كلمة فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر

الدكتور أحمد الطيب

فى افتتاح المؤتمر الأول لخدمة السنة النبوية

العودة لصفحة المؤتمر

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . 

أَمَّا بَعْدُ : 

فإن الأزهر الشريف لَيدرك غاية الإدراك أن هذه الشريعةَ الخاتمةَ شريعةَ الإسلامِ لها جناحان عظيمان تحلق بهما عاليًا فوق كل ضلال وبهتان ، هذان الجناحان العظيمان هما القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة ، يقول الله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}[سورة النساء الآية 113] الآية . قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - فى تفسير هذا النص القرآنى الكريم : «ثم امتنَّ عليه بتأييده إياه فى جميع الأحوال ، وعصمته له ، وما أنزل عليه من الكتابِ وهو القرآنُ ، والحكمةِ وهى السنةُ» ويقول الله تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى}[سورة النجم الآيتان 3 ، 4] وفى مسند الإمام أحمد - رحمه الله - عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ الْكِنْدِىِّ - رضى الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَلا إِنِّى أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلا إِنِّى أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»(*) 

فقوله - صلى الله عليه وسلم - «وَمِثْلَهُ مَعَهُ» إشارة إلى سنته المطهرة ، وبيان تلازمها الأصيل مع القرآن الكريم . 

هذا وقد جعل الله - تعالى - طاعةَ رسولِهِ - صلى الله عليه وسلم - طاعةً له - تعالى - فقال عز وجل {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[سورة النساء الآية 80]

ولقد تكفل الله - تبارك وتعالى - لهذه الأمة بحفظ شريعتها ، فلم يَلْحَقْهَا عبث العابثين ، ولم تَنَلْ منها شبهات المبطلين بالتحريف والطعن والتبديل ، يقول الله تبارك وتعالى {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[سورة الصف الآية 8] ويقول عز وجل {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[سورة الحجر الآية 9] فلله الحمد والمنة على تلك العناية الربانية بالحفظ والتأييد ، وإن من حفظِ هذا الذكرِ الحكيمِ حفظَ بيانِهِ الذى تَكَفَّلَتْ به السنة النبوية الشريفة تنفيذًا للتوجيه الإلهى الحكيم فى قوله تعالى لرسوله الأمين {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[سورة النحل الآية 44]

ولقد تميز الأزهر الشريف على امتداد تاريخه العريق بالتزامه الدائم بحمل لواء الحفاظ على جناحى هذه الشريعة الخاتمة ، والاعتناء بِوَحْيَيْهَا العظيمين وهما القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة اعتناء بالغًا يتمثل فى مناهجه الدراسية، وكلياته المتخصصة فى علوم الكتاب العزيز والسنة النبوية، والشريعة والعقيدة المستمدتين منهما ، ليترجم بذلك عن حبه لربه ونبيه ، واعتزازه بدينه ، ودفاعه عن ثوابته وركائزه ، وهذا هو سر شموخ الأزهر وارتقائه ، ولذلك لن يفلح أعداء الإسلام فى النَّيْلِ من هذا الدِّين فى شخص هذا الصرح الشامخ الراسخ ، لأنه يستمد رسوخه وشموخه ومكانته العالمية من خلال حَمْلِهِ رسالةَ هذين الْوَحْيَيْنِ العظيمين القرآن والسنة ؛ لذلك حَرَصْتُ كُلَّ الحرصِ على أن يكون الأزهر الشريف راعيًا لهذا المؤتمر الدولى الكريم الجامع لعلماء الحديث وأساتذته وأستاذاته وطلابه وطالباته من داخل مصر وخارجها ، وذلك لإيمانى العميق بأهمية تفعيل دور السنة النبوية المشرفة فى صنع ثقافة الأمة الإسلامية ، وتجديد جوانب حياتها المعاصرة والمقبلة ، وصمودها فى مواجهة التحديات والعقبات والفتن والمحن التى تمر بها وتجتمع عليها من أقطارها ، حتى يتحقق لها الوعد الحق المبين من رسولها الخاتم الأمين ، حيث قَالَ «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ» (**)

وفى جامع الإمام الترمذى عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ - رضى الله عنه - قَالَ : وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا بَعْدَ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ ، فَقَالَ رَجُلٌ : إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ : «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِىٌّ ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلاَلَةٌ ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» (***) .

فالنبى - صلى الله عليه وسلم - هو المبلِّغُ عن ربه ، وَسُنَّتُهُ هى المبينة لكتابه الكريم ، وهو الرسول المعصوم ، والسراج المنير ، والهادى البشير ، والأسوة الحسنة ، يقول الله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [سورة الأحزاب الآية 21] ويقول الله - تبارك وتعالى - أيضًا : {يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}[سورة الأحزاب الآيتان 45 ، 46]

ومن الجدير بالذكر : أنى كنتُ متابعًا لجهود جمعية المكنز الإسلامى فى سبيل العناية بالسنة النبوية المشرفة ونشر تراثها تأليفًا وتحقيقًا علميًّا دقيقًا ، وَهَا أَنَا ذَا أَسْعَدُ برعاية هذا المؤتمر المبارك الذى تنظمه هذه الجمعية المباركة ، فقد أعجبنى المؤتمرُ فى فكرته وموضوعه وعنوانه «السنة النبوية بين الواقع والمأمول» ، فما أحوجنا فى ذلك العصر إلى عَمَلٍ جَادٍّ وعلمٍ هَادٍ من أجل نشر السنة النبوية والعناية بمصادرها من خلال مؤلفات وبحوث تُقَرِّبُهَا للناس وتأخذ بأيديهم إلى رحاب التوسط والاعتدال ، ومن خلال تحقيق علمى رصين أيضًا يُحْيِى تُرَاثَهَا المخطوطَ وَيُجَنِّبُهُ التصحيف والتحريف الذى طرأ نتيجة مزاحمة غير المؤهلين وغير المتخصصين لأهل العلم فى هذا المضمار المقدس الشريف . 

وفى هذا الصدد يمكن القول : إنه مما لا يخفى على القاصى والدانى أن الحركة العلمية الحديثة فى مجال تنقيح علوم السنة النبوية المشرفة وتحقيقها وتصحيحها كانت ريادتُهَا - بلا شك - نابعةً من علماء الأزهر الشريف وتلامذتهم فى ربوع العالم أجمع ، وقد تَمَثَّلَتْ هذه الريادةُ فى ظهور الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - الذى تخرج فى علم الحديث على يد والده الشيخ العالم محمد شاكر وكيل الجامع الأزهر فى وقته ، وبروز الشيخ السيد أحمد صقر ، والشيخ محمد محيى الدين عبد الحميد ، الذى أسهم بتحقيقاته الحديثية وإشرافه العلمى على بحوث ومطبوعات علوم السنة النبوية أيما إسهام ، وكذلك الشيخ المبارك محمود خطاب السبكى شارح سنن أبى داود ، والشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف ، رحمهم الله جميعًا ، فما زالت أعمالهم فى إحياء وتقريب علوم السنة النبوية متداولة حتى الآن ، وعلى أيديهم وأيدى تلامذتهم داخل مصر وخارجها عاد لمدرسة الحديث شىءٌ كبيرٌ جدًّا من تقدمها وحيويتها وصحوتها فى العصر الحديث ، وقد أينعت هذه الصحوة ثمارها فى إخراج الكثير من تراث السنة المخطوط والعناية به وفتح الطريق أمامنا فى هذا المجال المقدس وتحويله إلى حركة دائبة فى خدمة السنة المشرفة وتحقيق مصادرها وإخراج كنوزها . 

ومن هذا المنطلق أغتنم الفرصة من خلال هذا المؤتمر المبارك لأرحب بعلماء الحديث وأساتذته وطلابه والمهتمين به من المؤسسات الخيرية مطالبًا إياهم بمضاعفة جهودهم المخلصة فى خدمة السنة النبوية المطهرة وإحياء تراثها بمختلف الوسائل والإمكانات المكتوبة والمرئية والمسموعة راجيًا الله - عز وجل - أن يوفقهم للوصول إلى نتائج طيبة مباركة فى إطار بيان واقع السنة النبوية ونقد ما تشهده الساحة من مزاحمات فى هذا المجال نقدًا علميًّا بناءً يهدف للتقويم والإصلاح والوصول إلى الهدف المأمول المتمثل فى العناية بالسنة النبوية وتحقيق مصادرها تحقيقًا علميًّا دقيقًا يتيح لنا الإفادة منها فى ضروب حياتنا ومواجهة تحديات أمتنا التى تحيا وتعيش فى ظل عولمة كاسحة ، وظلم مستشرٍ ، وانحياز دولى جائر ، وهيمنة على مستقبلها وتطلعاتها . 

من أجل ذلك فإن الأزهر الشريف ليشرفه رعايةُ السنة النبوية وعلمائها وطلابها والمشتغلين بها مادًّا يدَ العون لكل الجهود المخلصة الرامية إلى خدمة السنة والحفاظ عليها ونشرها وتفعيل دورها فى النهوض بمستقبل الأمة . 

كما أجدد الترحاب بعلماء الحديث وأساتذته وطلابه فى مصرهم وأزهرهم ، واللَّهَ أسألُ أن يبارك فيكم وفى جمعكم الكريم ومؤتمركم الطيب الجميل ، وأن يحسن نياتكم ، وأن يرزقنا وإياكم مثوبته وتوفيقه ، إنه ولى ذلك والقادر عليه ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

 

(*) مسند الإمام أحمد 17447 .

(**) موطأ الإمام مالك 1628 .

(***) الترمذى 2891 .

 

العودة لصفحة المؤتمر