبى فيه دلالة على أن اليوم فى شعبان يساوى يومين فى غيره سوى رمضان، فحديث سرر شعبان يدل على أن النبى عليه الصلاة والسلام رغب فى صيام السرر.

والسرر عند أهل اللغة قيل هى من السرة أى وسط الشىء وقيل من استسرار القمر وهو آخر الشهر، وهذا إليه تومئ عبارات المحققين من أهل اللغة أن المراد بسرر شعبان أواخر شعبان، وإذا ثبت ذلك فهذا الحديث يرغب فى صيام أواخر شعبان، فما معنى أن ينهى عن صيام آخر شعبان، وأن يُرغَّب فى صيام آخر شعبان.

ومن ذلك أيضا أن النبى عليه الصلاة والسلام - كما تروى عائشة وغيرها - كان أكثر صياما فى شعبان وما أتم صيام شهر إلا رمضان، وكان يصوم حتى نقول لا يدع، ويدع حتى نقول لا يصوم. فصام هذا الشهر من غير تمييز بين نصفه الأول وبين نصفه الأخير، وفى ذلك دلالة على أن صيام النصف الثانى من شعبان غير مكروه ولا ممنوع.

ومن الأحاديث فى الباب حديث النهى عن تقديم صيام رمضان بيوم أو بيومين، فقد جاء فى الحديث الصحيح: (لا تقدموا صيام رمضان بيوم أو بيومين إلا أن يكون فى صوم يصومه أحدكم). والحديث فى الصحيح، وهذا الحديث دالٌّ على أن المسلم يؤذن له فى الصيام ما قبل رمضان إذا كان له اعتياد فى صوم يصومه، وإنما نُهِى الرجل أن يتحرى اليوم قبل رمضان بنية الاحتياط لرمضان، كما قال الحافظ ابن حجر فى الفتح، هو فى حق من عمد إلى اليوم الذى يشك فيه، وقال أصومه بنية الاحتياط لرمضان، فإذا كان رمضان يقول قد صمت، وإذا لم يكن يقول ما خسرت شيئًا. وتكلف أن يصوم يومًا لم يؤذن له فى صيامه، وتكلف الاحتياط فى أمر لم يؤمر بالاحتياط فيه، من هنا جاء النهى عن تقديم صيام رمضان بيوم أو يومين.

فهذه أحاديث مجموعة - وهى ثلاثة - تدل على أن صيام النصف الأخير من شعبان ليس محظورًا، فما معنى هذه الأحاديث ، وكيف تلتئم وكيف تتفق؟ قال الإمام الطحاوى فى شرح معانى الآثار: يحمل حديث النهى عن صيام النصف الأخير من شعبان على رجل يستضعف نفسه بصيام النفل عن صيام الفرض، فيذهب إلى صيام النفل، ويكثر منه، حتى إذا جاء المُطهِّر الواجب وجد نفسه قد ضاعت صحته، أو قد أنفق جهده فى صيام النفل، والأَولى به أن يصوم الفرض قبل أن يصوم النفل، فيقال: هو فى حق رجل يُضعِفه صيام النفل عن صيام الفرض فيقال له: حسبك، لا تصم أكثر من ذلك.

فى هذا الحديث قال الطحاوى ما قال فى التوفيق، وبعضهم أصرَّ على ألا يأخذ بجمع الطحاوى، وأصر على أن يقول بحديث (إذا جاء النصف من شعبان فأمسكوا)، فحرَم الناس من صيام النفل فى النصف الأخير من شعبان، وهذا لا يستقيم، مع وجود هذه الأحاديث المرغِّبة الآذنة، لا يستقيم أن يقال بحديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبى هريرة، وترك أحاديث الباب.

فالأولى بنا أن نذهب إلى ما قاله الطحاوى، وهذا قريب. وإذا لم نجمع بين الأحاديث فحديث العلاء مُهدَّد بالحكم عليه بالشذوذ؛ وذلك أنه خالف الأحاديث الأصح والأكثر تداولًا بين أيدى العلماء، وكلها مرشحات تقدمها عليه، فلا يستقيم الفقه إلا بمثل هذا الذى ذكره العلماء.

وفى الدلالة على أهمية الفقه وقد فاتنى أوانها، أقول إن الحافظ الإمام ابن دقيق العيد أَلْفَتَ فى شروحه إلى دقيقة فقهية ما أعجبها، يقول رحمه الله تعالى فيها: لو طرحت عليك أيها المتفقه حديث النبى عليه الصلاة والسلام: (لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ). ماذا تفهم منه؟ فأجاب المجيبون بأن الحديث يوجب الوضوء. والجواب بأن ظاهر الحديث يوجب الوضوء هو تحصيل حاصل؛ إذ وجوب الوضوء أمر لازم وحتم لازم لا مفر منه، ولكن الحديث ليس فيه الأمر بالوضوء فحسب ، بل الحديث فيه أن انتقاض الوضوء صاحبه لا يبنى وإنما يستأنف.

وما أغزرها من فائدة متوغلة، لولا أن من الله علينا بمثل هؤلاء العلماء المعلمين ما كنا علمناها ولا فقهناها، والله عز وجل هو الموفق، والصلاة والسلام على سيد المرسلين.

العودة لصفحة المؤتمر