المعجزات النبوية التى ظهرت فى زماننا فى ضوء السنة النبوية
أ.د عبد المهدى عبد الهادى عبد القادر
أستاذ ورئيس قسم الحديث وعلومه بكليه أصول الدين- القاهرة
العودة لصفحة المؤتمر
الحمد لله العزيز القهار، الصمد الجبار، العالم بالأسرار، الذى اصطفى سيد البشر محمد بن عبد الله بنبوته ورسالته، وحذر جميع خلقه مخالفته , صلى الله عليه وعلى آله وصحابته الكرام , وبعد:
فقد أرسل الله عز وجل الرسل والأنبياء إلى الخلق لهدايتهم إلى الطريق المستقيم , وجاءت الرسل عليهم الصلاة والسلام بما دل على صدقهم من معجزات وجب على المرسل إليهم تصديقهم فى جميع ما أتوا به مما كلفوا بتبليغه؛ لأن المعجزة مع التحدى من النبى قائم مقام قول الله: صدق عبدى فأطيعوه واتّبعوه. وشاهد على صدقه فيما يقوله من دعواه النبوة والرسالة إلى من أرسل إليهم.
فمن ذلك عصا سيدنا موسى عليه السلام وفلق البحر , وناقة سيدنا صالح عليه السلام , وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لسيدنا عيسى عليه السلام.
وقد كان لنبينا صلى الله عليه وسلم كثير من المعجزات النبوية الثابتة عندنا، منها ما جرى على يديه بين أصحابه , ومنها ما أخبر عنه ووقع فى عصر الصحابة والتابعين , ومنها ما أخبر عنه ووقع فى زماننا.
وقد ضمت كتب الحديث بين ثناياها كثيرًا من هذه المعجزات والدلائل، ثم أفرد العلماء مصنفات عدة تخصصت فى هذا النوع من التأليف، وهو ما يسمى بكتب دلائل النبوة , فلا يكاد يخلو عصر من مصنف فيها ما بين مطنب وموجز ومكثر ومقل.
ويعنى هذا البحث بالخصوص ببعض المعجزات النبوية التى أخبر عنها نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم ووقعت فى زماننا هذا , لما فيه من عظيم الفائدة للمسلم وغير المسلم , أما المسلم فيفرح بذلك فرحًا شديدًا ويطمئن قلبه من باب قول أبينا إبراهيم عليه السلام {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِى}[سورة البقرة، الآية 260] وأما غير المسلم فلأن هذه الأدلة المادية تخاطب عقله فى صدق نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، فكم من أناس اهتدوا إلى الإسلام لما وقفوا على بعض هذه المعجزات.
وقد جعلته فى مباحث:
الأول: تعريف المعجزة وبيان سبب تسميتها بذلك.
الثانى: شروطها.
الثالث: الفرق بين معجزات نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم وبين معجزات سائر الأنبياء.
الرابع: أهمية الكلام على معجزات النبى صلى الله عليه وسلم.
الخامس: أمثلة من المعجزات من السنة النبوية التى وقعت فى زماننا.
والله أسأل أن يجعله علمًا ينتفع به إلى يوم أن نلقاه , آمين.
المبحث الأول: تعريف المعجزة وبيان سبب تسميتها بذلك
المعجزة هى الأمر الخارق لعادة البشر من خصال لا تستطاع إلا بقدرة إلهية , المقرون بالتّحدى الدّال على صدق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام , الواقع على وفق دعوى المتحدَّى بها مع أمن المعارضة.
ولم يرد فى القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة لفظ «المعجزة»، وإنما فيهما لفظ «الآية» و«البينة» و«البرهان» كما فى قصة سيدنا موسى {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} [سورة القصص، الآية 32] فى العصا واليد، وكما جاء فى حق نبينا صلى الله عليه وسلم {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ}[سورة النساء، الآية 174] وأما لفظ الآيات فكثير كقوله تعالى {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ}[سورة الأنعام، الآية 124] وقوله {إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآَيَاتٍ} [سورة الرعد، الآية 3].
واعلم أن سبب تسمية ما جاءت به الأنبياء من الآيات الخارقة للعادة «معجزة» هو أنّ الخلق عجزوا عن الإتيان بمثلها، فكان عجزهم عنها سببًا لتسميتها معجزة من العجز المقابل للقدرة، وحقيقة الإعجاز إثبات عجز المرسل إليهم.
فاعلم رحمك الله أن كل معجزة آية وبرهان وبينة ولا عكس، كما سيأتى فى بيان شروطها.
المبحث الثانى: شروطها
ذكر أهل العلم بعض الشروط التى ينبغى أن تتوفر للأمر الخارق للعادة حتى يطلق عليه لفظ المعجزة , أذكر منها:
1- أن تكون مما لا يقدر عليها إلا الله سبحانه
وإنما وجب حصول هذا الشرط للمعجزة لأنه إذا أتى آتٍ فى زمان سابق يصح فيه مجيء الرسل، وادعى الرسالة، وجعل معجزته أن يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد لم يكن هذا الذى ادعاه بمعجزة له، ولا دالًّا على صدقه لقدرة الخلق على مثله، وإنما يجب أن تكون المعجزات كفلق البحر، وانشقاق القمر، وما شاكلها مما لا يقدر عليها البشر.
2- أن تكون خارقة للعادة
فخرج غير الخارق للعادة كطلوع الشمس كل يوم؛ وإنما وجب اشتراط ذلك لأنه لو قال المدعى للرسالة: آيتى مجيء الليل بعد النهار وطلوع الشمس من مشرقها، لم يكن فيما قاله معجزة؛ لأن هذه الأفعال، وإن كان لا يقدر عليها إلا الله، إلا أنها لم تفعل من أجله، وقد كانت قبل دعواه على ما هى عليه فى حين دعواه، ودعواه فى دلالتها على نبوته كدعوى غيره، فبان أنه لا وجه له يدلُّ على صدقه , أما الذى يستشهد به الرسول عليه السلام فله وجه يدل على صدقه، وذلك أن يقول: الدليل على صدقى أن يخرق الله تعالى العادة من أجل دعواى عليه الرسالة، فيقلب هذه العصا ثعبانا، أو يشق الحجر أو يخرج من وسطه ناقة، أو ينبع الماء من بين أصابعى كما ينبعه من العين، أو ما سوى ذلك من الآيات الخارقة للعادات التى ينفرد بها خالق الأرض والسموات.
3- أن يستشهد بها مدعى الرسالة على الله عز وجل
فلا بد أن ينسب ما سيقع من أمر خارق للعادة لرب الأرض والسموات , فيقول: آيتى أن يقلب الله سبحانه هذا الماء زيتًا، أو يحرك الأرض عند قولى لها تزلزلى، أو غير ذلك كله بأمر الله الواحد القادر على كل شىء.
4- أن تكون مقرونة بالتحدى
ولم يشترط بعض أهل العلم أن تكون مقرونة التحدى وذلك لأسباب:
أحدها: أن اشتراط التحدى قول لا دليل عليه لا من كتاب ولا من سنة، ولا من قول صاحب ولا إجماع.
ثانيها: أن أكثر آياته صلى الله عليه وسلم وأعمها وأبلغها كانت بلا تحدٍّ، كنطق الحصى، ونبع الماء، ونطق الجذع، وإطعامه المئين من صاع، وتفله فى العين , وغير ذلك.
وأجيب عن ذلك بأنه ليس شرط الاقتران بالتحدى بمعنى طلب الإتيان بالمثل الذى هو فى المعنى الأصلى للتحدى، بل يكفى للتحدى دعوى الرسالة, فكل ما وقع له صلى الله عليه وسلم من الخوارق كان معجزة لاقترانه بدعوى النبوة حكمًا، فكأنه يقول فى كل وقت: أنا رسول الله إلى الخلق. وأنه يقول فى كل مرة يقع فيه الخارق للعادة: هذا دليل صدقى , والله أعلم.
5- أن لا يأتى أحد بمثل ما أتى به المتحدّى مع أمن المعارضة
وخرج بقيد «التحدى» الخارق من غير تحدٍّ وهو الكرامة للولى , فالفرق بين المعجزة والكرامة أن الكرامة من شرطها الاستتار، والمعجزة من شرطها الإظهار. وقيل: الكرامة ما تظهر من غير دعوى والمعجزة ما تظهر عند دعوى الأنبياء، فيطالبون بالبرهان فيظهر أثر ذلك.
وخرج بقيد «المقارنة» الخارق المتقدم على التحدّى، كإظلال الغمام، وشق الصدر، الواقعين لنبينا صلى الله عليه وسلم قبل دعوى الرسالة، وكلام عيسى صلى الله عليه وسلم فى المهد، وما شابه ذلك، مما وقع من الخوارق قبل دعوى الرسالة، فإنها ليست بمعجزات، وإنما هى كرامات ظهورها على الأولياء جائز، والأنبياء قبل نبوتهم لا يقصرون عن درجة الأولياء فيجوز ظهورها عليهم أيضًا، وحينئذ يسمى إرهاصًا أى تأسيسًا للنبوة , كما صرح به غير واحد من أئمة الأصول , والله أعلم.
وخرج أيضًا بـ «المقارنة» المتأخر عن التحدى بما يخرجه عن المقارنة العرفيّة، نحو ما رؤى بعد وفاته صلَّى الله عليه وسلم من نطق بعض الموتى بالشهادتين، وما شابهه، مما تواترت به الأخبار.
وخرج أيضًا بـ «أمن المعارضة» السحر المقرون بالتحدى، فإنه يمكن معارضته بالإتيان بمثله من المرسل إليهم , وينبغى هنا التنبيه على مسألة هامة، وهى ما نقله إمام الحرمين من الإجماع على أن السّحر لا يظهر إلّا من فاسق، وأن الكرامة لا تظهر على فاسق، فينبغى أن يعتبر بحال من يقع الخارق منه، فإن كان متمسّكًا بالشريعة متجنبًا للموبقات، فالذى يظهر على يديه من الخوارق كرامة، وإلا فهو سحر؛ لأنّه ينشأ عن أحد أنواعه كالشياطين، غير أنها لدقتها لا يتوصّل إليها إلا آحاد الناس، وأكثرها تخييلات بغير حقيقة وإيهامات بغير ثبوت، فيعظم عند من لا يعرف ذلك، كما قال الله تعالى عن سحرة فرعون {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}[سورة الأعراف، الآية 116].
6- أن تقع على وفق دعوى المتحدى بها المستشهد بكونها معجزة له
فلو قال مدعى الرسالة: آية نبوتى أن تنطق يدى أو هذه الدابة. فنطقت يده أو الدابة بكذبه، فقالت: كذب وليس هو نبى. فإن الكلام الذى خلقه الله عز وجل دالٌّ على كذب ذلك المدّعى؛ لأن ما فعله الله تعالى لم يقع على وفق دعوى المدَّعى، كما روى أن مسيلمة الكذاب لعنه الله تعالى تفل فى بئر ليكثر ماؤها فغارت، وذهب ما فيها من الماء.
فمتى اختل شرط من هذه الشروط لم تكن معجزة، ولا يقال: قضية ما قلتم أنّ ما توفرت فيه هذه الشروط من المعجزات لا يظهر إلا على أيدى العارفين وليس كذلك؛ لأن المسيخ الدجّال يظهر على يديه من الآيات العظام ما هو مشهور، كما وردت به الأخبار الصحيحة؛ لأن ما ذكرناه فيمن يدعى الرسالة، وهذا يدعى الربوبية , وقد قام الدليل العقلى على أن بعثته بعض الخلق غير مستحيل، فلم يبعد أن يقيم الله عز وجل الأدلة على صدق مخلوق أتى عنه بالشرع والملة , ودلت القواطع على كذب المسيخ الدجال فيما يدعيه للتغير من حال إلى حال، وغير ذلك من الأوصاف التى تليق بالمحدثات , تعالى رب البريات عن أن يشبه شيئًا، أو يشبهه شىء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[سورة الشورى، الآية 11].
المبحث الثالث: الفرق بين معجزات نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم وبين معجزات سائر الأنبياء
اعلم أن كل نبى اختص بما يثبت دعواه من خوارق العادات حسب زمانه , فخصّ كل نبى بما أثبت به دعواه من خوارق العادات المناسبة لحال قومه، فإذا انقطع زمانه انقطعت تلك المعجزة، كقلب العصا ثعبانًا لسيدنا موسى عليه السلام، فكانت تلقف ما صنع السحرة، وإخراج اليد بيضاء؛ وإنما كان كذلك لأن الغالب فى زمانه السحر إذ كان مألوفًا عند فرعون فأتاهم بما هو فوقه فاضطرّهم إلى الإيمان به، ولم يقع ذلك لغيره، وفى زمن عيسى الطب، فجاءهم بما هو أعلى منه من إبراء الأكمه والأبرص بما ليس فى قدرة بشر وهو إحياء الميّت، وأمّا النبى صلى الله عليه وسلم فأرسله فى العرب، وهم أصل الفصاحة والبلاغة وتأليف الكلام على أعلى طبقاتها ومحاسن بدايتها باسم القرآن، فأعجزهم عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه.
واعلم - رحمك الله - أن القرآن الكريم هو أعظم معجزة جاء بها النبى الحبيب صلى الله عليه وسلم، ففى الصحيحين من حديث أبى هريرة «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِىٍّ إِلاَّ قَدْ أُعْطِىَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِى أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَىَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
بل هو أعظم وأوضح فى الدلالة مما جاء به سيدنا عيسى عليه السلام من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص؛ فإن الذى أورده نبينا صلى الله عليه وسلم على العرب من الكلام أعجزهم عن الإتيان بمثله أعجب فى الآية؛ لأنه أتى أهل البلاغة وأرباب الفصاحة ورؤساء البيان والمتقدمين فى اللسن بكلام مفهوم المعنى عندهم، ثم تحداهم أن يأتوا بمثله , فكان عجزهم عنه أعجب من عجز من شاهد المسيح عند إحياء الموتى؛ لأن قريشًا كانت تتعاطى الكلام الفصيح والبلاغة والخطابة، فدل على أن العجز عنه إنما كان ليصير علمًا على رسالته، وصحة نبوته، وهذه حجة قاطعة وبرهان واضح , قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[سورة الإسراء، الآية 88].
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}[سورة هود، الآية 13].
وقال تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[سورة الطور، الآية 34].
وقد وردت بعض الأخبار فى إقرار بعض المشركين، الذين كانوا من أهل الفصاحة والبلاغة بإعجاز جمل من القرآن الكريم لما سمعوها، منها ما رواه مسلم فى حديث إسلام أبى ذر، لما جاءه أخوه أنيس بخبر النبى صلى الله عليه وسلم، وكان أنيس أحد الشعراء , قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدى أنه شعر والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون.
فالقران معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم الباقية بعده إلى يوم القيامة، وأما معجزة كل نبى فإما إنها انقرضت من بعده، أو دخلها التبديل والتغيير كالتوراة والإنجيل.
واعلم أن هذه المعجزات التى ظهرت على يد نبينا صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته وبراهين صدقه جمعت بين أنواع المعجزات التى سبقت لمن جاء قبله من الرسل، وهو صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء معجزة، وأبهرهم آية وأظهرهم برهانًا؛ فإنّ معجزاته ليست محصورة على ما كان منها فى عصره صلى الله عليه وسلم، بل لم تزل تتجدّد بعده صلى الله عليه وسلم على تعاقب العصور، وإلى يومنا هذا صلوات ربى وتسليمه عليه.
المبحث الرابع: أهمية الكلام على معجزات النبى صلى الله عليه وسلم
اعلم أن هذه المعجزات التى أجراها الله عز وجل بإذنه لنبينا صلى اله عليه وسلم، ولغيره من الأنبياء عليهم السلام، التى لا يقدرُ أحد من الناس أن يأتى بمثلها، إنما ذلك لحكمة عظيمة منه تبارك وتعالى، وهى إقامة الحجة على خلقه فى تصديق أنبيائه ورسله حتى يتبعوا ما أرسله إليهم , قال تعالى {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}[سورة النساء، الآية 165] , وقال تعالى {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}[سورة طه، الآية 134].
وتظهر أهمية بيان معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم من خلال الآتى:
1- أنها تثبت أفئدة المؤمنين الموحدين، وتبعث فيهم الطمأنينة والفرح والسرور والاعتزاز بدينهم الحنيف.
فمثل هذه المعجزات تزيدنا إيمانًا وتثبيتًا وطمأنينة وفرحًا , فأمر يخبر عنه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرن يقع الآن، ويتحقق ويراه كل صاحب عقل , فهذه منة من الله عز وجل على هذه الأمة.
2- أنها تؤكد على أن السنة النبوية وحى إلهى محفوظ من الله تبارك وتعالى رغم أنف الكافرين الحاقدين.
3- أنها بينت لنا بعض السلبيات التى ينبغى تجنبها والتحذير منها , فلقد اشتملت جملة منها على بعض الزلات التى ستقع فيها الأمة، وحذرت وأنذرت مما به يمكن الوقوف على أخطائنا ومعرفة كيفية علاجها.
4- أنها تدفع شبه البعض ممن يسمون أنفسهم بالعلمانيين - هداهم الله - الذين يقول بأن الشريعة إنما كانت لزمن الصحابة فقط، ولا تصلح لزماننا، ويريدون تنحية شرع الله , والصواب أن الدين الإسلامى صالح لكل زمان ومكان، وهو كفيل بإذن الله بإسعاد البشرية كلها، وأنه الدين الذى لا يزيده الزمن إلا جِدَّة , فلقد جمع وبين وعالج كل شىء، كما ورد فى صحيح مسلم أن بعض المشركين قال لأحد الصحابة رضى الله عنهم: قد علمكم نبيكم كل شىء حتى الخراءة.
5- أنها ترد على من ينكر بعقله بعض الأحاديث التى وردت فى صحيح السنة النبوية , والصواب الإيمان الكامل بكل ما جاءت به السنة الصحيحة , فكم من أناس فى القرون المتقدمة أنكروا أحاديث؛ لأنهم أعملوا فيها عقولهم الضعيفة كالفلاسفة وغيرهم، الذين أنكروا انشقاق القمر، متمسكين بأن الأجرام العلوية لا يتهيأ فيها الانخراق والالتئام، مع أن انشقاق القمر متواتر منصوص عليه فى القرآن، مَروىٌّ فى الصحيحين وغيرهما من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة رضى الله عنهم أجمعين؛ ثم يسر الله تعالى لعلماء العصر الحديث من الطب والفلك وغير ذلك الوقوف على الأدلة المادية التى تؤكد على صحة هذه الأحاديث؛ كحديث أنس - رضى الله عنه - فى انشقاق القمر، وهو متفق عليه، والذى اكتشف ذلك رجل كان على غير الإسلام، فكانت هذه المعجزة سببًا فى هدايته. وحديث أبى هريرة الذى رواه مسلم «طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» , وحديث أبى هريرة أيضًا الذى رواه البخارى «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِى شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِى إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالأُخْرَى شِفَاءً».
6- أنها حجة على بعض الفرق المبتدعة التى ظهرت فى البلاد، ممن ينكرون السنة النبوية، ولا يرون العمل بها.
7- أنها من الأدلة المادية التى تساعد كثيرًا فى الدعوة إلى الإسلام، فكم من أناس اهتدوا بعد توفيق الله عز وجل، ودخلوا فى دين الله بسبب هذه المعجزات الباهرات الواضحات , ثم هى حجة على من عاند واستكبر ورضى بغير الإسلام دينًا , قال تعالى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[سورة آل عمران، الآية 85].
المبحث الخامس: أمثلة من المعجزات من السنة النبوية التى وقعت فى زماننا أو تأكد وقوعها فى زماننا
الأول: الإخبار بغربة الإسلام.
روى الإمام مسلم فى صحيحه من حديث أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ».
ومعناه إن كانت الغربة المقصودة هى غربة الإسلام دينًا، فالمعنى أنه غريب، فالبلاد كانت كأنها ليست له، وتعاليمه ليست شائعة، وإنما مستغربة , وإن كانت الغربة لأهل الإسلام - وهو الأظهر - فالمعنى أنهم كانوا غرباء، أى قلة وسط الناس، كالغريب الذى بعد عن أهله , وكانوا غرباء بمعنى أن أحوالهم كانت مستغربة من أهل زمانهم، فكَوْنهم يتركون عبادة الأصنام التى أَلِفوها وعبدها آباؤهم، وينبذون ذلك، ويتوجهون إلى عبادة الواحد الأحد الفرد الصمد، فكان هذا أمر مستغرب , وأيضًا فإنهم تركوا الرذائل المميتات وتمسكوا بالفضائل الصالحات فكانوا مستغربين من قومهم.
وقوله صلى الله عليه وسلم «وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا» إخبار منه أنه سيقل المتمسكون به تمسكًا تامًّا كاملا، وستظهر البدع والخرافات , وستنقض بعض عرى الإسلام، حتى إن هؤلاء المتمسكين بدينهم سيصبحون مستغربين بين أبناء جلدتهم، فضلاً عن غيرهم من غير المسلمين، شأنهم فى ذلك شأن أسلافهم فى أول الدعوة.
سبحان الله ! وقد وقع هذا فى أيامنا هذه التى نحياها الآن، فالإسلام أصبح غريبًا , فالملتزمون به غرباء، والكثرة الكثيرة من أهله لا يعرفون حدوده ولا يلتزمون بأصوله , بل إن منهم من يعادى المتمسكين به، وأكثر من هذا أن من أهله من يحاربه إما نفاقًا وإما جهلًا.
وقد حدث هذا على مرأى ومسمع من الجميع، عندما خرج علينا من يسب الصحابة ويسب أمهات المؤمنين رضوان الله عليهم، وأصبح من يدافع عن عرضهم من المستغربين , وانظروا إلى من ينادى بتحكيم شرع الله عز وجل، بتحريم الخمر والربا والدعارة والشذوذ، كيف يحارب أشد المحاربة، ويتهم بأبشع الاتهامات، حتى إن بعضهم قال: هؤلاء يريدون غلق الخمارات، ومنع الربا من البنوك، وأن تلبس المرأة الحجاب , سبحان الله ! هذا من جنس قول قوم لوط {أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}[سورة النمل، الآية 56] وانظروا إلى بعض بنى جلدتنا، ممن قاموا بالسخرية والاستهزاء من بعض سنن النبى صلى الله عليه وسلم، كاللحية وتقصير الثياب إلى ما فوق الكعبين , والسواك , وغير ذلك , بل - والله - لقد خرج علينا أناس طعنوا فى النبى صلى الله عليه وسلم - وطعنوا فى رب العزة , تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا , وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أليست هذه غربة موحشة !!
لكن حسبنا قول النبى صلى الله عليه وسلم: «فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» ومعناه سعادة وقرة عين فى الدنيا والآخرة لهؤلاء الغرباء، الذين تمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم، وثبتوا على الحق فى زمن الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر، كما أخبر بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم.
الثانى: الإخبار عن التنافس فى الدنيا
روى البخارى ومسلم ضمن حديث طويل من حديث عمرو بن عوف أن النبى صلى الله عليه وسلم «فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّى أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ».
ومعناه أن النبى صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لا يخشى على أمته الفقر الذى كان يعيشه كثير من الصحابة من قلة الشىء، أو لا يخشى على أمته أى فقر , ولكنه يخاف علينا أن تفتح علينا زهرة الدنيا فتكثر الأمور المادية فيكثر أنواع الطعام والشراب والفراش والبناء والملبس والمركب , كما فتحت على من كان قبلنا من الأمم السالفة، فلقد فُتِحَت عليهم الدنيا فشغلتهم وألهتهم , فنتنافس فيها أى نرغب فيها ويحب كل منا الانفراد بالكثير منها، بل حرص بعضنا على أن يحصل منها على أكبر قدر منها، وأن يكون أعلى من غيره فى ذلك , فننشغل عن الإقبال على الآخرة بالإقبال على الدنيا، فيكون ذلك سببًا فى هلاكنا كما فيمن قبلنا.
وقد حدث هذا فى أيامنا التى نعيشها من بعض المسلمين ممن انشغلوا بالدنيا عن الدين يتعلمون للدنيا، فيتعلمون المحرمات والفجور، كمن يدرس الرقص والموسيقى وغير ذلك , وتجد آخرين فى تجارتهم أو عملهم طوال اليوم، فإذا سألته عن أمر من أمور الدنيا وجدته فاهمًا مستوعبًا، وإذا سألته عن أمور دينه وجدته جاهلًا مستغربًا , بل إن بعض المسلمين انشغل عن أولاده بالإقبال على العمل ليل نهار، فقصر فى حقهم، فخرج علينا شباب لا يبالون من أى مصدر حصل على ماله، وفتيات كاسيات عاريات، لا يلتزمن بزى المرأة المسلمة، كل ذلك للجو الذى يعيشونه من حب الدنيا، وإيثار الشهوات، وبعدهم عن طاعة رب الأرض والسماوات.
الثالث: الإخبار باجتماع الأمم على المسلمين
روى أبو داود وأحمد من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ. قال «قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ». فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ ؟ قَالَ «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ».
أى تدعو الأمم الكافرة بعضها بعضًا ليجتمعوا عليكم، يريدون كسر شوكتكم، والغلبة عليكم وسلب ما فى أيديكم من الأموال والديار والخيرات , ويفعلون ذلك من كل أفق أى من كل ناحية وجهة من جهات بلادكم , أو يتخطفونكم من كل ناحية من نواحى الحياة، فيتحكمون فى طعامكم وشرابكم، كما نرى الآن من اجتماع اليهود لعنهم الله علينا لحصار مياه النيل نسأل الله السلامة.
وبيَّن النبى الكريم صلى الله عليه وسلم أن ذلك ليس لقلة العدد، وإنما الأمة غثاء، كغثاء السيل والغثاء ما يكون فى القناة وهى جافة من نباتات يابسة وأشياء بالية، فيأتى السيل، فيحمل هذه الأشياء، ويلقيها فى جوانب مجراه؛ وهذا لقلة شجاعتهم وضعف شأنهم فكما أن الغثاء يحمله السيل حسب اتجاهه، فكذلك الأمة يسير أعداؤها من الكفار أمورها، ويتحكمون فى جوانب كثيرة منها.
ثم بيَّن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أن سبب ذلك الضعف والوهن حب الدنيا وملذاتها وشهواتها وكراهية الموت فى سبيل الله.
العودة لصفحة المؤتمر