منهج تحقيق كتب الحديث الشريف قديمًا وحديثًا
أ.د محمود عبد الخالق حلوة
أستاذ الحديث وعلومه بكلية أصول الدين - القاهرة
العودة لصفحة المؤتمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد..
فمن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى اصطفى من عباده رجالاً، اجتباهم وأعدهم ليبلغوا رسالات الله عز وجل، سواء كانوا من الملائكة أم من الناس. وقد بين القرآن الكريم هذا فى قول الله تعالى {اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[سورة الحج، الآية 75]. وقال تعالى {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}[سورة آل عمران، الآية 33].
وقد تعاقب إرسال الرسل من الله تعالى إلى عباده على مر العصور والأزمان، من لدُن آدم عليه السلام إلى أن بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فما من أمة وُجِدَت على ظهر الأرض إلا وقد أرسل الله تعالى إليها رسولاً، كما جاء فى قوله تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}[سورة فاطر، الآية 24] وقد اصطفى الله سبحانه وتعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم وجعله خاتم النبيين، فقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا}[سورة الأحزاب، الآية 40].
وكان إرسال النبى صلى الله عليه وسلم من أعظم النعم وأكرم المنن من الله عزَّ وجلَّ على عباده يشير إلى ذلك قول الله تعالى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ}[سورة آل عمران، الآية 164].
وحين أرسل الله عزَّ وجلَّ نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أرسله فى أمة أُمية، شاع فيها الجهل، خاصةً وأنه قد طال العهد بينهم وبين سيدنا إبراهيم وإسماعيل أبى العرب عليهما السلام، فشاعت فيهم الأمية وعدم العلم، حتى سموا بالأميين كما عبر القرآن الكريم عن ذلك، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ}[سورة الجمعة، الآية 2] وقد عُيِّرت أمة العرب بأميتها، واعتبرت الأمية مذمة وسبة تعاب بها أمة العرب عند أهل الكتاب؛ حيث كانوا ينتقصون من شأن هذه الأمة ولا يكترثون بها، يلمح إلى هذا المعنى، بل يؤكده قول الله تعالى {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة آل عمران، الآية 75].
فلما أرسل الله تعالى سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم أخرج هذه الأمة من الأمية إلى العلم، ومن البداوة إلى الحضارة.
وأَمْرُ إِنزال القرآن الكريم وتعهد الإله عزَّ وجلَّ بحفظه، وأنه جاء معجزًا لجميع الخلق فى كل شىء أَمْرٌ مُجمع عليه، وإذا كان هناك من يكفر بالقرآن فليس ذلك عن اقتناع، بل هو فى قرارة نفسه يعلم أن القرآن حق، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فى كل ما بلغه عن الله تعالى، حيث قال الإله عزَّ وجلَّ - وقوله الحق - {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}[سورة الأنعام، الآية 33] وأن من كفر بالقرآن إنما كفر به حسدًا وحقدًا على النبى صلى الله عليه وسلم، مما دعاهم للوقوف فى وجهه ومعاداته، وقد كتب القرآن الكريم كله بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحَفِظَه الصحابة فى صدورهم، هذا فيما يتعلق بالقرآن الكريم وحفظ الله تعالى له.
وكما أن الصحابة رضى الله عنهم أجمعين كانوا يرجعون فى كل أمرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة فيما يتعلق بأمر الدين والقرآن الكريم، فقد كانت عندهم غيرة عظيمة على كتاب الله تعالى، وحرص شديد على حفظه وتلاوته حق التلاوة؛ لأنهم يعلمون أنه كلام الله عزَّ وجلَّ.
روى الإمام البخارى - رحمه الله - « تعالى بسنده إلى الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ الْقَارِىِّ، حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِى الصَّلاَةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِى سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ؛ فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ إِنِّى سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِى سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ يَا عُمَرُ، فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِى أَقْرَأَنِى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ » (1).
ومن المعلوم أن الحديث النبوى الشريف فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم كان محفوظًا من كذب الدجالين وتزييف المنافقين، فقد كان الوحى ينزل على النبى صلى الله عليه وسلم، فيكشف ما عسى أن يبيتوه للدين من كيدهم ويزيفوه من قولهم، وكان المنافقون يعلمون ذلك ويحذرونه، كما بين الله عز وجل، إذ يقول سبحانه {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِى قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ}[سورة التوبة، الآية 64] لذلك لم يجرأ أحد على إفساد الدين فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بتزييف حق، أو إدخال باطل، ولو فعلوا لفضحوا.
أما السنة النبوية المشرفة: فقد حفظها الصحابة فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكُتِبَ بعضها فى حياته صلى الله عليه وسلم، وتدارسها الصحابة والتابعون فيما بينهم بعد أن لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وحافظ الصحابة على ما كتبوه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم تمتد إليه يد أحد من الناس بتحريف أو تبديل أو زيادة أو نقصان.
يدلنا على ذلك ما رواه مجاهد قال: أتيت عبد الله بن عمرو، فتناولت صحيفة من تحت مفرشة فمنعنى، قلتُ: ما كنتَ تمنعنى شيئًا ! قال: هذه الصادقة؛ هذه ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بينى وبينه أحد، إذا سلمت لى هذه، وكتاب الله تبارك وتعالى والوهط، فما أبالى ما كانت عليه الدنيا. بل ذكر عبد الله بن عمرو أنه ما يُرغب إليه الحياة ويجبها إليه إلا خصلتان، ولولاهما ما رغب فى الحياة.
فعن ليث، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: ما يرغبنى فى الحياة إلا خصلتان: الصادقة والوهط.
فأما الصادقة فصحيفة كتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الوهطة فأرض تصدَّق بها عمرو بن العاص كان يقوم عليها (2). وهذه الصحيفة قد أخرج الإمام أحمد بن حنبل قسمًا كبيرًا من أحاديثها فى مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما، وذلك فى كتابه " المسند "، ولهذه الصحيفة أهمية علمية عظيمة؛ حتى إنه يصح لنا أن نصفها بأنها أصدق وثيقة تاريخية تُثْبِتُ كتابة الحديث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يديه، عليه وعلى آله الصلاة والسلام (3).
وأما الخلفاء الراشدون فكانت لهم مناهجم الدقيقة فى التثبت من الأخبار وتوثيقها، كما هو مبسوط فى كتب علوم الحديث ومناهج المحدثين، مما يثير العجب فى دقتهم. ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحلون إليه لمعرفة كل ما يتعلق بأمور دينهم، كما فعل ضمام بن ثعلبة رضى الله عنه، فقد جاء وافدًا من قبل قومه بنى سعد بن بكر، وبعد أن سأل عن كل ما يريد أن يسأل عنه قال للنبى صلى الله عليه وسلم بعد أن أجابه عن كل ما سأل: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِى مِنْ قَوْمِى وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِى سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ (4).
فلما التحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى كان الرجل من الصحابة يرتحل شهرًا كاملاً ليسمع حديثًا بلغه عن النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن قد سمعه منه، كما حدث من جابر عبد الله رضى الله عنهما حين اشترى بعيرًا وارتحل عليه حتى أتى عبد الله بن أنيس بالشام فسأله عن حديث كان عبد الله بن أنيس قد سمعه من النبى صلى الله عليه وسلم، وقد استغرقت هذه الرحلة شهرًا كاملاً، كما ذكر جابر بن عبد الله رضى الله عنهما، ولقد أخرج الإمام أحمد بن حنبل فى مسنده حديث عبد الله بن أنيس رضى الله عنه - بسنده إلى عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله رضى الله عنهما يقول: بَلَغَنِى حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلِى، فَسِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا؛ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الشَّامَ؛ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ: قُلْ لَهُ جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ، فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَخَرَجَ يَطَأُ ثَوْبَهُ، فَاعْتَنَقَنِى وَاعْتَنَقْتُهُ، فَقُلْتُ: حَدِيثًا بَلَغَنِى عَنْكَ أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى الْقِصَاصِ؛ فَخَشِيتُ أَنْ تَمُوتَ أَوْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ قَالَ الْعِبَادُ عُرَاةً غُرْلاً بُهْمًا قَالَ: قُلْنَا: وَمَا بُهْمًا؟ قَالَ لَيْسَ مَعَهُمْ شَىْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ وَلاَ يَنْبَغِى لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ؛ حَتَّى أُقِصَّهُ مِنْهُ، وَلاَ يَنْبَغِى لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ؛ حَتَّى أُقِصَّهُ مِنْهُ حَتَّى اللَّطْمَةُ. قَالَ: قُلْنَا كَيْفَ وَإِنَّا إِنَّمَا نَأْتِى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عُرَاةً غُرْلاً بُهْمًا؟ قَالَ: بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ.
وزاد الإمام الحاكم فى روايته قال: وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}[سورة غافر، الآية 17]، ثم قال صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وقد أقره الذهبى فقال: صحيح.
ويلاحظ أنه قد وقع وهم فى رواية الحاكم لهذا الحديث، حيث جاء فى لفظ الحديث: «ثم سرت شهرًا حتى قدمت مصر، فأتيت عبد الله بن أنيس». والصحيح ما جاء فى رواية الإمام أحمد «فسرت إليه شهرًا؛ حتى قدمت عليه الشام»، وهذا الوهم يُفهَم، ولا يعرف من رجوعنا إلى ترجمة عبد الله بن أنيس؛ فإنه كان بالشام وتوفى بالشام (5).
كما رحل أبو أيوب الأنصارى رضى الله عنه إلى عقبة بن عامر رضى الله عنه، بمصر ليسمع منه حديثًا كان عقبة بن عامر سمعه من النبى صلى الله عليه وسلم، كما سمعه أيضا أبو أيوب من النبى صلى الله عليه وسلم، ولكنه خشى أن يكون قد نسيه.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَرَكِبَ أَبُو أَيُّوبَ إِلَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ إِلَى مِصْرَ، فَقَالَ: إِنِّى سَائِلُكَ عَنْ أَمْرٍ لَمْ يَبْقَ مِمَّنْ حَضَرَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ أَنَا وَأَنْتَ، كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِى سَتْرِ الْمُؤْمِنِ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ سَتَرَ مُؤْمِنًا فِى الدُّنْيَا عَلَى عَوْرَةٍ سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » فَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَا حَلَّ رَحْلَهُ يُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ (6). وفى رواية عطاء: «من ستر مسلمًا على خزية ستره الله يوم القيامة».
فارتحال أبى أيوب الأنصارى؛ إنما كان من أجل التثبت من صحة ما يحفظه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وخشية من أن يكون قد نسى شيئًا من هذا الحديث الذى ارتحل من أجله.
وهكذا نرى أن حياة الصحابة والتابعين كانت مذاكرة للحديث، وحفظًا له، وتثبتًا من صحته إلى أن أُلِّفَت الكتب، وكان تحقيقها على هذا المنوال السابق، يعتمدون على الحفاظ المتقنين فى عرض الكتب عليهم لتحقيقها، والتثبت من صحة ما جاء فيها.
أما منهج تحقيق كتب الحديث الشريف حديثًا فيمكن شرحه على ضوء الممارسة العملية، التى قمت بها فى تحقيق بعض من أجزاء كتب الحديث أثناء كتابتى لرسالتى الماجستير والدكتوراة، وقد كانت رسالة الماجستير بعنوان:
القسم الخامس من السنن الكبرى للإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن على البيهقى 458هـ - تحقيق أحاديثه وضبطها وتخريجها، وبيان درجة كل منها، مع التعليق عليها عند الحاجة، إشراف الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين والدكتور مروان محمد شاهين، وكانت رسالة الدكتوراه بعنوان:
القسم الثالث من المعجم الكبير للإمام الحافظ أبى القاسم سليمان بن أحمد الطبرانى المتوفى سنة 360 هـ ضبط أحاديثه وتخريجها، وبيان درجة إسناد كل منها، مع التعليق عليها عند الحاجة - إشراف الأستاذ الدكتور محمد السيد ندا، والأستاذ الدكتور بهاء محمد الشاهد.
أما عن المنهج الذى اتبعته وسرت عليه فى التحقيق فهو البحث أولاً عن النسخ الخطية، التى يمكن الاعتماد عليها فى التحقيق، سواء بالنسبة لرسالة الماجستير أو الدكتوراه. أما رسالة الماجستير فقد عثرت على مخطوطتين بدار الكتب المصرية، إحداهما تحت رقم 259، والأخرى تحت رقم 619 والرمز لها (حديث). وقد وجدت بإحدى المخطوطتين ما يفيد بأن بعضها قد عرض على الإمام أبى الحجاج المزى، وبعضها جاء سماعًا منه، وهى المخطوطة رقم 619، وتوجد هذه النسخة فى قسم المخطوطات تحت رقم 619 والرمز لها (حديث)، ولا يوجد منها فى قسم المخطوطات بدار الكتب غير هذا المجلد الثانى، والذى كان يوجد به نصوص بحثى بفضل الله تعالى، ويعتبر هذا المجلد الثانى فى غاية من الأهمية بالنسبة لكل المخطوطات التى كتبت فى السنن الكبرى للإمام البيهقى؛ حيث إن هذا الجزء وجدت فيه ما يفيد أن بعضه قد جاء عن طريق العرض على الإمام الحافظ المزى محدث الشام: جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الزكى عبد الرحمن بن يوسف القضاعى، والمتوفى سنة 742هـ، والذى قال عنه الإمام الذهبى: وأما معرفة الرجال فهو حامل لوائها، والقائم بأعبائها، لم تر العيون مثله عمل كتاب تهذيب الكمال فى مائتين وخمسين جزءًا، وخرج لنفسه، وأملى مجالس، وأوضح مشكلات ومعضلات ما سبق إليها فى علم الحديث ورجاله، وكان ثقة حجة كثير العلم حسن الأخلاق، وقد أثبت كاتب هذا الجزء وراويه العبارة التالية: بلغ مقابلة وسماعًا على شيخنا أبى الحجاج المزى، وذلك فى آخر صحيفة من الجزء الثانى. وهى التى اعتمدت عليها فى التحقيق.
وبالمقارنة بين النسختين 259 و 619 يتضح الآتى بالنسبة للنسخة رقم 259:
أولاً: أنها كثيرة السقط فى الأسانيد والمتون.
ثانيًا: أن راويها يدمج بعض المتون ببعض بعد حذف سند المتن الذى يدمجه.
ثالثًا: عدم الدقة عند ذكر أسماء الرجال فى الإسناد، مع أنها أسماء مشهورة مذكورة فى روايات كتب الصحاح، وأيضًا لعدم الدقة فى ضبط ألفاظ الرواية، مما يدل على عدم تخصص راويها وكاتبها. وأما نسخة أبى الحجاج المزى فلم أجد فيها شيئًا من هذه الأمور، بل كانت نسخة غاية فى الجودة؛ لأنه إمام من أهل الصنعة، وقد ذكرت فى الرسالة بعض أمثلة وقارنت بينها فى المخطوطتين، وما يوجد فيها من سقط فى الأسانيد والمتون، ودمج بعض المتون ببعض بعد حذف سند المتن الذى يدمجه، وأيضًا عدم الدقة فى ذكر أسماء الرجال فى الإسناد، وعدم الدقة فى ضبط ألفاظ الرواية فى النسخة رقم 259، وحيث خلت النسخة الثانية رقم 619 من هذا كله تمامًا. ويرجع كل هذا إلى أن الذى قرئت عليه النسخة 619 وسمعت منه هو الإمام المزى، حامل لواء معرفة الرجال والقائم بأعبائها، كما قال الإمام الذهبى، رحمهما الله تعالى.
أما رسالة الدكتوراه فلم يتوفر للباحثين سوى مخطوطة واحدة، والأجزاء التى طبعت من كتاب المعجم الكبير، وتقع نسخة هذه المخطوطة فى اثنى عشر مجلدًا، وتوجد فى مكتبة أحمد الثالث بتركيا، وقد قام معهد إحياء المخطوطات العربية بتصويرها تصويرًا جيدًا واضحًا، إلا فى بعض صفحات قليلة منها تكاد تكون مطموسة، ولا تقرأ إلا بصعوبة بالغة، وقد قمت بالتصوير من هذه المصورة. أما الجزآن الأول والثانى فكان بهما القسم الخاص برسالتى، وهذه النسخة عليها سماعات كثيرة قد قرأتها، وذكرت نصها فى الرسالة رغم صعوبة قراءتها، وقمت بتحليلها وشرحها. أما السماع الأول - وهو مثبت فى الورقة الأولى من المجلد الأول وبعض الورقة الثانية - فدل على:
1- أن هذه النسخة قد حوت كتاب المعجم للإمام الطبرانى - رحمه الله تعالى - برواية ابن ريذه عنه، ورواية فاطمة الجوزدانية عنه، ورواية فاطمة بنت سعد الخير عنها، وسماع أبى الحسن على بن سكر بن أحمد بن شكر عليها.
2- أن هذه النسخة قد نقلت من أصل قد كتب، وعُورِضَ بأصل سماع الصوفى بأصبهان.
3- أن الأصل الذى نقلت منه هذه النسخة قد قابله الشيخ الحافظ عبد الغنى بن عبد الواحد المقدسى على الأصل الذى عليه سماع فاطمة بنت سعد الخير الموقوف، بدمشق وقد أثبت ذلك الحافظ عبد الغنى، وكتبه على الأصل الذى نقلت منه هذه النسخة.
4- أن الأصل الذى عليه سماع فاطمة بنت سعد الخير الموقوف بدمشق - والذى قابله عليه الحافظ عبد الغنى المقدسى - قد قرأه الحافظ أبو نصر الحسن بن محمد اليونارتى وكتب عليه: قرأ الحسن بن محمد بن إبراهيم جميع كتاب المعجم الكبير للطبرانى رحمه الله تعالى على الشيخة أم إبراهيم فاطمة بنت عبد الله بن أحمد بن القاسم الجوزدانية بحق سماعها من ابن ريذه عن الطبرانى فسمعه الشيخ الإمام سعد الخير بن محمد بن سهل الأنصارى رزق نفعه وابنتاه فاطمة حضرت وزينب أحضرت وأماهما بنات شفيقة وعائشة الحبشية وصح لهم ذلك بأصبهان فى منزل نزله الشيخ الإمام بدرب هارستاه على باب الجامع العتيق وصح لهم ذلك السماع فى ربيع سنة أربع وعشرين وخمسمائة بأصبهان.
5- أن هذه الحقائق قد نقلها الشيخ على بن سكر بن أحمد بن شكر على ما شاهده مكتوبا على أصل الحافظ عبد الغنى رحمه الله قال على بن سكر صاحب هذا الكتاب:
وكتب هذه الأسطر على بن سكر بن أحمد بن شكر على ما شاهده مكتوبًا على أصل الحافظ عبد الغنى الذى سمعنا ما فيه على فاطمة بنت سعد الخير بالإسناد المذكور فى أول الكتاب ووقعت الكتابة فى سلخ المحرم سنة سبع وتسعين وخمسمائة.
وفى نهاية الجزء الأول من المخطوطة وفى ص150 وجد فى أعلى الطرف الأيمن منها ما يلى:
بلغ عثمان بن محمد بن عثمان التوزرى قراءة ولله الحمد والمنة. اهـ. وعثمان بن محمد بن عثمان التوزرى هو شيخ الإمام الكبير أبى عبد الله شمس الدين محمد الذهبى.
وقد قرئت هذه النسخة عدة مرات وحضر قراءتها وسماعها جمع كبير من العلماء وهذا بيان ببعض القراء وبمن قرءوا عليهم:
1- الشيخ الحسن بن محمد بن إبراهيم على الشيخة أم إبراهيم فاطمة بنت عبد الله الجوزدانية وجمع.
2- الشيخ فخر الدين أبى عمرو عثمان بن محمد بن عثمان التوزرى على الشيخ المقرئ المجيد محيى الدين أبى الفتح عبد الهادى بن عبد الكريم القيسى، ولكل منهما قراءة أخرى وسماع مثبت على النسخة.
3- كما قرئ الكتاب على شيخ الإسلام محمد قطب الدين بن الخيضرى سنة 888 هـ.
4- وكذلك تم السماع لجميع الجزء الأول على الشيخ الفقيهة الصالحة فاطمة بنت الشيخ أبو الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل الأنصارى بحضرة الحافظ عبد الغنى بن عبد الواحد وغيره من العلماء كثير وذلك فى مجالس آخرها فى الشهر الأول سنة أربع وتسعين وخمسمائة وذلك بحارة الروم بالقاهرة.
كما بلغ هذا الكتاب مقابلة - وتصحيحًا على أصل السماع الذى هو لفاطمة بنت سعد الخير، ويلاحظ فى كل السماعات التى وجدت ذكر لأسماء من حضر ومن قرأ ومن سمع له ليدل ذلك على أن منهج التحقيق يستلزم الأمور التالية:
أولا: يجب البحث عما يمكن الوصول إليه من المخطوطات والمقارنة بينها بعد جمعها.
ثانيًا: يجب الاهتمام بقراءة السماعات التى توجد على الكتب لأهميتها.
ثالثًا: يجب أن لا يعمل فى هذا المجال إلا المتخصصون ومن عندهم علم بهذا.
رابعًا: بقدر ما نجد فى السماعات من وجود علماء قد تداولوا المخطوط فيما بينهم بقدر ما يكون للمخطوط من أهمية فى دقة التحقيق.
خامسًا: إخلاص النية لله تعالى حتى يعلمنا الله عز وجل {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ}[سورة البقرة، الآية 282] وصلى الله على سيدنا محمد النبى الأمى وعلى آله وصحبه وسلم.
أ.د. محمود عبد الخالق حلو
العودة لصفحة المؤتمر
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحديث أخرجه الإمام البخارى فى كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف (3/1049 ط المكنز)، كما أخرجه الإمام مالك فى كتابه الموطإ، كتاب القرآن، باب ما جاء فى القرآن (1/159 ط مصطفى البابى الحلبى).
(2) تقييد العلم للخطيب البغدادى (84، 85)، وسنن الدارمى 1/127 باب من رخص فى كتابة العلم.
(3) علوم الحديث ومصطلحه للدكتور صبحى الصالح ص27 ط دار العلم للملايين - بيروت 1982م.
(4) صحيح البخارى: كتاب العلم، باب ما جاء فى العلم، وقوله تعالى {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِى عِلْمًا} 1/19 كما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائى وابن ماجه، وغيرهم.
(5) مسند الإمام أحمد 3/495، والمستدرك على الصحيحين للحاكم 2/437-438، وتهذيب التهذيب لابن حجر 5/150.
(6) مسند الإمام أحمد 4/159 حديث عقبة بن عامر الجهنى.