جهود أهل العلم فى نشر كتب السنة النبوية

أ.د. محمد محمود هاشم

عميد كلية أصول الدين والدعوة بالزقازيق

العودة لصفحة المؤتمر   

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذى رفع بعض خلقه على بعض فى الدرجات والمنازل، وميَّز بين الخبيث والطيب بمحكمات الدلائل، وتفرد بالملك، وإليه ينتهى مطلب كل طالب وسؤال كل سائل. أحمده سبحانه وتعالى على ما منَّ به من نعمه التى لا تحصى بعدِّ الأنامل. 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا شبيه، ولا مماثل، الناقد البصير، فلا تخفى عليه خافية، وما الله بغافل، الحكم العدل فلا يظلم مثقال ذرة، بل هو الحكيم العادل. 

وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، المبعوث بالآيات البينات واضحات الدلائل، الآمر بتنـزيل الناس ما يليق بهم من المقامات والمنازل، اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه السادات الكرماء العلماء الأفاضل. 

أما بعد: 

فإن القرآن الكريم هو المصدر الأول من مصادر التشريع الإسلامى، وقد تكفَّل الله تعالى بحفظه فقال {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[سورة الحجر، الآية 9]، والسنةُ النبويةُ لها منزلة عظيمة فى الدين، ومكانة فى التشريع؛ إذ هى المصدر الثانى من مصادر التشريع بعد كتاب الله تعالى، فهى المبينة لمبهمه، الموضحة لمشكله، المفصلة لمجمله، المقيدة لمطلقه، المخصصة لعامه. 

قال الله تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[سورة النحل، الآية 44]، وقال أيضًا {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة النحل، الآية 64].

والسنة النبوية هى كل ما أُثر عن النبى صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خُلقية، أو خَلقية، حتى الحركات والسكنات فى اليقظة والمنام قبل البعثة وبعدها. 

وهى كما أنها وحى من قبل الله تعالى وجاءت موافقة ومطابقة لما فى القرآن؛ فإنها أيضًا قد استقلت بأحكام لم يرد فى القرآن الكريم نص عليها. 

ولما كان للسنة النبوية هذه المكانة، فقد تكفَّل الله تعالى بحفظها هى الثانية، فقيَّض لها الصحابة والتابعين وأتباعهم وعلماء المسلمين على مدى الأيام للعناية بها، وتدوينها ورعايتها وصيانتها، فبذلوا فى المحافظة عليها كل غال ونفيس. 

فالاشتغال بالسنة النبوية وعلومها لم يزل شأن العلماء قديمًا وحديثًا، وقد ندب النبى صلى الله عليه وسلم إلى الأخذ منه والتبليغ عنه؛ لكون أحاديثه بيانًا لكتاب الله تعالى، فقال صلى الله عليه وسلم « نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ »  (1)

إذن فستظل حاجتنا إلى السنة النبوية وعلومها لازمة دائمة كحاجتنا إلى القرآن الكريم وعلومه أبد الدهر، وشأنها مع القرآن الكريم شأن البيان مع المبيَّن؛ لذا لا يصح فصلها عنه، ولا فهمه وتطبيقه فى حياة الأمة الإسلامية دون الرجوع إليها. 

فالحاجة إلى السنة المطهرة قرينة الحاجة إلى القرآن الكريم، وكلاهما مكمِّل للآخر؛ لا يستغنى عنه؛ لذلك فإن خير ما يُنفق المسلم فيه وقته ويبذل فيه جهده - هو خدمة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. 

ومن هنا كانت جهود العلماء المتنوعة فى جميع القرون - قرنًا تلو الآخر - فى المحافظة على السنة ونشر كتبها، ورعايتها وصيانتها وتحقيق نصوصها. 

ذلك - فضلا عما تقدم - فإن من أهم الواجبات الملقاة على عاتق الأمة عامةً، وعلى أهل العلم خاصةً - العملَ على نشر السنة النبوية الصحيحة بين الناس، وبيان صحيحها من سقيمها، وهو واجبٌ شرعى نتدين به لله عز وجل طامعين أن نؤجر عليه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «بلغوا عنى ولو آية »، وقوله صلى الله عليه وسلم «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ». 

فالسنة - كما تقدم - هى المصدر الثانى للتشريع الإسلامى، ونشرها يعنى نشر الشطر الثانى من هذا الدين. 

أقول: وقد تعددت وتنوعت أدوات هذا النشر وآلياته، فمنها ما ظهر قديمًا، وظل فترة طويلة من الزمن هو الأساس فى ذلك، ومنها ما أنعم الله عز وجل به علينا فى هذا العصر الحديث، العصر الذى يشهد تطورًا تقنيًا كبيرًا، والذى من شأنه أن يسهِّل عملية نشر السنة الصحيحة وإيصالها إلى الناس فى جميع أنحاء العالم فى زمن قياسى. 

فقد اشتدت عناية صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم بما صدر عنه من أقوال، وأفعال فحفظوها فى صدورهم، وحاولوا نشرها وبثها فى جميع العالم، وقد تجسدت جهودهم فى أمور عديدة، أبرزها ما كان معروفًا بينهم بالتناوب فى سماع الحديث من النبى صلى الله عليه وسلم وتبليغه لمن غاب عن مجلسه صلى الله عليه وسلم، يدل عليه حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال «كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِى مِنَ الأَنْصَارِ فِى بَنِى أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهْىَ مِنْ عَوَالِى الْمَدِينَةِ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَحْىِ وَغَيْرِهِ وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ.. » الحديث (2)

ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل قيَّدها البعض منهم فى صحف لهم، وبلَّغوها لمن جاء بعدهم من التابعين، بدقة بالغة، وعناية لا نظير لها. فقد أُثر عن بعض الصحابة الكرام رضى الله عنهم بعض الصحائف التى تضمنت حديث النبى صلى الله عليه وسلم كالصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنه، وصحيفة جابر بن عبد الله رضى الله عنه، وغيرهما كثير. 

ثم جاء عصر التابعين، فحذوا حذو الصحابة فى حفظ الحديث وكتابته، فكان العالم منهم يتردد على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا فى بلده فيحفظ مروياتهم، ويعقل فتاويهم، ويعى تأويلهم للآيات الكريمة. 

* واستقر الأمر على ذلك إلى رأس المائة الأولى من الهجرة فى ولاية الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه، فرأى جمع الحديث والسنن، وتدوينها تدوينًا عامَا خشية أن يضيع منها شىء بموت حافظيها. 

* وبعد أن دُوِّنت السنة واستقر أمرها، تضاعفت الجهود فى القرن الثالث أكثر مما كانت عليه، فتنوعت فيه جهودهم وانتشرت المؤلفات من السنن (3)، والجوامع (4)، والمصنفات (5)، والمسانيد (6)، والأجزاء (7)، والمعاجم (8)، والمشيخات (9)، والمستخرجات (10)، وغير ذلك. 

* وهكذا نجد أن القرن الثالث كان يعتبر من العصور الذهبية لتدوين السنة وتصنيفها، فقد ظهرت فيه أعظم كتب السنة، وكثرت فيه المؤلفات كثرة عظيمة. 

ولا يشك منصف أن علماء القرن الثالث امتازوا بأولية الجمع والإبداع، فقد جمعوا المرويات بمجهودهم الخاص، وقارنوا بعضها ببعض، وقد أكسبهم ذلك خبرة تامة فى نقد الأحاديث وتصنيفها، كما أكسبهم ذلك أيضا بصيرة نافذة فى معرفة الرواة وبيان أحوالهم، فأدى بهم ذلك إلى معرفة الصحيح من السقيم، والغث من السمين، والأصيل من الدخيل. 

ولا يشك منصف أيضًا أن كل من أتى بعد هذا القرن من أئمة الحديث أنهم عيال على أهله فى الغالب الكثير، وليس أدل على ذلك من أن عمل غالب علماء القرن الرابع كان يدور حول مؤلفات ومصنفات علماء القرن الثالث، حيث تناولوها بالتهذيب والاختصار، والشرح والبيان، وربما استدرك بعضهم ما فات السابقين، أو دفع التعارض بين الأحاديث التى يوهم ظاهرها التناقض. 

وعلى ذلك تتابعت جهود العلماء فى القرن الرابع مكملة لجهود من سبقوهم خدمةً للسنة النبوية المطهرة فى جميع نواحيها. 

* ومن أشهر علماء هذا القرن الذين اهتموا بنشر كتب السنة النبوية: الإمام الحافظ الحجة أبو الحسن على بن عمر الدارقطنى (11)، المتوفى سنة (385 هـ) رحمه الله تعالى. 

وكان من أعظم مؤلفاته كتاب (السنن) والذى وصفه الحافظ ابن كثير بقوله "له كتابه المشهور من أحسن المصنفات فى بابه، لم يُسبق إلى مثله، ولا يُلحق فى شكله إلا من استمد من بحره، وعمل كعمله". 

ووصفه الخطيب فقال " إن كتاب السنن الذى صنفه يدل على أنه كان ممن اعتنى بالفقه، لأنه لا يقدر على جمع ما تضمن ذلك الكتاب إلا من تقدمت معرفته بالاختلاف فى الأحكام". 

والإمام الدارقطنى رحمه الله تعالى قد رتب كتابه ( السنن ) على الأبواب الفقهية، وجمع فيه الصحيح والحسن والضعيف، بل والموضوع على ندرة، ومن هذه الموضوعات ما نبه عليه الدارقطنى، ومنها ما لم ينبه عليه فى كتابه (السنن)، لكن نبه عليها فى كتابه (العلل). 

وهذا الكتاب يدل دلالة واضحة على اهتمام العلماء بالسنة النبوية ونشر كتبها حيث دفع الدارقطنى - رحمه الله تعالى - إلى تأليف هذا الكتاب على هذا النحو - أنه قصد جمع الطرق المختلفة للحديث الواحد بصرف النظر عن صحة هذه الطرق أو ضعفها، وذلك لبيان ما فى هذه الطرق من علل وأوهام ومخالفة الحفاظ، وغير ذلك. 

* ثم جاء القرن الخامس الهجرى، فظهر فيه علماء أجلاء احتذوا حذو العلماء السابقين لهم من أهل القرن الرابع الهجرى، فظهرت بينهم المؤلفات الحديثية النافعة، وكان من أبرزها كتاب (السنن الكبرى) للإمام الحافظ أحمد بن الحسين بن على البيهقى (12) المتوفى سنة (452 هـ) رحمه الله تعالى. 

ويُعد كتاب (السنن الكبرى) من أهم مصنفات الحافظ البيهقى فى الحديث وأحكامه، فقد قال الحافظ الذهبى عنه "ليس لأحد مثله". وقال السبكى "ما صنف فى علم الحديث مثله تهذيبًا وترتيبًا وجودةً". وقال الكتانى "لم يصنف فى الإسلام مثله". 

وقد جاء هذا الكتاب مستوعِبًا لأكثر أحاديث الأحكام، حيث جمع الحافظ البيهقى - رحمه الله تعالى - فى كتابه هذا ألوفًا من أحاديث الأحكام، وهذا الكتاب يعتبر أجمع كتب الأدلة فى كتب السنة كلها، وقد تجلى عمل البيهقى فى كتابه فى أنه جمع أكبر عدد من أحاديث الأحكام وبوبها على حسب الكتب والأبواب الفقهية، مراعيًا أن يذكر تحت كل كتاب أبوابه التى لا تخرج عنه. كما أنه يعزو الحديث إلى من أخرجه من الأئمة بذكر المصدر صراحة، فيقول أخرجه البخارى أو مسلم، أو أبو داود. 

وقد اهتم العلماء كثيرًا بهذا الكتاب الحافل، فقد علق عليه العلامة علاء الدين بن على الماردينى الشهير بابن التركمانى. 

* ثم جاء القرن السادس الهجرى، فظهر فيه علماء أجلاء احتذوا حذو العلماء السابقين لهم من أهل القرن الخامس الهجرى، فظهرت بينهم المؤلفات الحديثية النافعة، وكان من أشهر علماء هذا القرن (الإمام البغوى)  (13) وهو الحافظ الفقيه المحدث المفسر الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بابن الفراء البغوى، أبو محمد، الشافعى. المتوفى سنة (516 هـ). وكان من مؤلفاته: معالم التنزيل فى التفسير، ومصابيح السنة، وشمائل النبى المختار، والجمع بين الصحيحين، وغيرها. 

وكان أيضًا من علماء هذا القرن القاضى عياض (14) بن موسى بن عياض، أبو الفضل اليحصبى، المحدث الحافظ المؤرخ، الناقد المفسر الفقيه الأصولى، المتوفى سنة (544 هـ)

كان عالمًا بالنحو واللغة وكلام العرب، وأيامهم وأنسابهم، وقد أثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفات نافعة قيِّمة منها: الشفا بتعريف حقوق المصطفى - وقد كان لكلية أصول الدين والدعوة فرع جامعة الأزهر بالزقازيق شرف تحقيق هذا الكتاب فى شكل رسائل علمية (ماجستير - دكتوراة) - ومن مؤلفاته أيضًا: الإلماع فى أصول الرواية والسماع. وغيرهما الكثير. 

* ثم جاء القرن السابع الهجرى، فظهر فيه علماء أجلاء احتذوا حذو العلماء السابقين من أهل القرن السادس الهجرى، فقدموا المؤلفات الحديثية النافعة الجامعة، وكان من أشهر علماء هذا القرن الحافظ أبو القاسم الملاحى (15)، وهو محمد بن عبد الواحد بن إبراهيم بن مفرج الغافقى الأندلسى، المحدث الحافظ المؤرخ الأديب النسابة، المعروف بالملاحى نسبة إلى قرية الملاحة من أعمال غرناطة، ومن مصنفاته: لمحات الأنوار ونفحات الأزهار فى فضائل القرآن، وأربعون حديثًا، وغير ذلك. 

والحافظ المقدسى (16)، وهو الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد السعدى المقدسى، المحدث الحافظ الرحالة، صنف تصانيف كثيرة منها: الأحاديث المختارة، ومناقب أصحاب الحديث، ودلائل النبوة، وغيرها الكثير والكثير. 

* ثم جاء القرن الثامن الهجرى، فظهر فيه علماء أجلاء احتذوا حذو العلماء السابقين من أهل القرن السابع الهجرى، فقدموا المؤلفات الحديثية النافعة الجامعة، وكان من أشهر علماء هذا القرن الإمام العلامة أبو الفتح، تقى الدين محمد بن عبد الله بن وهب المعروف بابن دقيق العيد (17)، المحدث الفقيه الأديب، المتوفى سنة (702 هـ)

ومن أشهر مصنفاته: الاقتراح فى علوم الحديث، والإلمام فى أحاديث الأحكام، وشرح عمدة الأحكام، وغيرها الكثير والكثير. 

وممن ظهر أيضًا فى هذا القرن من السادة العلماء الذين ساهموا فى نشر كتب السنة والمحافظة عليها، الإمام الجليل والحبر الحافظ، محدث الشام جمال الدين أبو الحجاج يوسف المزى (18) الدمشقى، الذى جاب البلاد شرقًا وغربًا فى طلب الحديث ونشره. 

وكان من أشهر مؤلفاته رحمه اللَّه تعالى (تهذيب الكمال فى أسماء الرجال) وهو كتاب مشهور بين أيدى طلاب العلم والباحثين؛ ينهلون منه فى كل وقت، حيث ألَّفه الحافظ المزى ليهذب به كتاب الكمال فى أسماء الرجال للحافظ المقدسى، لكنه لم يقتصر فقط على تراجم الرجال بل ضمَّنه الحافظ المزى بعض الأحاديث الأفراد والعوالى بإسناده هو عن شيوخه. 

ولا يفوتنا ذكر كتابه الرائع فى تخريج أحاديث الكتب الستة، وهو تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، والذى لا يستغنى عنه أى طالب علم أو مشتغل بالحديث فى عصرنا هذا. 

* ثم يأتى القرن التاسع الهجرى، لينسجم هو الأخر مع القرون السابقة فى إخراج كوكبة متميزة من السادة العلماء، حيث ظهر فيه علماء أجلاء احتذوا حذو العلماء السابقين من أهل القرن الثامن الهجرى وغيره من القرون المتقدمة، فقدموا المؤلفات الحديثية النافعة، الجامعة، وكان من أشهر علماء هذا القرن: الحافظ العراقى المتوفى سنة (806 هـ) (19) وهو أبو الفضل زين الدين، عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن، المصرى الشافعى، المحدث الفقيه الحافظ الأصولى الأديب اللغوى، صاحب التصانيف المشهورة. 

وكان من مصنفاته: نظم الدرر السنية فى السيرة الزكية، والباعث على الخلاص من حوادث القصاص، وعلوم الحديث، والمغنى عن حمل الأسفار فى الأسفار فى تخريج ما فى الأحياء من الأخبار، وغير ذلك من المؤلفات الكثيرة النافعة. 

وأيضا من العلماء الذين ظهروا واشتهروا فى القرن التاسع الهجرى، وكان لهم الحظ الوافر فى نشر كتب السنة والمحافظة عليها، الإمام الحافظ شيخ الإسلام شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن على بن حجر العسقلانى المصرى، المتوفى سنة (852 هـ) (20). المحدث المؤرخ الأديب، الشاعر. 

زادت تصانيفه التى معظمها فى الحديث والتاريخ والأدب والفقه على مائة وخمسين مصنفًا منها: فتح البارى بشرح صحيح البخارى، والإصابة فى تمييز الصحابة، والدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة، والدراية فى تخريج أحاديث الهداية، ونتائج الأفكار فى تخريج أحاديث الأذكار، وغير ذلك الكثير كما أشرنا. 

* ثم جاء القرن العاشر الهجرى، فظهر فيه علماء أجلاء احتذوا حذو العلماء السابقين من أهل القرون السابقة، فقدموا المؤلفات الحديثية النافعة، الجامعة، وكان من أشهر علماء هذا القرن: الإمام الحافظ شمس الدين السخاوى (21)، وهو محمد بن عبد الرحمن بن محمد، أبو الخير، ويقال: أبو عبد الله، شمس الدين، الفقيه المقرئ المحدث، المؤرخ، صاحب التصانيف الكثيرة المشهورة. 

وكان من أشهر مصنفاته: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، ويقع فى اثنى عشر مجلدًا، والمقاصد الحسنة فى الأحاديث الجارية على الألسنة، ومناقب الإمام النووى، وغير ذلك من المؤلفات النافعة الكثير. 

وممن نبغ أيضا فى هذا القرن من العلماء الأجلاء، الحافظ السيوطى، المتوفى سنة (911 هـ)، وهو جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أبى بكر بن محمد بن أبى بكر الخُضَيرِى السُّيُوطِى الأصل، الطُّولُونِى، الشَّافِعِى، ويعرف بابن الأسيوطى، المسند المحقق المدقق، صاحب المؤلفات الفائقة النافعة. 

وكان رحمه الله تعالى عالـمًا موسوعيًا، تكلم وألَّف فى أكثر العلوم والفنون، حتى قال عنه الزركلى: له نحو ستمائة مصنف، منها الكتاب الكبير، والرسالة الصغيرة. 

وإن استيعاب هذه المؤلفات تفصيلاً مما يخرج بنا عن الغرض من هذه الدراسة، لا سيما وقد تكلم على مؤلفاته خلق كثيرون. 

ومؤلفات الإمام السيوطى لم تقف عند الحديث الشريف فقط، بل ألَّف فى فنون متعددة، ولكن من أبرز مؤلفاته الحديثية: إسعاف المبطأ فى رجال الموطأ، وتدريب الراوى فى شرح تقريب النواوى، والجامع الكبير أو جمع الجوامع، وغيرها الكثير. 

* ثم جاء القرن الحادى عشر الهجرى، فظهر فيه علماء أجلاء كان من أشهرهم: الإمام العلامة المُنَاوى  (22)، وهو الإمام الحافظ عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن على بن الحداد المناوى، بضم الميم وفتح النون نسبة إلى قرية مُنْيَة ابن خصيم، توفى رحمه الله تعالى سنة (1031 هـ)

صنف رحمه الله تعالى فى أكثر العلوم، وكان من تآليفه: شرح على متن النخبة؛ وهو كتاب كبير سماه: نتيجة الفكر، وشرح على شرح النخبة سماه: اليواقيت والدرر، وشرح على الجامع الصغير، ثم اختصره فى أقل من نصف حجمه وسماه التيسير، وكنوز الحقائق فى حديث خير الخلائق. 

وقد اشتهر بكتابه الشهير: الجامع الأزهر من حديث النبى الأنور، حيث ذكر فيه المناوى أحاديث كثيرة لم يذكرها الحافظ السيوطى فى الجامع الكبير، ورتب كتابه هذا على حسب حروف المعجم؛ فرتبه ترتيبًا دقيقًا، ونسقه تنسيقًا بديعًا؛ تَحْسُن الاستفادة به. 

* ثم جاء القرن الثانى عشر الهجرى، فظهر فيه علماء أجلاء احتذوا حذو العلماء السابقين من أهل القرون السابقة، فقدموا المؤلفات الحديثية النافعة، الجامعة.

وكان من أشهر علماء هذا القرن: العلامة الشيخ أبو الحسن السندى (23) وهو محمد بن عبد الهادى، السندى ثم المدنى، أبو الحسن الكبير الحنفى، المحدث الحافظ المفسر الفقيه، صاحب الحواشى المشهورة على الكتب الستة، وله أيضا حاشية على تفسير البيضاوى. 

* ثم جاء القرن الثالث عشر الهجرى، فكان من أبرز العلماء فيه القاضى أبو عبد الله محمد بن على بن محمد الشوكانى الصنعانى المتوفى سنة (1255 هـ)

* ثم جاء القرن الرابع عشر الهجرى فبرز فيه جماعة من المحدثين خدموا الحديث النبوى الشريف من عدة جهات، فكان منهم العلامة المحدث الشيخ محمد بن جعفر بن إدريس الكتانى المتوفى سنة (1345 هـ)، فألف عددًا من الكتب والرسائل الحديثية، على رأسها كتاب الرسالة المستطرفة فى بيان مشهور أسماء كتب السنة المشرفة، وقد طبع عدة مرات. 

وكان أيضًا من أعيان هذا القرن العلامة المحدث الشيخ طاهر الجزائرى، ومن كتبه: توجيه النظر إلى أصول الأثر، وقد طبع غير مرة. 

وكان منهم العلامة الشيخ جمال الدين القاسمى فى كتابه قواعد التحديث فى علوم الحديث. 

ومن أبرز أعيان هذا القرن فى الصنعة الحديثية والنظر فى الرجال والعلل العلامة أحمد محمد شاكر المتوفى سنة (1377 هـ)، وله تعليقات على القدر الذى خدمه من مسند الإمام أحمد، ومن سنن الترمذى، وعلى اختصار علوم الحديث لابن كثير، وعلى ألفية السيوطى للمصطلح، تبرز قامته الحديثية. 

* ثم جاء القرن الخامس عشر الهجرى، فشهد عددًا من المحدثين الأجلاء، منهم العلامة المحدث الشيخ محمد محمد أبو شهبة المتوفى سنة (1400هـ)، وقد قضى نصف قرن من الزمان فى خدمة الحديث النبوى الشريف وعلومه ورد الشبهات عنه، ومن أبرز كتبه: كتاب الوسيط فى علوم الحديث، ودفاع عن السنة المطهرة الذى رد فيه على محمود أبو رية. 

ومن أعيان هذا القرن فى الحديث الشريف وعلومه العلامة الشيخ حبيب الرحمن الأعظمى المتوفى سنة (1412 هـ)، وقد أخرج مسند ابن المبارك، وأخرج كذلك نسخة من المطالب العالية للحافظ ابن حجر، وكانت قد جرت مراسلات حديثية بينه وبين العلامة المحدث الشيخ أحمد شاكر تنم عن دقة نظر الشيخ حبيب الرحمن وغوصه فى هذا الفن. 

ومن أشهر أعيان هذا القرن العلامة المحدث الشيخ عبد الفتاح أبو غدة المتوفى سنة (1417 هـ). وتعليقاته على الرفع والتكميل وعلى ظفر الأمانى وعلى الأجوبة الفاضلة، وغير ذلك من الكتب - تبين قدره وتبحره فى علوم الحديث. 

وهكذا وبعد ذلك العرض الموجز نلاحظ أن الله عز وجل قيَّض للسنة النبوية المطهرة من يحافظ عليها فى كل عصر من العصور على مر التاريخ، ويسعى فى نشرها، وتحقيق نصوصها، وبيان صحيحها من سقيمها، ولا تزال الجهود تزداد وتتنوع فى نشر كتب السنة النبوية. 

وقد كان ولا يزال لجامعة الأزهر الشريف الدور الرائد؛ حين أخذت على عاتقها إحياء كتب التراث ونشرها وتحقيقها تحقيقًا علميًا بضوابطه وقواعده، التى رسم خطوطها وأرسى معالمها علماء هذا الفن؛ حتى يعطى الثمرة المرجوة منه، فأخذت الرسائل والبحوث العلمية تتوالى بعضها تلو البعض فى إحياء كتب التراث وتحقيقها. 

ومما ينبغى أن أنبه عليه فى هذا العرض أن نشر السنة لم يعد مقتصرًا فقط على ما يطبع من الكتب - فهذا بلا شك هو الأساس - ولكن باستغلال الآليات الحديثة الآن كالصحافة؛ حيث يمكن الكتابة فيها عن بعض جوانب السنة النبوية والموضوعات المثارة حولها عبر الكتابة الدورية فى الصحف والمجلات، والأفضل أن تكون هذه الكتابة من أهل العلم المختصين بعلم الحديث والسيرة النبوية. 

وأيضًا: الفضائيات حيث يمكن الاستفادة من هذه الوسيلة من خلال تخصيص برامج وندوات عن السنة النبوية وسيرة النبى صلى الله عليه وسلم، لما لها من أثر كبير فى حياة الناس، فهى الأداة التى دخلت كل بيت ويجلس أمام شاشاتها معظم الناس. 

ومن هذه الآليات أيضًا الإنترنت؛ حيث يمكن الاستفادة من هذه الشبكة من خلال إنشاء مواقع متخصصة لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته، وإضافة كل المعلومات التى تَمُتُّ إلى السيرة من الكتب القديمة والحديثة، والمقالات، والتسجيلات والمرئيات، وإنشاء منتديات خاصة للسيرة النبوية، وعقد لقاءات وندوات عبر شبكات المحادثة المتنوعة حول هذه السيرة، ورد أباطيل المستشرقين والمنافقين وشبهاتهم بالأدلة والبراهين. 

كما يمكن نشر السنة عبر المحاضرات والندوات والمؤتمرات وغيرها، وقد وفق الله صلى الله عليه وسلم القائمين على جمعية المكنز الإسلامى لعقد مثل هذه المؤتمرات واللقاءات التى من شأنها أن تُعين على نشر السنة النبوية الصحيحة. 

وختامًا: أسأل الله العلى القدير أن يجعل عملى هذا خالصًا لوجهه الكريم وأن ينفع به، وأن يتقبله بقبول حسن، وأن يثقل به الموازين، يوم تكون العاقبة للمتقين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. 

العودة لصفحة المؤتمر 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) حديث (صحيح) أخرجه: أبو داود فى (سننه): كتاب العلم، باب فضل نشر العلم، ج3- ص 322 - ح رقم 3660، من حديث زيد بن ثابت. 

  (2) صحيح البخارى: باب التناوب فى العلم، ج1- ص46 - ح رقم 89

  (3) السنن: هى المؤلفات الحديثية التى جمعها مؤلفوها ورتبوها على الكتب والأبواب الفقهية. 

  (4) الجامع: هو الكتاب الذى اشتمل على جميع أنواع الحديث المحتاج إليها من عقائد وأحكام ورقائق وفتن وشمائل وآداب ومناقب وتفسير. 

 (5) المصنفات: هى كالسنن والجوامع، إلا أنها تشتمل على الأحاديث الموقوفة، والمقطوعة، وفتاوى التابعين. 

  (6) المسانيد: هى المؤلفات التى تجمع أحاديث كل صحابى على حدة دون التقيد بوحدة الموضوع أو درجة الحديث. 

  (7) الأجزاء: عبارة عن الكتب التى جمعت فيها أحاديث شخص واحد من الصحابة أو مَن بَعدهم إلى زمن المؤلف. 

  (8) المعاجم: هى المؤلفات التى ترد فيها الأحاديث بأسانيدها لمؤلفها مرتبةً على الصحابة أو الشيوخ أو البلدان، أو غير ذلك. 

  (9) المشيخات: عبارة عن مؤلفات تشتمل على ذكر الشيوخ الذين لقيهم المؤلف وروى عنهم. 

  (10) المستخرجات: هى المؤلفات التى تُخْرِج أحاديث كتاب معين بإسناد مؤلفها المستقل على أن يلتقى مع صاحب الكتاب الأصلى فى شيخه أو فيمن فوقه. 

  (11) معجم المؤلفين: ج2- ص480- برقم 9779.

  (12) معجم المؤلفين: ج1 – ص 129 – برقم 967

  (13) ينظر: معجم المؤلفين: ج1- ص 644 - برقم 4859.

  (14) المصدر السابق: ج2- ص 588 – برقم 10575

  (15) معجم المؤلفين: ج3 – ص 468 – برقم 14440. 

  (16) المصدر السابق برقم 14441

  (17) المصدر السابق: ج3 – ص 553 – برقم 14972. 

  (18) المصدر السابق: ج4 – ص 166 - برقم 18432. 

  (19) معجم المؤلفين: ج2 – ص 130 – برقم 7099. 

  (20) المصدر السابق: ج1 – ص 210 – برقم 1552

  (21) معجم المؤلفين: ج3 – ص 399 – برقم 13996. 

  (22) خلاصة الأثر فى أعيان القرن الحادى عشر: 2- 412. 

  (23) معجم المؤلفين: ج3 – ص 468 - برقم 14437.