تَعَدُّدُ إخراجاتِ الكتابِ مِن قِبَلِ مُصَنِّـفِهِ في تراثنا المخطوط
إثباته، وأحواله، والطريقة المثلى لخدمته
أ.د. الشريف. حاتم بن عارف العونى
أستاذ علم الحديث بجامعة أم القرى ، وعضو مجلس الشورى السعودى
العودة لصفحة المؤتمر
المقدمة
الحمد لله الذي لا إله إلا هو الحق المبين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى ذريته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن طبيعة القصور البشري تستوجب أن لا يعتقد في عمله الكمال المطلق، كما قال تعالى ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾.
ولذلك قال الإمام الشافعي: « لقد ألفت هذه الكتب، ولم آلُ فيها، ولا بد أن يوجد فيها الخطأ، لأن الله تعالى يقول ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾»[1].
وقال الربيع بن سليمان تلميذ الشافعي: «قرأت كتاب الرسالة المصرية على الشافعي نيفا وثلاثين مرة، فما من مرة إلا كان يُصححه. ثم قال الشافعي في آخره: أبى الله أن يكون كتابٌ صحيحٌ غيرَ كتابه. قال الشافعي: يدل على ذلك قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾»[2].
وحُكي عن الـمُزَني - إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل – تلميذ الإمام الشافعي(ت264هـ): «لو عُورض كتابٌ سبعينَ مرةً لوُجِدَ فيه خطأٌ، أبى الله أن يكون كتابٌ صحيحًا غيرَ كتابه»[3].
ومن ذلك ما حكاه عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل عن أبيه، قال عبد الله: «عارضتُ بكتابٍ لأبي ثلاثَ عشرةَ مرةً، فلما كان في الرابعة: خرج فيه خطأٌ، فوضعه من يده، ثم قال: قد أنكرتُ أن يصحَّ غيرُ كتابِ الله عز وجل»[4].
وفي ذلك قال الناظم:
كَمْ من كتاب قد تَصَفَّحْتُهُ
|
|
وَقُلْتُ فِي نَفْسِيَ أَصْلَحْتُهُ
|
حَتَّى إِذَا طَالَعْتُهُ ثَانِيًا
|
|
وَجَدْتُ تَصْحِيفًا فَصَحَّحْتُهُ [5]
|
لذلك كان من الطبيعي جدا أن نجد في تراثنا المخطوط لبعض الأئمة والمصنفين في مصنفاتهم تراجعاتٍ وتصحيحاتٍ وإضافات ووجوهًا عديدةً من التغييرات، أخذت أشكالا وصورا مختلفة:
- منها حواشٍ وضَرْبٌ وتصحيحاتٌ وإضافاتٌ على نسخهم وحواشيها، إذا كان الكتاب بخط المصنف.
- ومنها نُـقُولٌ شفهيةٌ بالتراجع عن بعض الآراء وبتصحيح بعض تقريراتهم وفتاواهم.
- ومنها تَـكَرُّرُ إملائهم الكتاب بزياداتٍ أو بتغييرات عديدة، مما يجعل الكتاب مرويًّا عنهم بأكثر من نسخة ورواية.
- ومنها تَنصيصُهم في النسخة المتأخرة على أنهم قد ألغَوا بها النسخة المتقدمة.
- ومنها وجود نسخ متعددة للكتاب الواحد تضمنت فروقاتٍ لا يمكن إلا أن تكون من المصنِّف، وإن لم يُنص على أنها تمثّل إخراجاتٍ متعددةً عنه.
ومع ظهور عصر الطباعة، وما تبعه من ظهور حاجة إلى وضع قواعد وضوابط لنقل الكتاب المخطوط إلى كتاب مطبوع = وضع العلماء والمعتنون بالتراث علما جديدًا يخدم هذا الغرض، وهو علم التحقيق.
ورغم مرور ما يقارب السبعين عاما على ظهور أول كتاب عربي في علم التحقيق، وهو كتاب (تحقيق النصوص ونشرها) لعبد السلام محمد هارون (ت1408هـ)، الذي طُبع أول مرة سنة (1374هـ)، ورغم توالي الكتب والندوات التي تتحدث عن هذا العلم ؛ إلا أنه ما زال علما ناشئًا، يحتاج مزيدًا من التطوير والإضافة والتحرير. ولذلك تبرز من حينٍ لآخر جوانبُ كانت تحتاج إلى خدمة وتحرير لم يَكن ما كُتب وقيل في علم التحقيق قد وفّاها حقَّها[6]، مما يوجب على محبي تراثنا وخادميه أن يقوموا بتوفية ذلك الحق، لكي يُسهموا إسهاما حقيقيا في خدمة ذلك التراث العظيم.
ومن تلك الأمور التي لم تُخدم كما يجب في علم التحقيق الكلام عن حالة خاصة قد تظهر في بعض مخطوطات تراثنا العربي والإسلامي، وهي حالة وجود عدد من النسخ للكتاب الواحد للمصنِّف الواحد نجد بينها اختلافات كبيرة، قد يثبت لنا أنها اختلافاتٌ صادرةٌ من المؤلِّفِ نفسه، وليست من النُّسّاخ[7].
وهذه الاختلافات لها صور متعددة، منها ما يعني تراجعا للمؤلف عن تقريرٍ سابق، ومنها ما هو دون ذلك من الزيادة والإضافة أو الحذف والاختصار، ومنها ما لا يزيد عن اختلاف صياغةٍ أو تَغيُّرِ ترتيبٍ يسير.
ومن هنا تباينت تطبيقات المشتغلين بإخراج التراث وقراءته والعناية به وتحقيقه، واتضح اختلاف مناهجهم في مواجهة هذه الحالة، وتبيّن اضطراب بعضها، وإساءة فهم آخرين لطبيعة اختلاف نسخهم.
ولذلك رأيت أن يكون لهذه المقالة إسهامٌ في مناقشة هذه الحالة من حالات تراثنا المخطوط، محاولا التنبيه على الأخطاء التي وقعت في محاولة خدمته، مبينا وجه الصواب فيها، قدر ما يتيحه هذا القدر المختصر من المقالة.
وأسأل الله تعالى أن يوفقني إلى إسهام نافع مفيد في هذا الموضوع المشكل، لكي تكون عنايتنا بالمخطوط التراثي عناية بعيدةً عن الإساءة، بل محققةً الإجادة. فإلى مباحث هذا الموضوع:
المبحث الأول تعريف الإخراج التصنيفي والحالات التي تشتبه بها (كالـمُسَوَّدات، والروايات، واختلاف روايات النُّسخ، وخطأ النُّسّاخ) وبيان ما بينها من الاجتماع والافتراق
الإخراج التصنيفي: هو كل إخراج جديدٍ للمؤلف يُعيد فيه النظرَ إلى تأليفه بالتعديل الذي لا يرتضي كتابَه بدونه.
وبذلك يشمل الإخراجُ التصنيفيُّ كلَّ تعديلٍ يراه المؤلفُ ناسخًا لإخراجه السابق: سواء أكان التعديلُ اختلافًا في اجتهاده حول مسألة من مسائل كتابه، أو زيادةً مهمة تُـكمِّل نقصًا يُـخلُّ بمقاصد كتابه، لم يعد المؤلفُ يرى كتابَه مستغنيا عنها، أو إعادةَ صياغةٍ للأسلوب، يتضح من هذه الصياغة التعبيرية أنها هي التي أبان فيها المؤلفُ عن مراده بكل قيوده ودِقّته.
فضابط الإخراج التصنيفي هو: أن أجد ما يدل على أنه هو الإخراج الذي ما عاد المؤلف يرضى أن يُنسب إليه سواه، بتصريحه هو نفسه، أو تصريح من يُعتمد نقلُه بذلك (كأحد تلامذته، أو أحد العلماء المتثبتين، ولا يوجد ما يعارضه)، أو استنباطًا من طبيعة التعديلات التي لا تقبل أن يكون الإخراجُ القديمُ والحديثُ كلاهما مَرْضِيَّينِ عند المؤلف: كتغيُّرِ الاجتهاد الواضح الذي لا يمكن فيه الجمع بين الاجتهادين.
وحتى تتضح صورة هذا الإخراج التصنيفي: هو أشبه ما يكون بالطبعة الثانية المنقحة والمصححة والمزيدة، التي يريد المؤلف المعاصر أن تحل محل طبعته الأولى، لما أجرى عليها من تغييرات مهمة في خدمة مقصوده وتحرير مراده وتصحيح أخطائه.
مثل هذه التغييرات عرفها العلماء منذ القدم، وتنبهوا إلى ضرورة تقديم نسختها على ما سواها.
ومن لطائف ما وجدته من ذلك: أن العالم الحنفي شمس الدين ابن أمير حاج - محمد بن محمد بن محمد بن حسن بن علي بن سليمان الحلبي - (ت 879هـ) لما أراد أن يشرح كتاب (التحرير) في أصول الفقه لشيخه ابن الهمام - محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد - (ت 861هـ)، اضطر للرحلة إلى شيخه لتلقي نسخته الأخيرة من الكتاب وما له عليها من زيادات وتغييرات، وذكر أن ابن الهمام شيخه هو من طلب منه المجيء إليه لتلقي الإخراج الأخير من الكتاب ! وفي ذلك يقول ابن أمير حاج: «فوقع الشروع فيه من نحو عشر حِجج، وتجشمت في الغوص على درر مقدمته ونبذة من مباديه غمرات اللُّجَج. ثم بينما العبد الضعيف يركب كل صعب وذلول في تقرير الكتاب، ويكشف قناع محاسن أبكاره على الـخُطّاب من الطُّلّاب، برزت الإشارة الشيخية، بالرحلة إلى حضرته العلية، قضاء للحق الواجب من زيارته، وتلقيا للزيادات التي ألحقها بالكتاب بعد مفارقته، واستطلاعا للوقوف على ما برز من الشرح وكيفية طريقته.
فطار العبد إليه بجناحين، إلا أنه لم يَقْدُم عليه إلا وقد نشبت به مخالبُ الـحَيْن، ثم لم ينشب - رحمه الله تعالى - إلا قليلا ومات، فلم يقض العبد الوطر مما في النفس من التحقيقات والمراجعات. نعم.. اقتنصت في خلال تلك الأوقات، ما أمكن من الفوائد الشاردات، وأثبت في الكتاب عامة ما استقر الحال عليه من التغييرات والزيادات، ثم رجعت قافلا والقلب حزين على ما فات، والعزم فاتر عن الخوض في هذه الغمرات، والبال قاعد عن تجشم هذه المشقات»[8].
ومن أمثلة تصريح المؤلف بالرجوع عن إخراجه الأول: منسك شيخ الإسلام ابن تيمية، والذي قدمه بقوله: «فإني كنت كتبت منسكا في أوائل عمري، وذكرت فيه أدعية كثيرة، وقلدت في الأحكام من اتبعته قبلي من العلماء، وكتبت في هذا ما تبين لي من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مختصرا مبينا»[9].
كما تحدث ابن تيمية عنه في كتاب آخر له، فقال: « وقد ذكر طائفة من المصنفين في المناسك استحباب زيارة مساجد مكة وما حولها، وكنت قد كتبتها في منسك كتبته قبل أن أحج في أول عمري، لبعض الشيوخ، جمعته من كلام العلماء، ثم تبين لنا أن هذا كله من البدع المحدثة التي لا أصل لها في الشريعة، وأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، لم يفعلوا شيئا من ذلك، وأن أئمة العلم والهدى ينهون عن ذلك، وأن المسجد الحرام هو المسجد الذي شرع لنا قصده للصلاة والدعاء والطواف، وغير ذلك من العبادات، ولم يشرع لنا قصد مسجد بعينه بمكة سواه، ولا يصلح أن يجعل هناك مسجد يزاحمه في شيء من الأحكام»[10].
وفي مثال آخر: نقل الإمام المقرئ ابن الجزري (ت833هـ) في ترجمته لأحمد بن محمد بن خلف بن محرز الأنصاري الأندلسي، فقال: «قرأت في آخر كتابه المقنع: أنه فرغ منه في ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وأربعمائة، قال: ثم تصفحته وأصلحت فيه مواضع وزدت فيه زيادات، بعد أن انتسخ منه نسخ، وفرغ منه في ذي الحجة سنة ست عشرة وخمسمائة»[11].
وقبل الانتقال من تعريف الإخراج الثاني للكتاب، أود الوقوف عند آخر قيود تعريف الإخراج، وهو قولي فيه: « الذي لا يرتضي كتابَه بدونه»، ما المراد منه ؟ وهل صوره واحدة ؟
لا أظن تأملا كافيا إلا سيخرج باختلاف حالات عدم الرضا من الإخراج الأول بإبراز الإخراج الثاني، نجده نحوه من نفوسنا فيما نخرجه من الكتب، ثم نعيد طباعة الكتاب بزيادات وتصحيحات. لا شك أن عدم رضانا عن الطبعة الأولى سيكون مختلفا بقدر اختلاف التغيير، فالتغيير الكبير الذي يستدرك أخطاء كبيرة ليس كالتغيير الذي لا يزيد على زيادة التحسين وتكثير الفائدة، مع شمول التغييرين بأننا نرغب أن لا يُستفاد إلا من الطبعة الأتم والأكمل.
وهذا هو واقع الإخراجات المتعددة: فمنها ما يصل عدم الرضا عنه إلى درجة التبرؤ منه وعدم تجويز النقل منه، ومنه ما لا يصل هذا الحد، لكنه يبقى هو الأحب إلى المؤلف والأرغب أن يُقتصر عليه في النقل منه والعزو إليه.
ومن أمثلة الإخراجات التي لا تصل حد الرغبة في محو الإخراج الأسبق: ما كان من باب الزيادة المحضة، التي لا تمنع الاستفادة من الإخراج الأول.
ومن أمثلة ذلك: كتاب طبقات القراء للإمام الذهبي فقد عدة طبعات، لكن أهمها ثلاث طبعات:
1- بتحقيق: د/ بشار عواد معروف، وشعيب الأرناؤوط، وصالح مهدي عباس. واعتمدوا عن نسخة خطية عليها خط الإمام الذهبي، نُسخت قبل سنة 726هـ [12].
2- تحقيق: د/ أحمد خان. وقد اعتمد على نسخة بخط تقي الدين ابن فهد المكي (ت871هـ)، نسخها من نسخة بخط المصنف، ونقل في آخرها ما ختم به الإمام الذهبي نسخته هذه، حيث قال: «فرغ محمد ابن الذهبي من هذه النسخة المباركة، وفيها زيادات وتقديم وتأخير عن المسودة، في ربيع الآخر من سنة ثلاثين وسبعمائة، حامدًا لله تعالى، مصليًا على نبيه ومسلّما»[13].
3- تحقيق: د/ طيّار آلتي قولاچ. واعتمد على عدد من النسخ، ومنها ما انتُسخ عن نسخة المؤلف أيضًا.
فجاء عدد التراجم في هذه الطبعات متباينا:
- ففي الطبعة الأولى: 734 ترجمة.
- وفي الثانية: 1244 ترجمة.
- وفي الثالثة: 1228 ترجمة.
وهذه الفروق الكبيرة في عدد التراجم، والتي بلغت زيادة عن 500 ترجمة بين الطبعة الأولى والثانية تؤكد أن النسخة التي اعتمدت عليها الطبعة الثانية تُـمثِّـلُ إخراجا جديدا للكتاب.. بلا أدنى شك[14]. وقد أشار محققو النسخة الأولى إلى ورود هذا الاحتمال، ولوقوفهم على زيادات عديدة نص ابن الجزري في (غاية النهاية) أنها نقولة عن نسخة الذهبي التي بخطه، ولم يجدوها في نسختهم المقروءة على الذهبى [15].
ولا نشك أن إخراج الذهبي الأخير سيكون هو أحبَّ إخراجٍ يودُّ الإمامُ الذهبي أن يُنتسخ وأن يُنسب إليه، ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن نجزم بأن الإمام الذهبي تبرّأ من النسخة الأقدم، أو أنه لا يستجيز نقلها عنه ؛ لأن النسخة الأقدم قد تضمنت علما مفيدًا، وحصرا كبيرًا للقراء، رغم الفوات الكبير فيها والذي استدركه الذهبي على نفسه في إخراجه الأخير. مع ما في النسخة الأقدم من صياغةٍ نفيسةٍ للتراجم، على عادة الإمام الذهبي في إحسان صياغة الترجمة وتَذَوُّقِ فَنِّها. فلا يمكن أن نتصور أنها نسخة يجب محوها، وإن كان الوقوف على ما صدر بعدها يوجب أن يكون سببا لتقديمه في التحقيق والإثبات.
والمقصود من هذا التنبيه: أن عدم الرضا عن الإخراج الأول لا يلزم أن يدل على إلغاء الإخراج الأخير.
وهذا ينطبق على تعدد الروايات الآتي ذكره، والذي قد يتفق مع تعدد الإخراجات في بعض وجوه الشبه، ومع ذلك تعامل معها العلماء على أنها جميعا نُسخٌ مفيدة، ويصح أن تُنسب كلُّها إلى مؤلفها.
وبهذا نكون قد ألقينا الضوء على المراد بـ(الإخراج التصنيفي).
فإذا كان هذا هو الإخراج التصنيفي، فما الفرق بينه وبين مُسَوَّدة الكتاب ؟
لبيان ذلك ينبغي أولا تعريف مسودة الكتاب:
- فمُسَوَّدة الكتاب: هي نسخة الكتاب التي بخط مصنفه، إذا ظهرت عليها آثار التصويب والزيادة والتغيير.
هذا هو التعريف الجامع المانع للمسودة، وليس وصف المسودة في عُرف المخطوط العربي القديم وفي إطلاقات علمائنا السابقين وصفًا قاصرا على النسخة التي لم يَرْتَضِ المؤلفُ إخراجها، كما هو المقصود في زماننا غالبا، وكما وجدناه في إطلاق بعض كبار شيوخ التحقيق، كالشيخ عبد السلام محمد هارون عندما قال عن المسودة «النسخة الأولى للمؤلف، قبل أن يهذبها ويخرجها سوية. أما المبيضة: فهي التي سويت، وارتضاها المؤلف كتابا يخرج للناس في أحسن تقويم»[16]. فإن شيخ المحققين عبد السلام هارون إنما كان يتكلم عما يعدّه المحققُ المعاصر بحسب أعرافنا (مسودةً)، ولم يكن يتكلم عن إطلاق وصف المسودة في تراثنا المخطوط وبيان معانيه وإطلاقاته في المخطوط العربي على مرّ العصور.
ولذلك فقد أطلق الشيخ عبد السلام هارون الحكم على حال المسودات والمبيضات، فقال: «ومسودة المؤلف: إن ورد نصٌّ تاريخي على أنه لم يُـخرج غيرها كانت هي الأصل الأول... (إلى أن قال) وإن لم يرد نص: كانت في مرتبة النصوص الأولى، ما لم تعارضها المبيضة، فإنها تجبها بلا ريب.
- وأما مبيضة المؤلف: فهي الأصل الأول، وإذا وجدت معها مسودته كانت المسودة أصلا ثانويا استئناسيا، لتصحيح القراءة فحسب»[17].
كما لم يتعرض الشيخ عبد السلام هارون عند عدم وجود المبيضة لحال الاعتماد على تلك المسودة التي هي «النسخة الأولى للمؤلف، قبل أن يهذبها ويخرجها سوية»، والتي إن وُجدت مع المبيضة: «كانت المسودة أصلا ثانويا استئناسيا، لتصحيح القراءة فحسب». إذ كيف يصح أن أنسب إلى مؤلفٍ اجتهادًا ورأيًا لا أعلم أنه استقرَّ عليه، بل ربما لا يرتضي المؤلف نفسه أن يُنسب إليه ؛ لأنه ما زال يمحّص فيه الدرس ويعيد فيه النظر؟!
ولا يعني ذلك عدم تحقيق المسودات مع عدم وجود المبيضات أو مع وجودها، فقد يكون ذلك في غاية الإفادة، لكن كان يجب أن تُناقَش طريقة الإفادة من تلك المسودات، ببيان اختلاف صُورها وأحوالها، وما الذي يصح أن يُنسب إلى المؤلف من آراءٍ واردةٍ في المسوَّدة، كما لو وجدنا قرره في كتابٍ آخر له، وما الذي لا يصح أن يُنسب إليه، إما للشك في كونه رأيا نهائيا للمؤلف، لعدم وجود ما يدل على استقرار رأيه عليه، وإما لوجود ما يدل على أنه قد تراجع عنه في بقية كتبه أو في نقل تلامذته أو في نقل العلماء المتثبتين عنه[18].
ولذلك وجب التنبيه لبعض أهم صور المسودات وحالاتها، وهي كما يلي:
1- النسخة التي بخط المصنف تُسمى مطلقا مسودة الكتاب، خاصة أنها لن تخلو من تصحيح وإضافات غالبا، كما هي طبيعة الجهد البشري في النقص وتَطَلُّب التكميل والتحسين.
وبذلك يتبين أن مجرد إطلاق اسم المسودة على نحو هذه النسخة لا يعني أن مؤلف الكتاب لا يعتمدها، بل هي المعتمدة عنده، ولا غيرها يُعتمد.
كما حصل في كتاب (دلائل الإعجاز) لعبد القاهر الجرجاني (ت471هـ)، فنسخة الأصل التي اعتمد عليها الشيخ محمود شاكر، جاء في أحد فصولها الملحقة بالكتاب أن "هذا آخر ما وجد على سواد الشيخ من هذا الكتاب، كتب في شعبان المبارك سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة"، ثم يذكر في صدر فصل آخر بعده: "هذا مما نقل من مسودته بخطه بعد وفاته رحمه الله"»[19].
ولذلك اعتمدها الشيخ محمود شاكر أصلا، ووجد فيها حواش نقلها الناسخ عن حواش لعبد القاهر نفسه.
وكما حصل في (طريق الهجرتين وباب السعادتين) لابن قيم الجوزية (ت 751هـ)، فقد ترك ابن القيم مسودته التي بخط يده، وعليها تصحيحاته واستدراكاته، وعليها اعتمد محقق الكتاب الشيخ محمد أجمل الإصلاحي، وجعلها أصلا، وقابلها على عدة نسخ، منها نسخة أُخرى منسوخة عن أصل المؤلف[20] الذي هو مسودته[21] فكانت هذه المسودة هي معتمد العلماء والنُّسّاخ في نقل هذا الكتاب من كُتب ابن القيم رغم قول المحقق عن هذه المسودة: « ومن المؤكد أن هذه المسودة لم تُقرأ على المؤلف، ولا تمكن من تبييضها، فقد وقعت فيها ضروبٌ من الوهم والسهو وسبق القلم»[22].
وكما حصل في كتاب (تبصير المنتبه بتحرير المشتبه) للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852هـ)، فقد كتبه الحافظ ابن حجر وحرّره، وعدّه ضمن كتب خمسة خصها بالتحرير، كما في نقل السخاوي عنه[23].
وقد وقفنا على مجلدة من مسودة الحافظ بهذا الكتاب، والتي كان الحافظ نفسه يسميها مسودة، ومع ذلك اعتمدها هو ورواةُ كتابه عنه. مما يعني أن كونها مسودة لم يعن أنها غير محررة عند مصنف الكتاب، ولم يعن عدم اعتمادها عنده وعند الآخذين عنه.
أما المجلدة من نسخة الحافظ التي بخط يده فهي محفوظة في مكتبة فيض الله بتركيا (رقم 1411)، وهذه نماذج من أولها:



ومع ذلك جاء في ختام إحدى نسخ الكتاب المحررة النقل التالي عن الحافظ ابن حجر: «فرغ منه ملخِّصُه ومهذبه الفقير أحمد بن علي بن محمد ين علي العسقلاني الشهير بابن حجر، في مدة آخرها سابع عشر جمادى سنة عشر وثمانمائة، حامدا لله تعالى ومصليا على نبيه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومسلما.
وهذه مسودة الكتاب، وليس لي فيه سوى حسن التلخيص الموفِّي بالمقصود، مع حسن الاختصار، ولا أبرأ فيه من الزّلل والوهل والنسيان الذي طبع عليه الإنسان، فمن رأى فيه خللا فليحققه ثم يصلحه ليشارك في الثواب من الرحيم الوهاب، سبحانه وتعالى»[24].
وجاء في خاتمة نسخة أخرى بخط أحد أكابر العلماء الآخذين عن الحافظ ابن حجر، وهو أبو النَّعيم رضوان بن محمد بن يوسف العُقْبي (ت852هـ) قوله: « كتبت معظم هذه النسخة، وقرأته على مؤلفه مع المعارضة معه لأصله وهو بيده؛ ثم كتبت الباقي من نسخة الشيخ العالم الفاضل البارع المفنن برهان الدين إبراهيم بن خضر ابن أحمد العثماني التي نقلها من خط مؤلفها شيخنا الأمام شيخ الحفاظ والإسلام قاضى القضاء منقطع الصفات بقية المجتهدين شهاب الملة والدين أبي الفضل أحمد ابن الإمام علاء الدين أبي الحسن علي بن محمد بن محمد الكناني العسقلاني الشافعي المشهور بابن حَجَر، أحسن الله تعالى إليه وأسبغ نعمه في الدارين عليه؛ قال في آخرها: إنه رأى بخط مؤلفها ما صورته:
فرغ منه ملخصه ومهذبه الفقير أحمد بن علي بن محمد بن العسقلاني الشهير بابن حجر في مدة آخرها سابع عشر جمادى الأولى سنة ست عشر وثمانمائة، حامدا لله تعالى ومصليا على نبيه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومسلما.
وهذه مسودة الكتاب وليس لي فيه سوى حسن التلخيص الموفي بالقصد، ومع حسن الأختصار، ولا أبرأ فيه من الزّلل والوهل والنسيان الذي طُبع عليه الإنسان، فمن رأى فيه خللا ًفليحققه ثم ليصلحه ليشارك في الثواب من الله الرحيم الوهاب سبحانه وتعالى.
قال ذلك مُثْبِتُ هذه الأحرف العبد أبو النَّعيم رضوان بن محمد بن يوسف العُقْبي، حامدًا لله تعالى، ومصلّيًا على رسوله وآله وصحبه ومسلما، ومحسبلا نفسه في آخر يوم الخميس المبارك الخامس عشر من شهر رجب سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة»[25].
بل هذا كتاب (المستدرك) للحاكم النيسابوري (ت405هـ)، رغم اعتذار بعض العلماء عن أخطائه فيه بأنه كان – أو جزؤه الأخير – مسوّدة[26]، لم يمنع ذلك الحاكم من إسماعه في نصفه الأول، ومن إعطاء حق روايته عنه بالإجازة في جزئه الأخير، ولا توقف العلماء عن نسبة ما فيه كله إلى الحاكم، سواء في ذلك أوّلُه وهو القَدْرُ الـمُمْلَىٰ منه، وآخِرُه وهو القَدْرُ الـمُجاز.
وكل هذا يؤكد أن مجرد وصف نسخةٍ ما بكونها مسوَّدة لا يلزم من ذلك أن تكون نسخة مرجوعًا عنها أو غير معتمدة، ولا يلزم أن يكون المؤلف قد بيضها، وهجر مسودته ! خلافا لما دل عليه ظاهرُ تعميم الدكتور بشار عواد معروف في كتابه (إبرازات الكتب)، حيث قال: «ومن المعلوم أن المسودة هو عملٌ غير مكتمل، يحتاج المؤلف إلى إعادة نظر عند تبييضه، ويكون فيه شطبٌ وزيادات، وربما أوراق طيارة توضع بين الأوراق»[27]. ثم ضرب مثلا بإحدى نسخ التمهيد، وما جاء في خاتمتها من وصفها بأنها منسوخة عن أصلٍ نُسخ من نسخةٍ «نُسخت من مسودة المؤلف أبي عمر ابن عبد البر بخط يده»[28]، وعدّه دليلا كافيا وحده على أنها مسودة الكتاب المرجوع عنها.
وقد تبين أن هذا وحده ليس كافيا، والأهم: أنه قد ظهر أنه ليس معلوما أن كل مسودة عملٌ غير مكتمل، كما قال الدكتور بشار، بل من المسودات ما هي عمل مكتمل.
ولو كانت كل نسخة وكل كتاب عليه إضافات وزيادات يعني أنه غير مكتمل، لما بقي كتاب مكتمل ؛ لأنه ما من مؤلِّف إلا وحصل له تجديدُ نظرٍ في كتابه، ولا ننسى عبارات الأئمة التي افتتحنا بها هذا المقال: أَبى الله أن يتمّ إلا كتابه ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾. وهذا الدكتور بشار نفسه، لا يكاد يعيد طباعة كتاب، إلا ويضيف ويحذف ويصوب، فهل يَعُدّ عمله الذي طبعه كان ناقصًا غير مكتمل وأن نقصه لم يكن يسمح بنشره ؟!
هذا كله يبين أن وصف (المسودة) لا يقتصر على المسودة غير المكتملة.
بل ربما كان مثل قول ناسخ التمهيد عن أصله الذي نَسخ منه نسخته أنها نُسخة « نُسخت من مسودة المؤلف أبي عمر ابن عبد البر بخط يده»، يريد بها بيان رفعة الأصل الذي نسخ منه، وأنه كان هو النسخة التي بخط المصنِّف، والتي كانت عنده يضيف إليها ويعدل عليها، كما حصل مع (تبصير المنتبه) لابن حجر، وكما في الأمثلة الأخرى الآتية. بل هذا هو الأصل، خاصة مع كتاب كبير كـ(التمهيد)، يُستبعد غاية الاستبعاد أن يعيد ابن عبد البر نسخه لكي يبيضه، وإنما المتصور: أنه كان يقيم تصويباته وتعديلاته وزياداته على نسخته الأولى التي كتبها في حواشيه.
ومما يؤكد أن وصف (المسودة) لا ينحصر إطلاقُه على النسخة الأولية التي تلتها المبيَّضة، والتي أُلغيت بمبيّضتها: ما جاء في قصة الشعراني، كما حكاها ابن عابدين (ت1252هـ) في حاشيته: « كما وقع للعارف الشعراني: أنه افترى عليه بعض الحساد في بعض كتبه أشياء مكفِّرة، وأشاعها عنه. حتى اجتمع بعلماء عصره، وأخرج لهم مسودة كتابه التي عليها خطوط العلماء، فإذا هي خالية عما افترى عليه»[29]. فواضح من هذا السياق أن وصف النسخة بأنها مسودة لم يكن ليعني أبدًا أنها نسخةٌ أوّليةٌ تراجع عنها الشعراني، وإلا لما كان في إبرازها حجة، ولما وُجدت خطوط العلماء عليها دالّةً على اعتمادها!
بل كثيرًا ما يُعبر النُّسّاخُ عن مجرد نسخهم للكتاب بلفظ التسويد، مما يبين أن التسويد يعني - فيما يعنى -: مطلق الكتابة والنسخ.
كما في نسخة كتاب (العلل) لابن أبي حاتم، حيث ختمها الناسخ بقوله: ««آخر كتاب العلل، والحمد لله رب العالمين. وقع الفراغ من تسويده يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر الله الأصم؛ رجب عظم الله حرمته من سنة خمس عشرة وست مئة»[30].
ونسخة كتاب (شأن الدعاء) للخطابي، حيث خُتمت بالعبارة التالية: «وفرغ من تسويده في الليلة الخامسة من ذي القعدة من شهور سنة سبع وثمانين وخمسمائة: علي بن محمد بن عثمان المؤذن النيسابوري، حامدًا لله تعالى، ومصليًا على رسوله محمد وعلى آله وسلم»[31].
وهذا الاستعمال كثيرٌ جدا في المخطوطات، وهو قاطع بأن التسويد اسم لمطلق الكتابة ؛ لأن النُّساخ كانوا كثيرًا ما يطلقونه على نَسْخِهم للكُتب.
وهذا الاستعمال في الحقيقة هو أصل دلالة تسويد الكتب في اللغوية، جاء في (العين) للخليل بن أحمد وفي (تهذيب اللغة) للأزهري: «وسودتُ الشيء: إذا غَيّرتَ بياضَه سوادًا»[32].
2- أن يصنف المؤلف كتابه، ويرتضيه، فينتسخه النساخ، وقد يُروى عنه. لكنه من حينٍ لآخر يعود إلى كتابه بالتعديل والزيادة والتغيير، كما هي طبيعة الإنسان، فتصبح مبيضته التي دفعها للنسخ والرواية عنه مسوّدة.
وهذا يبين أن المسوّدة لا تقتصر على النسخة الأولية التي لم يرتضها المؤلف، بل قد تكون المسودةُ نسخةً ارتضاها المؤلف، لكنه عاد إليها بالزيادة والتغيير من حين لآخر.
ومن أمثلة ذلك: كتاب (المدوَّنة) لسَحنون - عبد السلام بن سعيد التنوخي – (ت240هـ)، التي في غالبها نقلٌ لأجوبة وتقريرات ينقلها سحنون عن عبد الرحمن بن القاسم العُتقي (ت191هـ). حيث يذكر أبو العباس الغَمْري – الوليد بن بكر – (ت392هـ) أن سحنونًا «كان في آخر عمره يتحيّر في مذهب ابن القاسم، فكان يكتب في حواشي الكتب على أكثر المسائل: "مسألة سوء"، وفي مواضع: "اطرح اطرح"، وفي مواضع:"انظر انظر"، فمات قبل أن يُعْلَم مذهبُه في ذلك»[33].
ومن أمثلة ذلك: مسودة (تقريب التهذيب) لابن حجر، التي بخط يده، والتي اعتمد عليها محققه الشيخ محمد عوامة، ووصف الألحاق والزيادات التي وجدها عليها في مقدمة تحقيقه[34]، والتي استمر المؤلف في الإضافة إليها منذ تأليفه سنة 827هـ إلى سنة 850هـ أي قبل وفاته بسنتين.
ومن أمثلة ذلك: مسودة (إكمال تهذيب الكمال) لـمُغُلْطاي بن قِـَلِيج (ت762هـ) التي بخط يده، والتي امتلأت كثيرٌ من حواشيها بإضافات بخط المصنف. وهو الكتاب الذي كان غالبُ اعتماد الحافظ ابن حجر عليه في زياداته على (تهذيب الكمال) للمزي (ت 742هـ) في كتابه (تهذيب التهذيب)[35]. وواضح أن مغلطاي بعد تصنيفه الكتاب، وانتساخه عن نسخته، استمرَّ في الزيادة عليه. ويبدو أن الحافظ ابن حجر كان يستفيد من إحدى منسوخات (إكمال تهذيب الكمال)، ولم تكن لديه نسخة مغلطاي التي بخط يده ؛ لأنه فوّت من زياداته في الجرح والتعديل كثيرا منها، مع أن ابن حجر اشترط على نفسه عدم تفويت شيء من عبارات الجرح والتعديل[36]، فلو كانت نسخة كتاب مغلطاي التي بخط يده لديه لما فوّتَ تلك النُّقولَ النفيسة. وهذا يدل على أن مغلطاي كان قد دفع مبيضته الأولى من كتابه بعد تصنيفه للنساخ، فانتُسخ منه نُسخٌ طارت في الآفاق، وبقيت نسخته لديه يضيف فيها ويزيد عليها، لتصبح مسودته.
3- أن يجمع المؤلف مادةً من مواد كتاب، ثم يموت قبل إتمامه، أو قبل تبييضه، ويُوقَفُ على هذه المسودات. وقد تكون مادة الكتاب في هذه الحالة:
أ-ليست محلًّا لتغيُّرِ الاجتهاد غالبا (كالأخبار): فلا حرج من نسبة كل ما فيها إلى مؤلف المسودة.
ب- أو قابلةً لتغيُّرِ الاجتهاد غالبا: فلا يصح البتُّ بنسبة كل ما فيها إلى مؤلف المسودة.
من أمثلة القسم الأول (غير القابل لتغير الاجتهاد): (تاريخ وفاة الشيوخ) لأبي القاسم البغوي – عبد الله بن محمد بن عبدالعزيز بن المرزبان – (ت317هـ)، فقد مات البغوي وهو في صورة رِقاع مفرقة بخطه، فكانت بعد وفاته بحوزة ابن عمه: عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بن عبد العزيز بن المرزبان (ت346هـ)، فدفعها إلى الحافظ محمد بن المظفر (ت379هـ)، فرتبها على ما هي عليه، ورواها عن مصنفها وجادة (بصيغة: قال)[37].
ونحوه (معجم السَّفَر) لأبي طاهر السِّلفي – أحمد بن محمد بن أحمد الأصبهاني – (ت576هـ)، فقد تركه السِّلفي في جُزازات بخطه، فجاء الحافظ زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (ت656هـ)، ورتبه، ونسخه ابن المنذري رشيد الدين محمد (المتوفَّى شابًّا في حياة والده سنة 643هـ).
قال الحافظ السخاوي (ت902هـ): «معجم السَّفَر للسلفي: وهو في مجلد كثير الفوائد، بخط محمد ابن المنذري، قال عن أبيه الزكي إنه وقع له بخط السِّلفى في جزازات، كل ترجمة في جزارة، فبيضها، ورتبها كما تجيء، لا كما يجب، وكذا لم يكن ترتيبه كما ينبغي، ولم يكتب فيه من الإصبهانيين أحدا»[38].
ونحوه كذلك: (ثبت مسموعات ضياء الدين محمد بن عبد الواحدالمقدسي [ت643هـ]): والذي حققه الدكتور محمد مطيع الحافظ عن نسخة بخط الضياء، وهي مسودة للكتاب[39].
ومن أمثلة القسم الثاني القابل لتغير الاجتهاد: فتوى للإمام تقي الدين السبكي (ت756هـ)، نقلها هو نفسه في فتاواه، ثم قال عقب نقلها: «هذه المسألة كانت مسودة، ونقلتُها الآن من غير فكرٍ فيها، وأظن أنها غير محررة، فلتتأمل. وكَتب في ربيع الأول، سنة: أربع وثلاثين وسبعمائة»[40].
فرغم أنه هو صاحب المسودة، ورغم أنه هو من نقلها وبيّضها ؛ إلا أنه يعترف أنها ما زالت بالنسبة له مسودة، لم يستقرّ له فيها رأي ! وإنما أوردها لينظر فيها من يريد أن يبحث في المسألة، عسى أن تفتح مسودتُه للباحث بابًا للتحرير ومعرفة الصواب!
وبنحو هذا التنبيه الذي علق به الإمام السبكي على مسودة فتواه نعرف وجه الإفادة من المسودات، حتى تلك المسودات التي لم يكن مؤلفوها يرتضون نسبتها إليهم !
ومن أمثلة هذا القسم الثاني: كتاب (رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله) للشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلِّمي اليماني (ت1386هـ)، الذي مات ولم يطبعه.
وهو كتاب لم يطبعه الشيخ المعلمي في حياته، ولا جزءا منه، وبقي يكتب الشيخ في مسوداته، ويبيض بعضها. لكنه لم يدفع منه شيئا للطباعة في حياته، رغم أن بداية كتابته فيه كانت قبل وفاته بأكثر خمسة عشر عاما، كما بين ذلك محققه[41]. ومع ذلك مكث الكتاب هذه السنين كلها، ولم يطبعه المؤلف في حياته، ولا أوصى بطباعته بعد موته !!
ولذلك وجب التنبيه على أن مثل هذه المسودات والكتب التي لم يبيضها مؤلفوها، أو لم يدفعها مؤلفوها المعاصرون للطباعة (في العصر الحديث)، يَرِدُ على مضامينها احتمالٌ يمنع أن نجزم بنسبة كل ما ورد فيها إليهم، إذ إن الظاهر أفكارها فيها ما زالت محل نظر لديهم، ولربما مازالوا يرونها لم تأخذ منهم حظها الكافي لكي تُـمثِّل اجتهادَهم النهائي ورأيهم المستقر، ولذلك لم يخرجوها. وهذا مما يوسع العذر لهم، ولكنه يوجب أيضا الحذر من نسبة كل ما فيها إليهم ؛ إلا ما وجدناه في كتابٍ له آخر رضيه وأخرجه، مما يدل على رضاه عن نسبة أفكاره واجتهاداته التي فيه إليه.
ومن هذا العرض يتبين أن (مسودة الكتاب): أعم من الإخراج التصنيفي، فقد تكون المسودة هي النسخة المعتمدة لدى المؤلف، وإن كانت مسودة. وقد تكون هي الإخراج الأول الذي أُلغي بالإخراج الثاني، وقد لا تكون هذا ولا ذاك: فتكون تقييدات لفكرة كتاب لا يستجيز المؤلف نسبتها إليه ؛ لأنه لم يستوف بحثها والنظر فيها.
مما يعني أن تحقيق المسودات يجب أن يحدد حالتها، وأنه يجب على المحقّق أن ينبه القارئ بنوع تلك المسودة وطريقة الإفادة منها، كما يجب أن يراعي في التعليق عليها وفي خدمة نصها طبيعة تلك المسودة، سواء مع وجود المبيضة، أو مع عدم وجودها.
ولذلك كله مجال آخر للتفصيل فيه.
- وأما روايات الكتاب: فهي ما يبرز من الاختلافات في نسخ الكتاب بسبب رواية مصنِّفه في أوقات مختلفة، بما يصاحب ذلك من تغييرات صادرة منه في كتابه.
وأوضح مثال لذلك وأشهره: الموطأ: للإمام مالك: باختلاف تلامذته عنه، وعامة كتب السنة التي تعددت رواياتها عن مصنفيها، كروايات تلامذة الإمام أبي داود لسننه.
ويميز هذه الروايات عن الإخراج: أنها جميعا يعتمدها المصنف، وتعامل العلماء معها على مر العصور على أنها اجتهادات متعدّدة للمؤلف لا يُلغي أحدها الآخر ؛ إما لكون الاختلافات يسيرة، كاختلاف ترتيب، أو اختلاف زيادة ونقص لا يظهر منهما تراجعا في الزيادة عن النقص، ولا في النقص تراجعا عن الزيادة، أو اختلاف في الصياغة والأسلوب لا يوجب نسخا ولا إبطالا للتعبير الآخر... ونحو ذلك من الاختلافات التي لا تتضمن تراجعا.
مع وجوب التنبه أن اختلاف الروايات عن المصنف ليس هو اختلاف التلامذة على المصنف، فقد يقع الاختلاف بسبب خطأ التلميذ على المصنِّف، كبعض أخطاء رواة الموطأ على الإمام مالك، سواء الأخطاء يحيى بن يحيى بن كثير الليثي – مولاهم – المصمودي (ت234هـ)، أو غيره من رواة (الموطأ).
ومن هذا تعلم: أنه ليس كل اختلاف واقع في الروايات صادرا من المصنف، فمنه ما صدر من تلميذه، وعندئذٍ يخرج هذا الاختلاف عن مسمى الرواية التي نقصدها في هذا التعريف، إلى أن يكون هذا الاختلاف من نوع اختلاف النسخ، الآتي بيانه.
ومن هذا الفرق بين (الإخراجة التصنيفية) و(الروايات) يتبيّن أنهما لا يجتمعان، بمعنى: أننا إن عددنا اختلاف النسخ ناشئًا عن إخراجة جديدة للمؤلف، فهذا يعني أنها يجب أن تكون منهيةً على الإخراجة السابقة، ولا يصح أن نتصور أن يروي الإخراجتين كلتيهما تلميذٌ واحدٌ عن المؤلف ؛ لأنه إن كان التلميذ قد سمع الإخراجتين، وعلم أن الأخيرة وحدها هي التي ارتضاها شيخُه المصنف، ولا يرتضي ما قبلها = كيف يجوز له أن يروي الإخراجة القديمة الملغية؟! وما الداعي له إلى ذلك أصلا ؟!
وهذا الإشكال هو ما لم يجب عنه المحقق القدير الدكتور بشار عواد معروف في إخراجه لكتاب (الضعفاء) للعُقيلي (ت322هـ)، حيث ذكر أن للكتاب (إبرازتين) بينهما اختلافات مؤثرة في الحكم على الرواة وفي غير ذلك[42]، وقد عدها هو نفسه (إبرازتين) وليستا روايتين، ومع ذلك ذكر أن الإبرازتين كلتيهما من رواية يوسف بن أحمد بن الدَّخيل الصيدلاني المكي (ت388هـ)[43]!
وهنا يأتي موطن الإشكال، كما سبق.
- وأما روايات نسخ الكتاب: فهي اختلاف الروايات النازلة عن تلامذة المصنف، من تلامذة تلامذته، أو ممن جاء بعدهم.
من مثل اختلاف نسخ صحيح البخاري التي ترجع جميعها إلى رواية الفِرَبْرِي – محمد بن يوسف بن مطر – (ت320هـ):
- كرواية أبي علي ابن السَّكَن – سعيد بن عثمان – (ت353هـ).
- ورواية أبي زيد الـمَرْوَزِي – محمد بن أحمد بن عبد الله الفاشاني – (ت371هـ)[44].
- ورواية أبي إسحاق المستملي – إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن داود البلخي – (ت376هـ).
- ورواية أبي محمد الـحَمُّويِيّ – عبد الله بن أحمد بن حمويه بن مردويه السرخسي – (ت381هـ)[45].
- ورواية أبي الهيثم الكُشْمِيهَني – محمد بن المكي المروزي – (ت389هـ)[46].
خمستهم: سمع صحيح البخاري من الفربري.
وهذه الروايات لا تعدو كونها نُسخًا من صحيح البخاري، واختلافاتها لا تخلو من أن يكون أحدها صوابًا والبقية خطأً ؛ لأن هذه الاختلافات ليست صادرة عن المؤلف (وهو الإمام البخاري)، بدليل اتحاد مخرجها عن البخاري، وهو تلميذه الفربري، والفربري إنما كان يروي لنا نسخة واحدة عن البخاري ؛ إذ هذا هو الأصل والواجب. فلو كانت تلك الروايات الخمسة رواياتٍ عن تلامذة مختلفين للبخاري (كالنسفي وحماد بن شاكر) لأمكن عدُّها رواياتٍ متعدّدة للكتاب، ولأمكن أن يكون الأصل في اختلافاتها صدورَها عن البخاري نفسه، وعندئذ فقط يجب التعامل معها على أنها روايات، وليست نُسخًا.
وإنما عُوملت هذه النسخ معاملةً من الإجلال والحذر في التخطيء، لا كبقية النسخ المخطوطة واختلافاتها ؛ لأن أصحابها الذين نُسبت إليهم كانوا علماء عُرفوا بالضبط والإتقان، وعُرفت نسخهم واشتُهرت، وأصبحت أُماتٍ لألوفٍ من النسخ، واتصلت من خلالها الأسانيد بصحيح البخاري.
لذلك يجب التعامل مع هذه الروايات على أنها نسخ لصحيح البخاري، حتى لو وقفنا على أصول أصحابها. فيكون اختلافها اختلافَ نُسخ: ما بين صواب وخطأ، لا على تصويب أكثر من قراءة وأكثر من وجه ؛ لأنها جميعها – كما سبق – تمثّل قراءةً واحدة ووجها واحدًا لصحيح البخاري.
- وأما نسخ الكتاب: فهي عموم النسخ المخطوطة، والاختلافات المعهودة بينها، والناتجة عن خطأ نسخي أو وهم روائي صادر من أحد رواة الكتاب النازلين عن طبقة تلامذة المصنف.
وقد سبق أن بينّا أن هذا الاختلاف لا يتجاوز أن يكون أحده صواب وباقيه خطأ، أو كله خطأ، ولا يمكن أن يتعدد احتمال الصواب فيه ؛ لأنه اختلاف لم يصدر من المؤلف.
ونحن هنا لا نتحدث عن الخطأ مطلقا، وإنما نتحدث عن الخطأ على المؤلف، والخطأ الذي لا يعطينا صورة حقيقية عن كتابه، وينسب إليه ما لم يصدر منه. وأما خطأ المؤلف نفسه، أو خطأ أحد رجال إسناده، فليس هو مجال حديثنا ؛ لأننا نتحدث عن تحقيق الكتاب المخطوط، والذي أوجب واجباته إخراج الكتاب إلى أقرب صورة ممكنة لما كتبه المؤلف، بصواب المؤلف وخطئه، دون تدخل في إصلاح خطأ المؤلف.
وبذكر هذه التعاريف: يتبين الفرق بين (إخراجات الكتاب)و(إبرازاته) المتعدّدة وما يشتبه بها من إطلاقات وصور للاختلافات الموجودة في تراثنا المخطوط.
ويتضح من ذلك: أن أهم ما يفرق ما نقصده بالإخراج عن بقية الحالات التي تَشْتبهُ به (كالروايات): أن الإخراج الجديد يُلغي الإخراج القديم، إما بتصريحٍ من مؤلفه، أو باحتوائه على اختلافات كبرى تُغيِّر معالم الكتاب أو بعضَ أهمِّ معالمه أو بعضَ أهمِّ آراء المؤلف، كأن يتراجع عن اجتهادات مؤثرة في كتابه.
أما الرواية: فما زال العلماء يتعاملون معها على أنها جميعًا نُسَخٌ تصحُّ نسبتُها للمؤلف، وتصح الإفادةُ منها على أنها تُـمثِّـلُ رأيَه واجتهادَه.
المبحث الثانى
كيفية تمييز الإخراج الثاني عن الروايات
بعد أن عرفنا ما هو الإخراج، وأنه هو ما يُلغي به المؤلِّفُ مبيضتَه الأولى (إلغاءً تاما أو جزئيًّا)[47]، مبيضته الأولى التي كان يرتضيها ويرويها أو تُنتسخ من نسخته، ثم بعد إخراجه الثاني صار لا يجيز أن تُروى عنه.
يَرِدُ هنا سؤال: ما هي دلائل كون النسخة الخطية إخراجةً ثانية أو مجردَ روايةٍ أخرى عن المؤلف ؟
لا شك أنه قد تتوفر دلائل قاطعة على ذلك، كما في المثال المشهور لكتاب (الياقوت في اللغة) لغلام ثعلب - محمد بن عبد الواحد بن أبى هاشم – (ت354هـ)، والذي أملاه ست مرات، في كل مرة كان يضيف ويصوب، ثم قال في آخر عرضة عليه: «هذه العرضة هي التي تفرد بها أبو إسحاق الطبري: آخر عرضة، لا أُسْمِعُها بعدها، فمن روى عني في هذه النسخة وهذه العرضة حرفا واحدا فليس من قولي: فهو كذاب عليّ»[48].
وكقول السخاوي (ت902هـ) في حوادث سنة 897هـ: «وتجدد لي من التصانيف: جزءٌ في ختم (سيرة ابن سيد الناس)، وبُيّضَ مؤلَّفي (التوبيخ لمن ذم التاريخ) في كراريس، ومسوَّدةٌ ثانيةٌ لمؤلَّفي في (الفِرَق)، وهو مجلد ضخم، لم أستوف إلى الآن فيه الغرض»[49].
فهو يصرح أن مسودته الثانية من الكتاب لم تصل إلى تبلغ رضاه عنها، فكيف بالأولى ؟!
وكقول أبي البقاء البَلَوِي - خالد بن عيسى بن أحمد بن إبراهيم – (ت767هـ) في نسخة رحلته (تاج المفرِق في تحلية علماء المشرق) التي بخط يده: « وهذه النسخة هي آخر نسخة كتبتها من مبيّضة أنشأتها، وهذه هي التي اعتمدتها، ونقحتها، وارتضيتها»[50].
لكن قد تنزل الدلائل عن هذا الحد، وتتدرّج في النزول، حتى تصل مرحلة الشك. ولا شك أن منهج التعامل مع النسخة التي نقطع بكونها ناسخة لما قبلها يجب أن يختلف عن النسخة التي يغلب على ظننا أنها إخراجة جديدة للمؤلف، فضلا عن التي لا نجد من القرائن ما يرفعها عن درجة الشك. وبالتالي سوف يختلف أسلوب التعامل معها بحسب اختلاف أحوالها من هذه الجهة، ومن جهة النظر إلى طبيعة الاختلاف بين الإخراجتين أيضا، على ما يأتي بيانه.
ويجب التنبه إلى أن مجرد اختلاف الأسلوب والتعبير من نسخة إلى أخرى لا يلزم منه أن تكون تعبيرا عن إخراجات متعددة، فهذا متحقق في الروايات (كروايات موطأ مالك، وكاختلاف روايات سنن أبي داود في تعليقاته على الأحاديث)، فلا بد إذن من اجتماع قرائن أخرى تشهد أن ذلك الاختلاف تعني إخراجة جديدة تعني إلغاء ما سبقها.
كما أن اختلاف الأسلوب قد يكون بتدخل من الناسخ، تحريفًا متعمدا لنصرة مذهب، أو لقلة أمانته عند عدم قدرته على قراءة الأصل.
وقد يكون من أمثلة ذلك ما وقع في أحد المواضع من كتاب (معالم السنن: شرح سنن أبي داود) للخطابي (ت388هـ)، فقد ذكر أنواع خطاب الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقال في بيان أحد تلك الأنواع، وهي التي يكون فيها الخطاب موجها للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود به غيره، فقال في ضرب مثاله: «كقوله تعالى ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ [لقمان: 14]، وقال ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: 83]، وهذا خطاب لم يتوجه عليه، ولم يلزمه حكمه ؛ لأمرين:
- أحدهما أنه لم يدرك والديه.
- ولا كان واجبا عليه لو أدركهما أن يُحسن إليهما ويُشْرِكَهما إحسانَ الآباءِ المسلمين وشُكرَهم»[51].
هكذا جاء النص (والسطر الأخير منه خاصة) في مطبوعة الكتاب، وفي ست نسخ خطية للكتاب، وهي:
- مخطوطة الخزانة العامة بالرباط (353ك): وهو مكونة من جزئين الأول منهما منسوخ سنة 487هـ [52].
- ومخطوطة يني جامع بتركيا (رقم 299)، وهي بخط يوسف بن شاهين سبط الحافظ ابن حجر، سنة 876هـ[53].
- ومخطوطة مكتبة لاله لي بتركيا (رقم 505).
- ومخطوطة مراد ملا: المنسوخة سنة 781ه[54].
- نسخة مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة: وهي منسوخة سنة 1173هـ [55].
- ونسخة مكتبة أحمد الثالث (رقم 417): منسوخة سنة 647هـ[56].
لكن جاء نص السطر الأخير في النسخة الأزهرية كما يلي: ««ولا كان واجبا عليه أن يحسن إليهما أو يشكرهما ؛ لعدم الإسلام فيهما»[57]!
وهي عبارة قبيحة جدا، وباطلة المعنى، فلا أظنها صدرت من الإمام الخطابي في قديمٍ منه أو حديث، فأين هي إذن عن قول الله تعالى ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ ؟!
وهذا يوجب على المحقق أن لا يتعجل ادعاء اختلاف الإخراجات لمجرد وقوفه على اختلافات في الصياغة، حتى يتأكد أنها اختلافات صادرة من المؤلف أولا، ثم هل هي تدل على اختلاف اجتهاد ؟ وأنها تدل على تعدد إخراجات ؟
المبحث الثالث
طريقة خدمة الإخراجات المتعددة
بما أننا بينا تَعدُّدِ أحوال وصور الإخراجات التصنيفية (الصدارة من المصنِّف): من جهة اختلاف ثبوت كونها إخراجا تصنيفيا، ومن جهة اختلاف مستوى عدم رضا المؤلف عن الإخراج القديم: وجب أن تختلف طرائق خدمة النص المخطوط بمراعاة هذه الاختلافات ودرجاتها.
فالنسخة التي تبرّأ المؤلف مما سواها: هي التي يجب أن تُعتمد فيما يُنسب إلى المؤلف. وإن كانت الإخراجات الأسبق مفيدة في دراستنا عن المؤلف ومراحل تكوينه العلمي وطريقة تجدد اجتهاده وغير ذلك من الفوائد، التي تسمح بتحقيق الإخراجة الأولى مع التنبيه أنها لا تمثل رأي المؤلف، ولا يصح الاعتماد عليها وحدها فيما يُنسب إليه.
وأما في الإخراجات التي لا نجزم بأن المؤلف متبرئ فيها من عهدة إخراجه الأول، والتي قد يكون لنسخته القديمة حضورٌ قوي في النسخ المخطوطة، وفي نقل العلماء عنها، فقد يكون من الواجب ذكر الإخراجتين معًا، لا على وجه النص الملفَّق المختار، وإنما أن تُذكر الإخراجة القديمة في حاشيةٍ متوسطة، بين الأصل الذي يتضمن الإخراجة الأخيرة، وحاشيةِ التعليق على النص.
وفائدة ذلك:
1- أن النص القديم قد يعين على فهم النص الجديد.
2- أنه إن وُجد من نقل من العلماء من الإخراجة القديمة: لا يصح أن نعرض نقلهم للتُّهمة والتشكيك.
3- أن الموازنة بين النصين مفيدة في فهم منهج المؤلف في التفكير وتدرّج مراحل اجتهاده.
وقد يكفي في بعض الإخراجات القديمة: أن تُكتب عنها دراسة وافية في مقدمة التحقيق، تبين أهم معالمها وأهم مواضعها، وأهم معالم التحديثات في الإخراجة الأخيرة، وأسبابها.
فلا يصح أن تُهمل مثل هذه الإخراجات القديمة تماما، كما فعل الدكتور بشار عواد معروف في تحقيقه لـ(التمهيد). خاصة وهو نفسه اضطر في بعض أجزاء من الكتاب إلى اعتماد نسخ خطية من الإخراجة القديمة ! فإنه إن كانت الإخراجة القديمة من (التمهيد) ملغيةً تماما عند ابن عبد البر، فكيف جاز له أن يُتمم بها النسخةَ الحديثة في نسقٍ واحد ؟! وإن كانت الإخراجةُ القديمةُ لم يزل مقبولا أن يُنسب ما فيها إلى ابن عبد البر، بدليل تكميل الدكتور بشار نقصَ الإخراجة الأخيرة بمجلدات من الإخراجة القديمة، فكيف جاز له إهمالها تماما أثناء خدمته للنص المحقق ؟! وكيف سنوثق ونحاكم نَقْلَ العلماء الذين نقلوا عن الإخراجة القديمة، مع إهمالها تماما والاكتفاء بالإخراجة الحديثة.
وها هو الدكتور بشار في تحقيقه لـ(الضعفاء) للعقيلي، رغم اعتباره ما وجده من نسخ الكتاب يمثل إخراجتين (إبرازتين)، لا يهمل الإبرازة الأقدم في ظنه، أثناء تحقيقه للنص.
أخيرا: أود أن أؤكد أن ما ذكرته في هذا المقال مما لا أشك أنه مثار اختلافٍ وتعدد وجهات النظر، وإنما أردت من ذكره أن يكون بداية جديدة لنقاش مثمر، يكون سببا – بإذن الله- لإنضاج الآراء وإبداع أفكار تقوم على خدمة تراثنا المخطوط أفضل خدمة.
الخاتمة وأهم نتائج البحث:
- التأكيد على أن التعديل والزيادة والنقص ووجوه التغيير في المصنفات من قِبل مصنفيها ظاهرة بشرية عادية، أكّد العلماء على ضرورتها البشرية منذ القِدَم.
- أن الإخراج التصنيفي: هو كل إخراج جديدٍ للمؤلف يُعيد فيه النظرَ إلى تأليفه بالتعديل الذي لا يرتضي كتابَه بدونه.
- لا يلزم من وجود أكثر من إخراج: إلغاء الإخراج القديم تماما.
- تعريف مُسَوَّدة الكتاب: هي نسخة الكتاب التي بخط مصنفه، إذا ظهرت عليها آثار التصويب والزيادة والتغيير.
- لا يلزم من وصف الكتاب بأنه مسودة أن لا يكون معتمدًا.
- أن (مسودة الكتاب): أعم من الإخراج التصنيفي، فقد تكون المسودة هي النسخة المعتمدة لدى المؤلف، وإن كانت مسودة. وقد تكون هي الإخراج الأول الذي أُلغي بالإخراج الثاني، وقد لا تكون هذا ولا ذاك: فتكون تقييدات لفكرة كتاب لا يستجيز المؤلف نسبتها إليه ؛ لأنه لم يستوف بحثها والنظر فيها.
- تعريف روايات الكتاب: هي ما يبرز من الاختلافات في نسخ الكتاب بسبب رواية مصنِّفه في أوقات مختلفة، بما يصاحب ذلك من تغييرات صادرة منه في كتابه.
- تعريف روايات نسخ الكتاب: فهي اختلاف الروايات النازلة عن تلامذة المصنف، من تلامذة تلامذته، أو ممن جاء بعدهم.
- اختلافات روايات نسخ لا تتجاوز كونها اختلافًا بين الخطأ والصواب، ولا يصح أن تعامل معاملة اختلاف الروايات.
- نسخ الكتاب: فهي عموم النسخ المخطوطة، والاختلافات المعهودة بينها، والناتجة عن خطأ نسخي أو وهم روائي صادر من أحد رواة الكتاب النازلين عن طبقة تلامذة المصنف.
- طرائق تمييز الإخراجات تختلف في مراتب قوتها في الدلالة على ذلك، فقد نقطع بوجود إخراج جديد للكتاب، وقد يغلب على ظننا ذلك، دون يقين به، وقد لا يتجاوز حُسبانُنا مرتبة الشك (تساوي الطرفين).
- تخلف طرائق خدمة الإخراجات بحسب اختلاف ثبوت كونها إخراجا تصنيفيا، وبحسب اختلاف مستوى عدم رضا المؤلف عن الإخراج القديم أيضًا.
والله أعلم
وكتب
في 20/ 6/ 1441هـ الموافق 14/ 2/ 2020م
في مكة المكرمة زادها الله تشريفًا وتعظيمًا وجلالةً ومهابة
العودة لصفحة المؤتمر