المنهجُ العلمىُّ لجمعيةِ الْمَكْنِزِ الإسلامى

فى تحقيقِ كتبِ السُّنَّةِ ونشرها ومزاياه

 

د. كيلانى محمد خليفة

 مشروع السنة المشرفة بجمعية المكنز الإسلامى

العودة لصفحة المؤتمر

 

المقدمة

الحمدُ للهِ الذى أَنْزَلَ على رسولِهِ القرآنَ العظيم، وَأَوْحَى إليه تِبْيَانَهُ الساطعَ بِالنُّورِ العَميم؛ فَهَدَى الناسَ بعد الضَّلالة، وَبَصَّرَهُمْ بعد الغِواية، وَعَلَّمَهُمْ بعد الجَهالة، ونشهدُ أن لا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له، سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، لا يَرْضَى ظلمًا للعباد، ولا يحبُّ الفساد، ولا يُخْلِفُ الميعاد، ونشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولُه، وَأَمِينُهُ على وَحْيِه، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِه، المَنْعُوتُ بِالْخُلُقِ العظيم، المَبْعُوثُ بِالدِّينِ الْقَوِيم، وَنُصَلِّى عليه صلاةً دائمةَ النَّماء، تملأُ الأرضَ والسماء، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ الْكُرَمَاءِ النُّبَلَاء، وَنُسَلِّمُ تسليمًا كثيرًا رَاجِينَ صُحْبَتَهُ فى دارِ البقاء.

أَمَّا بَعْدُ: فإن مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ - تَعَالَى - على هذه الأُمَّةِ أَنْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ دِينِها المُتَمَثِّلِ فيما أَوْحَاهُ إلى نَبِيِّها صلى الله عليه وسلم من قرآنٍ وسنةٍ؛ فقد قال - جَلَّ ذِكْرُهُ - فى كتابِهِ الكريمِ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحِجْر: 9].

وإن من حفظِ هذا الذكرِ العظيمِ حفظَ بيانِهِ القويمِ الذى تَكَفَّلَتْ به السنة النبوية تنفيذًا للتوجيه الإلهى الحكيم فى قوله - تعالى - لرسوله الأمين: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].

فقد أسند الله - تعالى - بيان كتابه العظيم لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم؛ فجاءت سنته الغراء بالبيان على التمام والكمال؛ فاقتضت حكمته - تبارك وتعالى - أن يَحُوطَها بالحماية والعناية؛ فحاشاه - عز وجل - أن يُحِيلَ بيانَ كتابِهِ أو أن يَكِلَ عبادَهُ إلى أمر غير محفوظ، وعلى هذا الفهم سار الأئمة والعلماء؛ فقال الحافظ زين الدين العراقى: رُوِّينَا عن ابنِ المباركِ قال: لو هَمَّ رجلٌ فى السَّحَرِ أن يَكْذِبَ فى الحديث، لأصبح والناسُ يقولون: فلانٌ كَذَّابٌ. وَرُوِّينَا عنه أنه قيل له: هذه الأحاديثُ المصنوعةُ. فقال: تعيش لها الجَهَابِذَةُ، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[1].

وقال الإمامُ ابْنُ حزمٍ الأندلسىُّ: والذِّكْرُ اسمٌ واقعٌ على كُلِّ ما أَنْزَلَ اللهُ على نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم من قرآنٍ أو سنةٍ[2].

بل قال الإمام أبو محمد البربهارى: اعلموا أن الإسلام هو السُّنَّة، والسُّنَّة هى الإسلام، ولا يقوم أحدهما إلا بالآخر[3].

فللهِ الحمدُ والمِنَّةُ على تلك العنايةِ الإلهيةِ الأبديةِ بالحفظِ والتأييدِ لهذا الدينِ السَّدِيد.

وقد ظهر مصداقُ ذلك الوعدِ الإلَهِى بِحِفْظِ الذِّكْرِ العَلِى مع طولِ المُدَّة واتساعِ الرُّقْعَة؛ فَقَيَّضَ اللهُ للقرآنِ مَنْ يحفظُهُ، ويحافظُ عليه، ويرويه عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم متواترًا، آيةً آيةً، وكلمةً كلمةً، وحرفًا حرفًا؛ حفظًا فى الصدورِ، وإثباتًا بالكتابةِ فى المصاحفِ، ووَكَّلَ بِالسُّنَّةِ حُفَّاظًا عارفين، وجهابذةً عالمين، وصيارفةً ناقدين، وأئمةً راسخين، فَرَّغوا لها أنفسَهم، وَأَفْنَوْا فى تحصيلها أعمارَهم، فَحَفِظوها فى صدورهم، وَأَوْدَعوها سُوَيْدَاءَ قلوبهم، وَدَوَّنوها فى مُصَنَّفَاتهم؛ فَخَلَّفُوا لنا ثروةً علميةً زاخرةً، مَنْ تَأَمَّلَ فنونَها وعلومَها المختلفةَ عَلِمَ مقدارَ ما بَذَلُوهُ فى سبيلِ جَمْعِها وحِفْظِها وبيانِها، وَعَلِمَ أَيْضًا مقدارَ ما حَظِىَ به هؤلاء العلماءُ الراسخون من تأييدٍ ربانى وتوفيقٍ إلهى لَمَّا صَدَقوا فى طلبِ هذا العلمِ الشريفِ والعملِ به والدعوةِ إليه صابرين مُحْتَسِبِين {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21. الجمعة: 4] فَجَزَاهُمُ اللهُ خَيْرَ الجزاءِ وَأَوْفَاه.

وهكذا حَفِظَ لنا أسلافُنا علومَ الشريعةِ قَدْرَ طاقتِهِم فى صورةِ مخطوطاتٍ تَفَرَّقَتْ فى كثيرٍ من المكتباتِ فى مختلفِ أنحاءِ العالمِ، فصارتْ كَنْزًا دفينًا ينتظرُ مَنْ يستخرجُهُ وينشرُهُ لينتفعَ الناسُ به؛ وَمِنْ ثَمَّ اغتنم المسلمون بزوغَ فجرِ الطباعةِ وانتقالَ المطابعِ إليهم، فاجتهدوا فى نشرِها وطباعتِها، وكان فى مقدمةِ هذه العلومِ النافعةِ الماتعةِ علومُ السُّنَّةِ المشرفةِ، فنقلوا ما كان محفوظًا منها فى مخطوطات لا تمتد إليها الأيدى ولا تراها الأعين إلى كتب مطبوعة ينتفع بها الملايين، وكان فى طليعتها كتابُ الجامعِ الصحيحِ للإمامِ البخارىِّ - رحمه الله - فقد أصدر السلطان عبد الحميد الثانى - رحمه الله - سنة 1311هـ أمرًا إلى مشيخة الأزهر بأن يتولى جَمْعٌ من أكابر علماء الأزهر الأعلام إخراج نسخة موثقة منه، فَشُكِّلَتْ لجنةٌ موقرةٌ منهم برئاسة شيخ الأزهر آنذاك الشيخ حسونة النواوى، وقد أرسل إليهم صاحب الدولة الغازى أحمد مختار باشا المندوب العالى العثمانى فى القطر المصرى نسخة الحافظ اليونينى الخطية فائقة الدقة والجودة؛ لتكون أصلًا معتمدًا فى ذلك العمل المبارك الذى صار مثالًا يُحْتَذَى به فى الدقة والأمانة، وقد فُرِغَ من طباعة هذه الطبعة السلطانية النفيسة من صحيح الإمام البخارى سنة 1313هـ.

ثم طُبِعَ بعد ذلك صحيحُ الإمامِ مسلمٍ - رحمه الله - فى مطبعة الأستانة، ثم تَتَابَعَتْ طباعةُ كتبِ السُّنَّةِ على درجاتٍ متفاوتةٍ فى التحقيقِ والدِّقَّةِ، بَعْضُها نتاجُ جهودٍ جماعيةٍ لكياناتٍ علميةٍ مُؤَسَّسِيَّةٍ، وَبَعْضُها نتاجُ جهدٍ فردىٍّ لبعض أهل العلم.

ولكن على الرغم من هذه الصحوة العلمية وهذه النقلة النوعية فى العناية بكتب السنة النبوية فإنهما لم تُكَافِئَا التحديات ولم تَرْقَيَا إلى مستوى التطلعات؛ فإن واقع العديد مما نُشِرَ من النصوص الحديثية المُحَقَّقَة لا يَرْقَى إلى الدرجة المأمولة، ولا يبلغ الغاية المنشودة؛ وذلك لأسباب كثيرة أبرزها:

1- أن بعضه لم يُحَقَّقْ تحقيقًا علميًّا دقيقًا وفق القواعد العلمية لنشر وتحقيق النصوص.

2- أن بعضه لا يخلو من أخطاء فاحشة وأغلاط فادحة؛ بسبب إسناد بعض أصحاب دور النشر أعمال التحقيق لأشخاص لا يُوثَقُ بعلمهم ولا بدينهم.

  • فبعض هؤلاء المُحَقِّقين عمد إلى تغيير اسم المُصَنَّف الذى حَقَّقَهُ، فوضع له اسمًا جديدًا؛ مثل كتاب التاريخ الأوسط للبخارى؛ فقد طُبِعَ باسم التاريخ الصغير، وكتاب الشمائل المحمدية للترمذى؛ فقد طُبِعَ باسم أوصاف النبى صلى الله عليه وسلم.
  • وبعضهم حذف بعض الأحاديث عند التكرار.
  • وبعضهم حذف أسانيد الكتاب من الصلب وأثبتها فى الحاشية.
  • وبعضهم انتزع أبوابًا من مُصَنَّفٍ ما، ثم نشرها باسم جديد على إيهام أنه تأليف مستقل.
  • وبعضهم توسع فى التعليق والشرح؛ فأثقل النصوص بهوامش خرجت عن مقصودها من خدمة النص إلى صرف القارئ عن موضوع الكتاب الأصلى إلى مواضيع هامشية فرعية لا تهمُّ القارئ، والصواب الذى رجَّحه شيوخ التحقيق من المتأخرين يتمثل فى الاقتصار على ما لَا بُدَّ منه من الهوامش؛ وهو ما يخدم النص، ولا يخرج بالقارئ عن موضوعه إلى مواضيع هامشية تثقل النص ولا فائدة منها، ويتدخل حين الضرورة التى يقتضيها البحث.[4].

3- أن بعض الناشرين أنفسهم قد يسرقون تحقيقات بعض المُصَنَّفات الرائقة الرائجة، فيعمدون إلى حذف مقدمات تحقيقها للتعمية على حقوق أصحابها، وفى الوقت نفسه قد تكون هذه المقدمات موضحة لمنهج أصحابها المُحَقِّقين وتدخلاتهم فى النص بالحذف أو الإضافة؛ ومِنْ ثَمَّ لا يمكن التمييز بين أصل الكتاب كما تَرَكَهُ مُصَنِّفُهُ والحذف أو الإضافة الحاصلين له من مُحَقِّقِه.

4- أن بعض هذه النشرات والطبعات رديئة الإخراج؛ حيث يكثر فيها السقط والتحريف والتصحيف والأغلاط المشكلة، ويُضافُ إلى ذلك أن بعضها لم يُعْتَمَدْ فى إصداره ونشره على أصول خطية موثقة.

5- أنه توجد مخطوطات محفوظة فى المكتبات لم تُنْشَرْ بَعْدُ، ومخطوطات أخرى قد توزعت مجلداتها فى مكتبات شتى فصعب جمعها، ومخطوطات لم يُسْمَحْ بتصويرها، ومخطوطات نادرة تمتاز بقِدَمِها أو بصحتها على تلك التى قد طُبِعَتْ وَنُشِرَتْ.

كل هذا جعل أمتنا الإسلامية فى قرنها الخامس عشر الهجرى بشرائحها المختلفة وثقافاتها المتنوعة تَتُوقُ إلى عَمَلِ جَمْعٍ للسنة النبوية المشرفة يُعَزِّزُ حجيتها، ويَدْحَضُ تشكيكات مبغضيها، ويؤمنها من عبث العابثين، ولكنها فى سبيل الوصول إلى ذلك ينبغى عليها أن تستوعب جميع مُصَنَّفاتها الكثيرة المتنوعة، ثم تبرز متونها مُحَقَّقَةً تحقيقًا علميًّا دقيقًا بما يعنى إعادة إخراجها مطبوعة، ولكن على نحو أقرب ما يكون إلى ما تَرَكَهُ مُصَنِّفُوها؛ وذلك من خلال مقابلتها بأصولها الخطية القديمة، والتعليق عليها بما يوضح المفاهيم العقائدية، ويرسخ الدلائل الإيمانية، ويبين الأحكام الفقهية، ويتيح للأمة الإسلامية الإفادة منها فى ضروب حياتها وفى مواجهة تحدياتها.

وَمِنْ ثَمَّ نَشَأَتْ فكرةُ مشروعِ السُّنَّةِ المشرفةِ لدى القائمين على جمعيةِ المَكْنِزِ الإسلامىِّ للمشاركةِ فى مسيرةِ الحفاظِ عليها والعنايةِ بها استكمالًا للجهودِ المتميزةِ للسابقين، وتسديدًا للأعمالِ المتعثرةِ من الغابرين.

وقد بَنَتْ جمعيةُ المَكْنِزِ الإسلامىِّ خطةَ هذا المشروعِ التراثىِّ الإسلامىِّ العظيمِ الذى أَطْلَقَتْهُ على أساسِ جَمْعِ وتحقيقِ ما تَشْتَمِلُ عليه هذه الركائزُ الخمسُ:

  • الأولى: مصادرُ تحفةِ الأشرافِ لِلْمِزِّىِّ.
  • الثانية: مصادرُ إتحافِ المَهَرَةِ لِابْنِ حَجَرٍ العسقلانىِّ.
  • الثالثة: مصادرُ المطالبِ العاليةِ لِابْنِ حَجَرٍ أَيْضًا.
  • الرابعة: مصادرُ مَجْمَعِ الزوائدِ لِلْهَيْثَمِىِّ.
  • الخامسة: مُصَنَّفَاتُ الإمامِ الْبَيْهَقِىِّ.

فإذا اكتملتْ كتبُ هذه الركائزِ الخمسِ، انتقلتِ الجمعيةُ إلى سائرِ كتبِ السُّنَّةِ المُسْنَدَةِ؛ حيث يهدفُ مشروعُها المباركُ إلى جَمْعِ السُّنَّةِ النبويةِ المشرفةِ محققةً تحقيقًا علميًّا دقيقًا متميزًا فى موسوعةٍ واحدةٍ مُسَمَّاةٍ بهذا الاسمِ " جَمْع جوامع الأحاديث والأسانيد ومَكْنِز الصحاح والسنن والمسانيد ".

وقد أَصْدَرَتْ جمعيةُ المَكْنِزِ الإسلامىِّ فى إطارِ هذا المشروعِ الكبيرِ ثلاثةَ إصداراتٍ على النَّحْوِ التالى:

الإصدار الأول: الذى يتكونُ من ثَمَانِ عَشْرَةَ مجلدةً تتضمنُ الكتبَ الستةَ مضافًا إليها موطأُ الإمامِ مالكِ بْنِ أنسٍ - رحمه الله - ومصورة الطبعة السلطانية من صحيح البخارى - رحمه الله.

الإصدار الثانى: الذى يتكونُ من أَرْبَعَ عَشْرَةَ مجلدةً تَضُمُّ أولَ نشرةٍ علميةٍ كاملةٍ مُوَثَّقَةٍ لمسندِ الإمامِ أحمدَ بْنِ حنبلٍ - رحمه الله - فقد اعْتُمِدَ فى تحقيقِهِ على ثمانٍ وثلاثين نسخةً خطيةً، وكان من أَثَرِ ذلك استدراكُ مائةٍ وعشرين حديثًا فى موضعٍ واحدٍ خَلَتْ منها الطبعاتُ الأخرى.

الإصدار الثالث: الذى يتكونُ من أَرْبَعَ عَشْرَةَ مجلدةً تتضمنُ كتابَ السُّنَنِ للإمامِ الدارقطنىِّ مُحَقَّقًا على إحدى عَشْرَةَ نسخةً خطيةً فى ثلاثِ مجلداتٍ متضمنًا كلامًا على الرجالِ وأحكامًا على الأحاديثِ للإمامِ الدارقطنىِّ ليستْ فى جميعِ الطبعاتِ السابقةِ، وكتابَ سُنَنِ الدارمىِّ المُسَمَّى بالمسندِ والمعجمَ الصغيرَ للإمامِ الطبرانىِّ اللذين حُقِّقَ كُلٌّ منهما على تِسْعِ نسخٍ خطيةٍ فى مجلدتين لكلٍّ منهما، وكتابَ المسندِ للإمامِ عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الحميدىِّ مُحَقَّقًا على خَمْسِ نسخٍ خطيةٍ فى مجلدةٍ لطيفةٍ، كما تتضمنُ تحقيقًا جديدًا لكتابَيْنِ من كتبِ الإصدارِ الأولِ هما: موطأُ الإمامِ مالكٍ الذى حُقِّقَ على خَمْسَ عَشْرَةَ نسخةً خطيةً فى مجلدتين، وسننُ ابْنِ مَاجَه الذى حُقِّقَ على عَشْرِ نسخٍ خطيةٍ فى مجلدتين متضمنًا زياداتٍ لأبى الحسنِ القطانِ خَلَتْ منها جميعُ الطبعاتِ السابقةِ، بالإضافةِ إلى مجلدتَيْنِ لفهارسِ هذه الكتبِ المسماةِ " مَكْنِز المُسْتَرْشِدِينَ فى الدَّلالةِ إلى حديثِ سَيِّدِ المرسلين " المشتملةِ على المحتوى وتخريجِ الأحاديثِ.

ولم تَكْتَفِ جمعيةُ المَكْنِزِ الإسلامىِّ بالنشر الورقى لهذه الكتب، بل أضافت إليه النشر الإلكترونى أيضًا؛ فأنشأت قسمًا مختصًّا بهندسة الكمبيوتر والبرمجيات ليكون من وَظَائِفِهِ إعداد موسوعة إلكترونية متميزة تحتوى على جميع نصوص كتبها المطبوعة وعلى مجموعةٍ متنوعةٍ من الفهارسِ الخادمةِ للمتونِ والأسانيدِ أيضًا.

وعلى الرغم من كل هذه الجهود التى تبذلها الجمعية للحفاظ على السنة النبوية ونشرها فإنها لا تهدف من ورائها إلى تحقيق كسب مادى أو ربح مالى، وإنما ترجو أن يستعملها الله - تعالى - فى سبيل تحقيق وعده بحفظ الكتاب والسنة، فقد جاءت مجهوداتها أداءً لواجب الوقت وحملًا للواء الحفاظ على السنة المطهرة فى زمن غدت كتب التراث عرضة للتشويه، والتحريف، والتصحيف على أيدى ثلة ممن يلهثون وراء الشهرة والمال، فيسارعون إلى إعادة صف النسخ المطبوعة أو المخطوطة منها صَفًّا ممسوخًا مملوءًا بالأغلاط والأخلاط ظانين أنهم يحسنون صُنْعًا، غير مبالين بما يحملون على ظهورهم من أحمال وأثقال، ولا حول ولا قوة إلا بالله، له الحمد أولًا وآخرًا، ظاهرًا وباطنًا.

ومما يُحْمَدُ به المنهجُ العلمىُّ الذى انْتَهَجَتْهُ جمعيةُ المَكْنِزِ الإسلامىِّ فى إصداراتِها أنه لم يكن منغلقًا ولا جامدًا؛ فقد مر بأكثر من مرحلة تجديدية، ودار الزمان فيه دورته بالتحسين والتجويد والتطوير، وفى الوقت نفسه لم يخرج عن الأصول والقواعد العلمية المنهجية التى وضعها علماء الحديث وشيوخ التحقيق.

وسوف أتناول هذا الموضوع بالعرض والشرح من خلال المباحث التالية:

المبحث الأول: نُبْذَةٌ عَنْ عِلْمِ تحقيقِ النصوصِ:

وتأتى أهمية الحديث عن علم تحقيق النصوص من كونه الأصل والأساس الذى استندت إليه جمعية المكنز الإسلامى لبناء منهجها العلمى فى تحقيق كتب السنة المشرفة.

وسوف يتضمن هذا المبحثُ تعريفَ عِلْمِ تحقيقِ النصوصِ، والحديثَ عن نشأتِهِ وتطورِهِ، وبيانَ خطواتِ تحقيقِ المخطوطاتِ ومكملاتِ عمليةِ التحقيقِ.

المبحث الثانى: منهج جمعيةِ الْمَكْنِزِ الإسلامىِّ فى تحقيق كتب الموسوعة الحَدِيثِيَّة:

ويتضمن بيان خطوات المنهج العلمى المُتَّبَع فى تحقيق كتب الموسوعة الحديثية التى تصدرها جمعيةُ المَكْنِز تباعًا، وإلقاء الضوء على مزاياه المختلفة.

المبحث الثالث: منهج جمعيةِ الْمَكْنِزِ الإسلامىِّ فى نشر كتب الموسوعة الحَدِيثِيَّة:

ويتضمن بيان الجوانب الفنية لمنهج الجمعية الرائد فى نشر كتب موسوعتها الحديثية والقائم على الجمع بين النشر الورقى والإلكترونى، وإبراز عنايته بالطباعة والارتقاء بها إلى قمم جديدة من الجودة والجمال، بالإضافة إلى تطويعه التكنولوجيا الحديثة لعمل نشرة إلكترونية قيمة تمكن الباحث من الوقوف على جميع مادته فى كتب الموسوعة بدقة وسرعة.

واللهَ أسألُ أن ينفع بكل ما دُوِّنَ فى هذا البحث، وأن يجعله سبيلًا قويمًا لخدمة هذا التراث العظيم إلى يوم الدين، وأن يُعْظِمَ لنا به الأجر، ويَحُطَّ به عنا الوزر.

 

المبحث الأول

نُبْذَةٌ عن عِلْمِ تحقيقِ النصوصِ

إنَّ مِمَّا لَا بُدَّ منه فى مطلعِ هذا البحثِ وقبل الحديث عن منهج العمل فى تحقيق كتب موسوعة المَكْنِز الإسلامى الحَدِيثِيَّة أن أُقَدِّمَ للقارئِ الكريمِ نُبْذَةً عن علمِ تحقيقِ النصوصِ؛ ليكون على دراية بأصول هذا الفن، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لِأُبَرْهِنَ على أن هذا المنهج ليس بِدْعًا من المناهج؛ بل هو فرع عال منبثق عن أصل ثابت راسخ.

وسوف أتناول التعريف بهذا العلم وأصوله فى النقاط التالية:

أولًا: تعريف عِلْم تحقيق النصوص:

هو إخراج نص معيَّن فى شكلٍ أقرب ما يكون إلى الصورة التى تركها مؤلِّفه[5].

وعلى حد عبارة الأستاذ عبد السلام هارون: معناه أن يؤدَّى الكتاب أداءً صادقًا كما وضعه مؤلِّفه كَمًّا وكَيْفًا بقدر الإمكان[6].

ثانيًا: نشأة عِلْم تحقيق النصوص وتطوره:

لقد نَشَأَ هذا العِلْمُ فى رحاب عِلْم الحديث النبوى الشريف على يد علمائه؛ إذ إن توثيق الرواة والسند والمتن اشتهر به ابتداءً علماءُ الحديثِ. ومن المتعارف المشهور أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُدَوَّن بصورة منظَّمة حتى قُرْب نهاية القرن الأول الهجرى تقريبًا، وليس معنى هذا أنه لم يكن هناك كتابة للحديث قبل هذا التاريخ، بل إن كتابة الحديث كانت فى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمَّا التدوين المُنَظَّم من أجل جمع الحديث فقد وَقَعَ فى أواخر القرن الأول الهجرى؛ ففى هذه الأثناء حَدَثَتْ تغيرات جوهرية فى المجتمع الإسلامى أَدَّتْ لانقسام الناس شِيَعًا وأحزابًا دينية وسياسية، وقد انعكس أثر ذلك كله على الحديث وروايته؛ فظهر الوضع فى سنده ومتنه، وكان لَا بُدَّ من حركةٍ مضادةٍ لمقاومةِ ذلك ورَدِّهِ لتنقيةِ سُنَّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من الدخيل عليها؛ فجاءت فكرةُ الضوابط السلوكية لرواية الحديث فى هذا الوقت المبكر، فتشددوا فى الإسناد والتزموه كما تتبعوا رُواة الحديث بالتجريح والتعديل.

وواضحٌ أن كل ذلك ضرورةٌ أَمْلَتْها ظروف العصر والتحرُّز الدينى فى رواية السُّنّة، وقد قَرَّرَ ذلك الروادُ الأوائل من علماء الحديث؛ قال محمد بن سيرين (ت 110هـ): لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ. فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلاَ يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ[7].

فالدافع إذن دينى أوجدتْه الفتن والكذب فى الحديث، وجاءت مؤلفات الحديث فى تلك الفترة وما بعدها ملتزمةً بضوابط الرواية[8].

وقد رأينا أنه منذ العصور الأُولى وَضَعَ جمهور العلماء الجذور الأولى للتحقيق، ويُعَدُّ أولُ مَنْ جمع أصول هذا العلم وقَعَّدَ له علماء الحديث فى كتب مصطلح الحديث، ويُخص بالذِّكْر منهم أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزى المتوفى سنة (360هـ) فى كتابه المحدِّث الفاصل بين الراوى والواعى، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابورى المتوفى سنة (405هـ) فى كتابه معرفة علوم الحديث، والخطيب البغدادى المتوفى سنة (463هـ) فى كتابيه الكفاية فى علم الرواية والجامع لأخلاق الراوى وآداب السامع، ثم القاضى عياض بن موسى اليحصبى المتوفى سنة (554هـ) فى كتابه الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع وفى مقدمة كتابه مشارق الأنوار، ومِن بعدهم الإمام الحافظ تقى الدين ابن الصلاح الشهرزورى المتوفى سنة (643هـ) والذى جَمَعَ فأَوْعَى فى كتابه الشهير معرفة أنواع الحديث المشهور بمقدمة ابن الصلاح[9].

وقد انتقلت القواعد التى وضعها المحدِّثون لهذا العِلْم إلى مَن سواهم مِن علماء العربية فى الفنون الأخرى مِن جمع للمخطوطات، والمقابلة بينها فى الهامش، واتخاذ أقدم النسخ أصلًا كما يفعل محققو اليوم، مع وضع رموز مختلفة يُشارُ بها إلى تلك المخطوطات، والتثبت من نسبة النص إلى صاحبه، وإثبات للفروق على الحواشى، وعلاج للسقط والزيادة، وتصويب لما شاب النُّسخ من تصحيف وتحريف، وإصلاح للخطإ مع الحرص على احترام النص وعدم الجرأة عليه بدون عِلْم[10].

وقد درج الأمرُ على ذلك حتى ظهور الطباعة؛ فقد كان المسلمون يَكْتبون كتبهم بأيديهم، وكل من أراد الحصول على كتاب ليقتنيَه أو ليقرأه على الشيوخ بَحَثَ عن أصل صحيح مضبوط لهذا الكتاب، وكثيرًا ما تكون الأصول موقوفة فى المدارس أو المساجد، فيَجْلِسُ مَن أراد الكِتَابَ فى المدرسة أو المسجد وينسخه أو يستأجر مَن ينسخه له بالأجرة، كما كانت هناك مهنة الوراقة التى كانت تقوم مقام دُور النشر فى زماننا، وكان الوراقون ينسخون الكتب المهمة ويبيعونها؛ فينسخون من الكتاب الواحد عدة نسخ عند الحاجة، من أجْل ذلك تعددت نسخ بعض الكتب المشهورة حتى جاوزت المائة أحيانًا[11] ، وإذا فَرَغَ الناسخ مِن نَسْخِ نُسْخته قَابَلَ الكتاب وصححه[12].

وبَعْدَ نشأة حركة الاستشراق فى القرن السابع الهجرى الثالث عشر الميلادى وبلوغ أَوْجِهَا فى العالم الإسلامى فى القرن العاشر الهجرى الخامس عشر الميلادى مع ظهور الطباعة أَخَذَ المستشرقون فى نقل التراث الإسلامى إلى الغرب وتحقيقه وإخراجه، وكان عملهم لا يتعدى حدود الطبع البدائى الذى يُعْتمد فيه غالبًا على نسخة واحدة، وقد تكون غير مصححة ولا معتنى بها فنيًّا، ثم تطور العمل بالتحقيق بعد ذلك، وأصبحوا يهتمون بجمع ما تيسر مِن نُسَخِ المخطوط الواحد ومقابلة النُّسَخ وتدوين الاختلافات فى الهوامش، وأصبح التحقيق صناعة تعتمد على الخبرة المستفادة من التجارب المتكررة حتى حلول القرن الثالث عشر الهجرى التاسع عشر الميلادى[13].

ولمَّا ظهرت الطباعة فى البلاد الإسلامية فى القرن الثالث عشر الهجرى التاسع عشر الميلادى بدأ أبناء الثقافة العربية والإسلامية يَنْشُرون تراثهم الثقافى نشرًا بدائيًّا كما بدأ عند الغربيين، وكانوا يَعْتمدون فيه غالبًا على نسخة واحدة للمخطوط، ويكتفون بتصحيحها[14].

وتبدو جهود مطبعة بولاق التى أُنْشِئَتْ سنة (1821م) واضحة جلية فى ذلك الشأن بطبعها أمهات كتب التراث العربى؛ مثل صحيح البخارى، وخزانة الأدب، والأغانى، ولسان العرب، وصحاح الجوهرى، والقاموس المحيط، وكتاب سيبويه، وغيرها، ويَحْفظ لنا التاريخ أسماء شيوخ عظام كانوا يقومون فى أمانة بإخراج تلك الكتب؛ منهم الشيخ نصر الهورينى، والشيخ قطة العدوى، والشيخ محمد عبد الرسول، وغيرهم[15].

ثم كان دَوْرُ دار الكتب المصرية التى يرجع إليها الفضل الأخير فى القدوة المثالية للمحققين المعاصرين، ولعل أول نافخ فى بوق إحياء التراث العربى على النهج الحديث هو المغفور له أحمد زكى باشا الذى قام بتحقيق كتابَى أنساب الخيل والأصنام كلاهما لابن الكلبى، وقد طُبعا فى المطبعة الأميرية سنة (1914م) باسم لجنة إحياء الآداب العربية التى عُرفت فيما بعد باسم القسم الأدبى، ولعل هذين الكتابين مع كتاب التاج للجاحظ الذى حققه أيضًا من أوائل الكتب التى كُتِبَ فى صدرها كلمة (بتحقيق)، كما أن تلك الكتب قد حظيت بإخراجها على أحدث المناهج العلمية للتحقيق مع استعمال المكملات الحديثة من تقديم النص للقُرَّاء ومن إلحاق الفهارس التحليلية، يُضافُ إلى ذلك أن أحمد زكى باشا أول مَن أشاع إدخال علامات الترقيم الحديثة فى المطبوعات العربية، وأَلَّفَ فى ذلك كتابًا سماه (الترقيم فى اللغة العربية) طُبع فى بولاق فى زمن مبكر جدًّا هو سنة (1913م)[16].

وقد كان لبعض الهيئات والمؤسسات دور فى نشر الكتب؛ ومن أبرز هذه الهيئات المكتبة الميمنية التى أنشأها السيد أحمد البابى الحلبى سنة (1858م) بمصر، والتى تفرعت بعد ذلك إلى مطبعتين كبيرتين: الأولى مطبعة مصطفى البابى الحلبى، والثانية مطبعة عيسى البابى الحلبى التى تسمت باسم دار إحياء الكتب العربية.

ومن هذه الهيئات أيضًا جمعية المعارف التى كَوَّنَها محمد عارف باشا، والمطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين فى بيروت، ولجنة نشر كتاب المخصص لابن سيده، ومكتبة الخانجى، والمكتبة السلفية، ولجنة التأليف والترجمة والنشر، ودار المعارف، هذا إلى جانب جهود جامعة القاهرة، والمجمع اللغوى بالقاهرة، والمجمع العلمى العربى بدمشق، والمجمع العلمى بالعراق، وغيرها من المؤسسات والهيئات[17].

وبفضل مجهودات هذه الهيئات والمؤسسات، ومَنْ أسهم فيها مِنْ محققين أكابر[18] أصبح عِلْمُ التحقيق عِلْمًا منهجيًّا له قواعده وأصوله وضوابطه يَلْزَمُ المشتغلَ به والمتصدىَ له لزومُهَا والسيرُ بمقتضاها حتى يُخْرِجَ نَصًّا مُحْكَمًا يغلب على الظن أنه أقرب صورة لما كتبه مؤلِّفُه، وفيما يلى رصد لهذه القواعد والأصول.

ثالثًا: خطوات تحقيق المخطوطات:

الخطوة الأولى: اختيار الكتاب:

يجب على المُحَقِّقِ الحصيفِ أن يُحْسِنَ اختيارَ الكتابِ الذى سيحققه؛ فَيُقَدِّم الأصلَ على الفرع، والأهمَّ على المهم، وما نفعه عام على ما نفعه خاص، وهذه الخطوة يغفلها كثيرٌ ممن يتكلم عن خطوات التحقيق على الرغم من أنها من أهم الخطوات؛ إذ هى الأساس الذى يَنْبَنِى عليه العملُ كُلُّهُ، فلو لم يُحْسِن المُحَقِّقُ اختيارَ الكتابِ ثم التزم كُلَّ خطواتِ التحقيقِ التاليةِ يكون قد أضاع عُمُرَهُ هَدَرًا؛ كالذى يبنى قصورًا على الرمال، أو يكون قد اشتغل بالمفضول عن الفاضل.

ويعتمد الاختيارُ الأمثلُ على ثقافةِ المُحَقِّقِ، وإلمامِهِ بالمكتبة التراثية، ثم استشارة أهل العلم بهذا الفن.

الخطوة الثانية: التحقق من عدم طبع الكتاب أو من وجود ما يستدعى إعادة طبعه:

يجب على المحقق قبل الشروع فى تحقيق كتاب ما أن يتأكد أنه لم يُطبع من قبل، أو أن هناك ما يستدعى إعادة طبعه إن كان قد طُبِع.

والأسبابُ الداعيةُ لإعادة طَبْع كتاب سَبَقَ طبعه هى:

  1. إذا كانت الطبعة السابقة لم تحقَّق وفق الأصول العلمية للتحقيق.
  2. إذا ظهر للكتاب نُسَخ خطية جيدة تستدرك نقصًا، أو تصحح خطأً أو تصحيفًا أو تحريفًا.
  3. إذا ظهر للكتاب نُسَخ تمثل رواية أخرى له.
  4. إذا طال أمد نفاد النسخ المطبوعة من الكتاب وأُهْمِلَ أمرُ إعادةِ طَبْعِها.

ومن المصادر التى يُسْتَعانُ بها للتحقق من ذلك[19]:

  1. كتاب اكتفاء القَنُوع بما هو مطبوع، لإداورد فاندَيْك.
  2. كتاب معجم المطبوعات العربية والمعربة، ليوسف إليان سركيس.
  3. كتاب جامع التصانيف الحديثة، ليوسف إليان سركيس.
  4. معجم المخطوطات المطبوعة، للدكتور صلاح الدين المنجِّد.
  5. ذخائر التراث العربى الإسلامى، لعبد الجبار عبد الرحمن.
  6. المعجم الشامل للتراث العربى المطبوع، للدكتور محمد عيسى صالحية، والمستدركات عليه.
  7. سؤال أهل العلم والاختصاص من المشتغلين بالتراث تحقيقًا ودراسة.
  8. البحث فى الشبكة العنكبوتية.

الخطوة الثالثة: جَمْعُ النُّسَخ الخطية للكتاب:

عند ما نريد تحقيق مخطوط قديم علينا أول الأمر أن نسعى إلى معرفة نُسخه العديدة التى توجد مبعثرة فى مكتبات العالم ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا[20]، وعلى الباحث أن يقارب البحث مقاربة مجتهدة بحيث يغلب على ظنه أنه قد حصل على قدر صالح مما يريد، فمهما أجهد المحقق نفسه للحصول على أكبر مجموعة من المخطوطات فإنه سيجد وراءه مُعَقِّبًا يستطيع أن يُظهر نُسخًا أخرى من كتابه[21].

وتتم هذه الخطوة بالرجوع لنوعين من فهارس المخطوطات كما يلى:

النوع الأول: الفهارس العامة؛ وهى:

(1) كتاب تاريخ الأدب العربى، لكارل بروكلمان، وليس هذا الكتاب فى تاريخ الأدب العربى بالمعنى المعروف، وإنما هو تسجيل لكل ما وصل إلى عِلم صاحبه مما أُلِّف باللغة العربية فى جميع فروعها ما دامت هذه المؤلفات موجودة مخطوطة كانت أو مطبوعة[22].

(2) كتاب تاريخ التراث العربى، لفؤاد سزكين، وهو يغطى الفترة الممتدة من العصر الجاهلى حتى حوالى سنة (400هـ)[23].

(3) الفهرس الشامل للتراث العربى الإسلامى المخطوط الذى يصدر عن مؤسسة آل البيت فى عَمَّان[24].

(4) معجم تاريخ التراث الإسلامى فى مكتبات العالم، إعداد على الرضا قره بلوط وأحمد طوران قره بلوط، وهو من أشمل الكتب فى هذا الباب وأكثرها نفعًا، وقد رُتِّبَ هجائيًّا على أسماء العلماء مع ذِكْرِ كُتُبِهِمْ مرتبةً هجائيًّا أَيْضًا.

النوع الثانى: الفهارس الخاصة:

وهى فهارس المخطوطات الخاصة بكل مكتبة من المكتبات فى العالم[25]، وهى كثيرة جِدًّا؛ مثل فهرس دار الكتب بالقاهرة، والخزانة العامة بالرباط، والقرويين بفاس، والظاهرية بدمشق، والمتحف البريطانى بلندن، والمكتبة الوطنية بباريس وبرلين[26]، والمكتبة السليمانية بتركيا.

ويجدر بالمحقق أن يَسْأل أهل العلم والاختصاص من المشتغلين بالتراث عما يعرفونه من نُسَخ الكتاب المراد تحقيقه.

ويَحْسُن بالمحقق أيضًا أن يَدْرس النُّسَخ المخطوطة للكتاب قبل جمعها أولًا عن طريق وصف الفهارس لها؛ فقد يرى مَثَلًا من هذا الوصف أن بعض مخطوطات الكتاب قد نقل عن بعضها الآخر[27].

أما النُّسخ التى توجد فى مكتبات غير مفهرسة فَتُصَوَّر ثم تُدْرَس[28].

الخطوة الرابعة: ترتيب النُّسَخ الخطية للكتاب:

تُرَتَّب النسخ المخطوطة للكتاب الواحد من حيث علو الدرجة على النحو التالى[29]:

أولًا: النسخة التى بخط المؤلِّف[30]: فهى أعلى النُّسخ على الإطلاق[31]، ويجب التأكد مِن أن النسخة التى بين أيدينا هى آخر صورة كَتب المؤلِّف بها كتابه[32]؛ فإنَّ وجود نسخة المؤلِّف لا يدلنا دلالة قطعية على أن هذه هى عينها النسخة التى اعتمدها المؤلِّف؛ فإننا نَعْرف أن بعض المؤلَّفين يؤلف كتابه أكثر من مرة بما يُعرف بتعدد الإبرازات للكتاب الواحد[33]، وكذلك فإن بعض المؤلفين يؤلف الكتاب الواحد على ضروب شتى من التأليف؛ كموجز، ووسيط، ومبسوط.

وكذلك يجب التنبه إلى أن بعض المتأخرين قد يختصر إحدى نُسخ الكتاب[34]؛ فعلى المحقق أن يدرس النُّسَخ جيدًا، ولا يتعجل بالحكم عليها قبل دراستها والوقوف على حقيقتها وتاريخها وكيفية وصولها إلينا[35].

ثانيًا: النسخة المقروءة على المؤلِّف.

ثالثًا: النسخة المنقولة عن نسخة المؤلِّف أو المقابلة بنسخته.

رابعًا: النسخة التى كُتبت فى حياة المؤلِّف.

خامسًا: النسخة الأقدم خَطًّا: وتُفَضَّل النسخة التى كتبها عالِم، أو مَلَكها، أو راجعها، أو تداولتها أيدى علماء. وقِدَمُ النسخةِ يُعرف من التاريخ المدوَّن على آخرها، وكذلك شكل ورقها، وخصائص خطها[36]، وما عليها من إجازات وتمليكات وقراءات[37].

ويجدر بالمحقق أن يقف طويلًا عند تاريخ النَّسْخ؛ فكثير من الناسخين ينقل عبارة التاريخ التى تثبت فى العادة فى نهاية الأصل الذى ينسخ منه، حيث ينقلها كما هى غير مُراعٍ للفرق الزمنى بينه وبين الناسخ الأول؛ فيخيل للفاحص أنه إزاء نسخة عتيقة على حين يكون هو إزاء نسخة كُتِبَتْ بعدها بكثير، وهنا يتحكم الخط والخبرة به، والمداد والخبرة به، واسم الناسخ الأول والثانى فى تحقيق هذا التاريخ[38].

وتقديم النسخة الأقدم على غيرها مبدأ عام صحيح من حيث الجملة، لكن لا يلزم أن يكون صحيحًا دائمًا؛ فقد تكون النسخة القديمة أفسدتْها يد كاتب قليل العِلم عديم الخبرة؛ ففشا فيها التصحيف والتحريف مِن جرَّاء إصلاحه ما استغلق عليه وقت النَّسخ بعلمه القليل، فإذا وُجِدَ مع نسخة هذه حالها نسخة أخرى أحدث منها صحيحة الكتابة خالية من الأخطاء فإنها أولى بالتقديم[39]، وقد تكون هناك نسخة قديمة أو بخط عالم من العلماء غير أنها مخرومة؛ أى تنقص عِدَّة أوراق مِن أوَّلها أو وسطها أو آخرها، فيفضلها عندئذٍ نسخة كاملة للكتاب تحتفظ بنصه كاملًا بلا نقصان[40].

سادسًا: الأصول القديمة المنقولة فى أثناء أصول أخرى: فقد جرى بعض المؤلفين على أن يُضَمِّنُوا كُتُبَهم كُتُبًا أخرى أو قَدْرًا عظيمًا منها[41].

سابعًا: النُّسخ المطبوعة التى فُقدت أصولها أو تعذر الوصول إليها: حيث يمكن أن تُعَدَّ أصولًا ثانوية فى التحقيق إذا تحقق الاطمئنان إلى ناشر المطبوعة والثقة به، أما الطبعات التى تخرج للتجارة، ولا يقوم عليها محقق أمين فهى نُسخ مُهْدرة بلا ريب، ومن الإخلال بأمانة العِلْم والأداء أن يعتمد عليها فى التحقيق[42].

هناك بعض الكتب أُوتى حَظًّا كبيرًا من الانتشار؛ فكثرت نُسَخُه، فعند كثرة النُّسخ نلاحظ أحيانًا أن ثلاث نُسخ أو أكثر أو أقل تتشابه تشابهًا كبيرًا فى أخطائها أو هوامشها أو نقصها أو زيادتها، وتكون نُقلت عن أصل واحد، فى مِثل هذه الحالة تُجعل النُّسخ المتشابهة فئات، ويُرْمَز إلى كل فئة بحرف... ويُتَّخَذ مِن كل فئة نسخة واحدة تُمثلها عند إثبات اختلافات النَّسخ[43].

الخطوة الخامسة: تحقيق عنوان الكتاب:

ترجع أهمية تحقيق عنوان الكتاب؛ لأمرين:

الأول: أن بعض المخطوطات يكون خاليًا من العنوان؛ إما لفقد الورقة الأولى منها، أو لانطماس العنوان.

الثانى: أنه أحيانًا يكون العنوان الثابت على المخطوطة يخالف الواقع؛ إما بداع من دواعى التزييف، وإما لجهل قارئٍ ما وقعت إليه نسخة مجردة من عنوانها فأثبت ما ظنه عنوانها[44].

ولتحقيق عنوان الكتاب وسائل كثيرة كما يلى:

(1) أن نجد للكتاب نسخةً بخطِّ المؤلِّف، وعلى واجهةِ الكتابِ وَطُرَّتِهِ عنوانُهُ بِخَطِّ يَدِهِ أَيْضًا.

(2) أن يُسَمِّى المؤلِّف كتابه فى مقدمة الكتاب تسميةً صريحةً.

(3) أن يُسَمَّى الكتابُ صراحةً فى أثناء متنه بعد مقدمته.

(4) أن يُسَمَّى الكتابُ فى طُرَّةِ نسخةٍ خطيةٍ معتمدة؛ كالنسخة التى قُرِئَتْ على المصنِّف، أو القريبة زمنًا منه، أو المُقَابَلَة من ناسخٍ عالمٍ، أو المتداولة بين العلماء قراءةً وتصحيحًا، ونحو ذلك من دلائل الصحة وأسباب الاعتماد.

(5) أن يُسَمِّى المؤلِّف كتابَهُ فى مُصَنَّفٍ آخَرَ له.

(6) أن يُسَمَّى الكتابُ فى خاتمته؛ كأن يُقَالَ فى آخره: تَمَّ كتابُ كذا، أو يُسَمَّى فى سماعاته.

(7) البحث فى المؤلَّفات التى اعتنت بجمع أسماء الكتب ومؤلِّفيها؛ مثل الفهرست للنديم (ت380هـ)، وكشف الظنون عن أسامى الكتب والفنون لحاجى خليفة (ت1067هـ)، وإيضاح المكنون فى الذيل على كشف الظنون وهدية العارفين لأسماء المؤلفين وآثار المصنفين كلاهما لإسماعيل باشا البغدادى (ت 1339هـ).

(8) البحث فى كتب الفهارس والبرامج والأثبات والمشيخات؛ لأنها كتبٌ تُعْنَى بِذِكْرِ أسماءِ المؤلَّفاتِ فى سياقِ عَرْضِهَا لمرويَّاتِ صاحبِ الفهرستِ أو الثَّبَت.

(9) استيعابُ النظرِ فى ترجمةِ مؤلِّفِ الكتابِ الذى نحن بِصَدَدِ تحقيقِهِ عند جميعِ مَنْ تَرْجَمَ له من أصحاب كتب التراجم؛ حيث إن كثيرًا منهم يَعْتَنُونَ بِذِكْرِ أسماءِ مؤلَّفاتِ المُتَرْجَمِينَ.

(10) التذوُّقُ الدقيقُ لأسلوب المؤلِّف الكتابى، والمعرفةُ بالخصائص الأدبية فى عصر المؤلِّف، ومطابقةُ ذلك على مضمون الكتاب وموضوعه[45].

الخطوة السادسة: تحقيق اسم المؤلِّف ونسبة الكتاب إليه:

إن كل خطوة يخطوها المحقِّق لا بد أن تكون مصحوبة بالحذر، فليس يكفى أن نجد عنوان الكتاب واسم مؤلِّفه فى ظاهر النسخة أو النُّسَخ لنحكم بأن المخطوطة من مؤلَّفاته؛ فمما يواجه المحقِّق فى هذا الصَّدَد أن النسخة قد تخلو من النص على اسم المؤلِّف، وأحيانًا تتفق عناوين الكتب مع اختلاف المصنِّف، وأحيانًا يعترى أسماء المؤلِّفين المثبتة فى الكتب التصحيف والتحريف، ولا بد للمحقق لمعالجة هذه الأمور من الرجوع إلى كتب الفهارس والتراجم والطبقات كما سبق فى تحقيق عنوان الكتاب، وقراءة نص الكتاب؛ فقد يَعْثُر فيه على اسم المؤلِّف المجهول، أو ما يُشير إلى عصره أو شيوخه أو إلى شىء آخر ينطلق منه إلى مزيد من الدراسة والبحث.

وفى حالة اشتراك كثير من المؤلفين فى عنوانات الكتب فلا بد من دراسة مادة الكتاب للتعرف على مدى تطابقها مع ما يعرفه المحقق عن مؤلف الكتاب وحياته العلمية وأسلوبه وعصره، وتعد الاعتبارات التاريخية من أقوى المقاييس فى تصحيح نسبة الكتاب أو تزييفها؛ فالكتاب الذى تحشد فيه أخبار تاريخية تالية لعصر مؤلِّفه الذى نُسِب إليه جدير بأن يَسقط من حساب ذلك المؤلِّف[46].

الخطوة السابعة: تحقيق متن الكتاب:

وهذه الخطوة تتم على مرحلتين:

المرحلة الأولى: النَّسْخ والمقابلة[47]:

أولًا: طريقة النَّسْخِ:

يَعْتَمِد المحقِّق على النسخة الأم؛ وهى التى كتبها المؤلِّف بقلمه أو التى احتوت على أكبر عدد من الأوصاف المذكورة فى خطوة ترتيب النسخ، ويحافظ المحقق على نصها كما هو دون إخلال به، ويكتبها بخط واضح، ويترك ثلث الورقة للحواشى، ويترك فراغًا بين الأسطر لوضع أرقام الإحالات، ويرسم الكلمات التى تُشْكِل عليه بقلم الرصاص إن كان يستخدم قلمَ حِبرٍ فى النَّسْخ، ويترك فراغًا للكلمات والأسطر المطموسة مع مراعاة كتابة الكلمات حسب الطريقة الحديثة فى الإملاء.

وإذا انتهى المحقق من نَسْخ الأصل أعاد مقابلة ما نَسَخَ مع الأصل؛ لاحتمال وقوع سقط فيما نَسَخَ، وهذه المقابلة على أهميتها يغفلها كثير من المحققين ثقةً منهم بصحة نَسْخهم، لكن التجارب تفيد خطورة ذلك.

ثانيًا: طريقة مقابلة النُّسَخ:

طريقة المقابلة أن يُختار أجود النُّسَخ أولًا فتقابَل مع النسخة الأصل التى اعتُمدت فى النَّسْخ، وتُثْبت الاختلافات فى الحواشى، وعادة يُرمز لكل نسخة برمز يرتبط باسم المكتبة التى جُلِبت منها، وتوضَّح الرموز فى مقدمة التحقيق، ثم يُنتقل إلى مقابلة نسخة أخرى وتُثْبت الاختلافات فى الحواشى أيضًا، وعند المقابلة سيتمكن المحقق من ضبط الألفاظ والأعلام التى أشكلت عليه عند النَّسْخ؛ فيعيد كتابتها بقلم الحبر، ويشير فى الحاشية إلى أنه ضبطها من النسخة الفلانية، إذا كان ما أشكل عليه بسبب اختلال فى الأصل وليس بسبب قصوره فى قراءتها، وكذلك ستُمكِّنُه المقابلة من ملْء الفراغات التى تركها عند النَّسْخ بسبب انطماس بعض الكلمات أو الأسطر بفعل الرطوبة أو سقوط حبر عليها وغير ذلك من العوامل، وينبغى فى هذه الحالة أن يعيِّن النسخة التى ملأ منها الفراغات.

وكذلك فإن المقابلة قد تكشف له وقوع اختلال فى النسخة الأصل، أو اضطراب فى ترتيبها، وهذا معظمه يرجع إلى جهل النساخ، أو سرعتهم فى الكتابة، أو رداءة خطهم. ويجب عند المقابلة إثبات الفروق الموجودة فى داخل النسخة الواحدة إن وُجدت؛ لأنها تمثِّل نُسَخًا أخرى قوبلت بها النسخة.

وعند ما لا تتوافر للمحقِّق إلا نسخة واحدة بعد استنفاد الطاقة فى التفتيش عن نُسَخ الكتاب، فإنه يعتمدها فى النَّسْخ، ويتعين عليه حينئذٍ أن يقابلها مع النصوص المقتبسة عنها فى المؤلَّفات اللاحقة أو التى اقتبس منها صاحب الكتاب من المؤلَّفات السابقة، وما عملية تجميع النصوص المقتبسة عن المخطوطة إلا محاولة لإيجاد نسخة ثانية بهدف المقابلة، ولا شك أن ذلك يكلف الباحث جهدًا كبيرًا كان بإمكانه أن يوفِّر معظمَه لو وَجَدَ نسخة ثانية. وما يحدث عند مقابلة النُّسَخِ المتعددة ينطبق أيضًا على مقابلة النسخة الواحدة الفريدة بالنصوص من الكتب الأُخرى.

وينبغى للمحقِّق فى أثناء نَسْخه أن يكون متمرِّسًا بقراءة الخطوط القديمة عامة وخط المخطوطة التى ينسخها خاصة؛ فإن القراءة الخاطئة لا تنتج إلا خطأ، فلكل كاتب من الكُتاب طريقة خاصة تستدعى خبرة خاصة، وبعض الكِتابات يحتاج إلى مراس طويل وخبرة خاصة، ولا سيما تلك المخطوطات التى لا يطرد فيها النقط والإعجام، وكذلك تلك المخطوطات التى كتبت بقلم أندلسى أو مغربى؛ فلهذا الخط صوره الخاصة ونَقْطه الخاص.

ويجب كذلك على المحقق أن يكون على دراية بمصطلحات الكتابات القديمة من علامات إهمال الحروف، والإعجام، وطرق رسم الحركات على الحروف التى تختلف فى الكتابة المغربية عنها فى الكتابة المشرقية، وكذلك بعض الإشارات الكتابية؛ كعلامة الإلحاق، والتضبيب، والضرب، والتصحيح، والتقديم والتأخير، هذا بالإضافة إلى إلمامه بالرموز والاختصارات لبعض الكلمات والعبارات الموجودة فى المخطوطات القديمة، ولا سيما فى كتب الحديث، ومما يفيده فى معرفة ذلك كتب علم مصطلح الحديث؛ فقد تعرضت لطريقة كتابة الحديث[48].

المرحلة الثانية: معالجة الفروق بين النُّسَخ:

بعد الانتهاء من المقابلة بين النُّسَخ وإثبات الفروق تأتى مرحلة معالجة هذه الفروق وما يُثْبَتُ منها فى متن الكتاب وما ينبه عليه فى الهوامش، وتتم هذه المرحلة بإحدى طريقتين:

الطريقة الأولى: وتتمثل فى أن يختار المحقِّق مِن نُسخ الكتاب الواحد أو الإبرازة الواحدة أو الرواية الواحدة أهمَّ النُّسَخ وأصحها؛ لقدمها، أو لِمَا تحمله من إجازات أو تملكات أو تصحيحات العلماء، أو لغير ذلك من الاعتبارات، وبالطبع فإن نسخة المؤلف إذا وُجِدت فهى أعلى النُّسَخ وأهمها، ثم يَجعل هذه النسخة أصلًا يُثبته فى متن الكتاب، وهذا يقتضى أن تُنسخ هذه النسخة نَسْخًا محكمًا مراجعًا بحيث يكون طبق الأصل دون أى تغيير أو تبديل، بل يُبقَى على ما وقع فيها من تصحيف، أو تحريف، أو خطإ، ويذكر الصواب فى الهامش مع التعليل أو بدونه.

الطريقة الثانية: وتسمى طريقة " النص المختار ": وهى أن تُعْتَبَرَ كُلُّ نُسَخِ الكتابِ أصولًا يكمل بعضها بعضًا؛ فيُثبت فى متن الكتاب ما أجمعت عليه النُّسَخ عند الاتفاق، وإذا اختلفت تُخُيِّرَ منها للمتن ما كان أنسب للسياق، وأصح فى الاستعمال، وما يُظَنُّ أنه يُفْصِحُ عن رأى المؤلف ويؤدِّى عبارته دون التقيد بنسخة معينة، ويُثْبَتُ ما خالف ذلك مما له أهمية فى الحاشية، وما تُخُيِّرَ من النُّسَخ المختلفة للمتن لا يُجْعَلُ بين حاصرتين () أو معقوفين [ ]، وإنما يُوضَعُ عنده رقم فى الحاشية يبيِّن مصدره، ولا يوضع بين الحاصرتين أو المعقوفين إلا ما كان زيادة خارجة عن النُّسَخ؛ أى من عند المحقق، أو من مرجع آخر غير النُّسَخ.

وهذه الطريقة الثانية هى التى عليها العمل عند أكثر المشتغلين بالتحقيق، وارتضتها جمعية المكنز فى سائر أعمالها؛ لصعوبة توفر نُسَخ جيدة تتوفر فيها الشروط اللازمة لإخراج الكتاب وفق الطريقة الأولى[49].

وطريقة النص المختار هذه تَعْظُمُ معها مسئولية المحقق؛ لأنه يكون حَكَمًا على النُّسَخ عند اختلافها، يقرر أى النصوص أقرب إلى ما وضعه المؤلِّف، وهو ما يتطلب مهارةً، وَحِسًّا عِلْمِيًّا مُدَرَّبًا، وَتَمَرُّسًا فى فن الكتاب وعباراته وأسلوبه[50].

وهناك مجموعة من الأمور يجب على المحقِّق العناية بها عند معالجته للفروق بين النُّسَخ:

*أولًا: تصحيح الخطإ: ينبغى على المحقِّق مراعاة التفرقة بين أخطاء النُّسّاخ وأخطاء المصنِّفين والرواة، وهو معترك صعب تزلّ فيه الأقدام، وتحتار فيه الأفهام، ويحتاج خائضه لخبرة كبيرة واطِّلاع واسع وبحث دءوب؛ فإصلاح خطإ النُّسّاخ جائز لا سيما فيما شاع فيه التصحيف والتحريف، وأما أخطاء المصنِّفين والرواة فغير جائز تصحيحها، وهى تسمى بالأخطاء القديمة؛ فيجب على المحقِّق أن يحذر تصحيح الخطإ القديم لدى المؤلِّف، فإذا جاء فى إحدى النُّسَخ أو بعضها خطأ واضح وَجَبَ على المحقِّق عدم التسرع فى تصحيحه؛ لأن هذا الخطأ قد يكون قد اشتهر عن المؤلِّف وسُجِّلَ عليه[51]، أو يكون هذا الخطأ لَحْنًا صارت إليه لغة التأليف عند المؤلِّف أو فى عصره، فيكون شاهدًا على التغير اللغوى وشيوع ظاهرة معينة فى ذلك العصر عامة أو عند مؤلِّف الكتاب خاصة، ويشهد لذلك ما ورد فى كتب لحن الخواص والعوام.

ولقد قام المحدِّثون بجهد كبير فى التنبيه على هذه النوعية من الأخطاء والأوهام الواقعة فى أسماء الرواة، وخير شاهد على ذلك تنبيهات الحافظ المزِّى فى كتابه " تهذيب الكمال " على أوهام الرواة الواقعة فى أسانيد الكتب الستة، وقد ذمَّ القاضى عياض فى مقدمة كتابه مشارق الأنوار ص (4) مَن تجاسر على تصحيح هذه الأخطاء القديمة[52]. فليس معنى تحقيق الكتاب أن نلتمس للأسلوب النازل أسلوبًا هو أعلى منه، أو نُحِلَّ كلمة صحيحة محل أخرى صحيحة بدعوى أن أولاهما أولى بمكانها أو أجمل أو أوفق، أو يَنْسُب صاحب الكتاب نَصًّا من النصوص إلى قائل، وهو مخطئ فى هذه النسبة، فيبدِّل المحقق ذلك الخطأ ويُحِلُّ محله الصواب، أو أن يخطئ فى عبارة خطأً نحويًّا دقيقًا فيصحح خطأه فى ذلك، أو أن يوجز عباراته إيجازًا مخلًّا فيبسط المحقق عبارته بما يدفع الإخلال، أو أن يخطئ المؤلِّف فى ذِكْر علم من الأعلام فيأتى به المحقق على صوابه، وإنما معنى التحقيق أن يؤدَّى الكتاب أداءً صادقًا كما وضعه مؤلِّفه كَمًّا وكَيْفًا بقدر الإمكان[53].

أما إذا أجمعت النُّسَخ على خطإ فى الشواهد القرآنية، فهذا وإن كان الخلاف فيه قديمًا من حيث تصويب الخطإ أو تركه فإن الرأى أن يُرَدَّ الخطأ إلى الصواب؛ لأن القرآن أجلّ مِن أن نجامِل فيه مخطئًا، هذا بَعْدَ التأكد مِن أنّ لفظ الآية ليس قراءة من القراءات، فلا بد من الرجوع لكتب القراءات السبع، ثم العشر، ثم الأربع عشرة، ثم كتب القراءات الشاذة وكتب التفسير التى تُعْنَى بالقراءات[54].

ومما يجدر ذِكْرُهُ فى نطاق تحقيق النص القرآنى أن بعض المؤلفين قد يستشهد بالنص تاركًا الواو، أو الفاء، أو إنّ، أو قُلْ، أو ما أشبه ذلك من الحروف والكلم؛ نحو ]وقل جاء الحق [ فيقتصر على ]قل جاء الحق[ أو على ]جاء الحق[، فليس من منهج التحقيق أن يكمل المحقق الآية بِذِكْر الحرف أو الكلمة التى تركها المؤلِّف؛ فقد جرى على استعمال ذلك الحذفِ الشافعىُّ فى الرسالة، والجاحظُ فى الحيوان، وغيرهما[55].

وأما نصوص الحديث فإنها يجب أن تختبر بعرضها على مراجع الحديث لقراءة نصها وتخريجها إن أمكن التخريج، وتعددُ روايات الحديث يدفعنا إلى أن نحمِّل المؤلِّف أمانة روايته، فنبقيها كما كتبها المؤلِّف إذا وصلنا إلى يقين بأنه كتبها كذلك.

وهذا أيضًا هو واجب المحقق إزاء كل نص من النصوص المضمَّنة من الأمثال والأشعار ونحوها، يجب أن يتجه إلى مراجعها ليستعين بها فى قراءة النص وتخريجه إن أمكن التخريج، ومع ذلك يجب أن نحترم رواية المؤلِّف إذا أيقنا أن ما فى النسخة هو ما قصده المؤلِّف وأراده، ولا سيما إذا كان يبنى على تلك الرواية حُكْمًا خاصًّا، فهذا قَيْدٌ شديدٌ يحرِّم على المحقق أن يتناول النص بتغيير أو تبديل[56].

*ثانيًا: الزيادة والنقص: من البديهى أن يَعْمِدَ المحقق إلى إثبات أكمل النصوص وأوفاها، وألا يُغْفِل من ذلك إلا ما يتضح أنه زيادة مقحمة لا تمتُّ إلى الكتاب بصلة، ومع هذا فالواجب عليه أن ينبه على ذلك أيضًا[57].

وكثيرًا ما يَحْدث العكس بأن تسقط كلمة أو أكثر من النص؛ وهو ما يُسَمَّى بالخَرْم[58]، وقد يكون ذلك نتيجة عَجَلة الناسخ وعدم دقته، وقد يؤدى إليه فى بعض الأحيان ما يُسَمَّى بانتقال النظر فى القراءة؛ وهو أن تقفز عين الناسخ من كلمة إلى أخرى مثلها تمامًا فى نفس السطر أو السطور التى بعدها؛ فيُسْقِط الناسخ بذلك جملة أو أكثر. ولا يؤدى انتقال النظر إلى النقص من النص فحسب، بل يؤدى إلى الزيادة فيه أيضًا؛ فإذا حدث هذا الانتقال إلى كلمة مماثلة سابقة فى النص أدى إلى تكرار النص؛ وهذا يعنى بعبارة أخرى أن انتقال النظر إن كان إلى أسفل حدث سقط، وإن كان إلى أعلى حدثت زيادة لا لزوم لها؛ لأنها مكررة[59].

* ثالثًا: الضبط: إن أداء الضبط جزء من أداء النص؛ فله حرمته وأمانته كما للنص، وواجبُ المحقق أن يؤديه كما وجده، وألا يغيره ولا يُبَدِّله؛ ففى ذلك عدوان على المؤلِّف. وكثيرًا ما يَرِدُ بعض الكلمات موجَّهًا بضبطين، وهذا ينبغى أن يؤدَّى كما ورد فى النسخة، وإذا تعذر أداؤه بالمطبعة فليؤدَّ بالعبارة فى الحاشية. وأما الكتب التى خلت بعض كلماتها من الضبط وأراد المحقق أن يضبطها فإنه حَرِىٌّ أن يستأنس بطريقة المؤلِّف، فلا يضبطها ضبطًا مخالفًا لما ارتضاه المؤلِّف فى نظير الكلمات التى ضبطها المؤلِّف؛ فإذا ضَبَطَ كلمة (ضِنّ) مثلًا فى كثير من مواضع كتابه بكسر الضاد، وأهمل ضبطها فى موضع، وأردنا أن نضبطها، وجب أن نجارى ضبطها الأول، مع أن المعروف أن الكلمة تقال أيضًا بفتح الضاد. وأما الكلمة التى لم يَرِدْ لها نظيرٌ فى الضبط فإننا نختار لضبطها أعلى اللغات، وندع اللغة النازلة، وإذا اتفقت لغات فى العلوِّ وأمكن أداؤها معًا فليكن ذلك. ومما يجب أن يتنبه له المحقق ألا يضبط ضبطًا يؤدى إلى خلاف مراد المؤلِّف؛ فبعض المؤلفين يتعمد سرد عبارة خاطئة لينبه على تصحيحها فيما بعد، فضبط هذه العبارة الخاطئة ضبطًا صوابًا يُعَدُّ فى هذه الحالة خطأ؛ لأن المؤلِّف لم يُرِدِ الصواب فى تلك الحالة. ومهما يكن فإن الضبط يحتاج إلى الدقة والحرص والتريث كما يحتاج إلى قدر كبير من التحرز عن الانسياق إلى المألوف؛ فقد تَرِدُ كلمة (الكَهْوَل) بمعنى بيت العنكبوت، فيضبطها الضابط خطأ بـ(الكُهول)، و(العَلْب) بمعنى الوسم والتأثير، فتضبط (العُلَب) إلى نحو ذلك مما تسوق الأُلْفة إليه، والألفة من أخطر البواعث على الخطإ. ومن ذلك أعلام الناس يجدر بالمحقق ألا يضبطها إلا بعد الرجوع إلى مصادر الضبط؛ ككتب الرجال والمؤتلف والمختلف والمعاجم اللغوية؛ فإن انسياق المحقق وراء المألوف يُوقِعه فى كثير من الخطإ؛ إذ يَلتبس المصغَّر بالمكبَّر، والمخفَّف بالمثقَّل، والمعجم بالمهمل، ومِثْلُ ذلك أعلام البلدان والقبائل ونحوها[60].

*رابعًا: التعليق على الكتاب: يذهب فريق من المحققين والباحثين إلى عدم التعليق على النص إطلاقًا والاهتمام بالتحقيق بتوضيح المتن وضبطه وتحقيق نصوصه، بينما يذهب فريق آخر إلى وجوب خدمة المخطوط بالهوامش والتعليقات المفيدة للقارئ. وقد أفرط بعض المتأخرين فأثقل النصوص بهوامش خرجت عن مقصودها من خدمة النص إلى صرف القارئ عن موضوع الكتاب الأصلى إلى مواضيع هامشية فرعية لا تهم القارئ يَعْرض فيها سعة علمه ومعرفته. والصواب الذى رجحه شيوخ التحقيق من المتأخرين التوفيق بين المذهبين بالاقتصار على ما لا بد منه من الهوامش؛ وهو ما يخدم النص، ولا يخرج بالقارئ عن موضوعه إلى مواضيع هامشية[61].

واتفقوا على أمور لا بد منها فى التعليق؛ وهى:

  1. تخريج الآيات القرآنية.
  2. تخريج الأحاديث النبوية الشريفة والآثار.
  3. تخريج الأشعار والأرجاز وأقوال العرب الشاهدة.
  4. شرح الألفاظ الغريبة وتخريج الأوجه النحوية واللغوية غير المشهورة.
  5. التعريف بالأعلام الغامضة أو المشتبهة وكذلك بالبلدان التى تحتاج إلى تحقيق لفظى أو بلدانى.
  6. توضيح الإشارات التاريخية وغيرها التى تستعصى معرفتها على خاصة القراء[62].

وينبغى على المحقق أن يذكر مصدر كل كلمة تكتب فى الهامش إلا إذا كانت رأيًا خاصًّا له[63].

رابعًا: مكملات التحقيق:

  • (1) المقدمة:

يجب أن تشتمل المقدمة على ما يلى:

1- ترجمة وافية لصاحب الكتاب المُحَقَّق.

2- التعريف بالكتاب وقيمته العلمية مع العناية بذِكْر طبعاته السابقة - إن كان قد سبق طبعه - وبيان أسباب إعادة تحقيقه وطباعته.

3- وصف ما اعتمده المُحَقِّق من مخطوطات الكتاب لإخراج نصه. ويحسن بالمحقق أن يترجم لمن ورد اسمه فى التمليكات والسماعات الموجودة بالمخطوطات؛ لما فى ذلك من إبراز قيمة هذه المخطوطات، خاصة إذا عرفنا أن مجموعة من العلماء المشهود لهم بالكفاءة والعلم قد تملكوها أو أجازوا روايتها لتلاميذهم أو علقوا عليها هنا أو هناك. ويَقْرِن المحقق وصفَ المخطوطات بتقديم بعض نماذج مصورة لها، وقد جَرَتِ العادة أن يصوَّر فى ذلك وجه الكتاب وبعض صفحاته ولا سيما صفحته الأولى والأخيرة؛ لأنها أدق الصفحات فى التعبير عن تقدير المخطوطات[64].

4- بيان منهج العمل فى إخراج الكتاب وتحقيقه.

  • (2) الفهرسة:

فهارس الكتاب هى مفاتيحه الحقيقية التى يصل الباحث عن طريقها إلى بغيته بأقصى سرعة ممكنة وبأيسر سبيل[65]؛ فالفهارس تفتش ما فى باطن الكتب من خفيات يصعب التَّهَدِّى إليها، كما أنها معيار توزن به صحة نصوصها بمقابلة ما فيها من نظائر قد تكشف عن خطإ المحقق أو سهوه، وقد أصبح عصرنا الحديث المعقد فى حاجة ملحة إلى اختزال الوقت وإنفاق كل دقيقة منه فى الأمر النافع[66]. وتختلف الفهارس باختلاف موضوع الكتاب، ويمكن أن يصنع لكل كتاب فهرسة قد لا تكون فى غيره، ولكن هناك فهارس تقليدية يكثر ورودها فى الكتب المحققة؛ مثل فهرس الموضوعات، وفهرس الأشعار، وفهرس الأعلام، وفهرس الكتب الواردة فى النص، وفهرس الألفاظ اللغوية، وفهرس الأماكن أو البلدان، وفهرس القبائل، وفهرس الأيام والغزوات، وفهرس الأمثال، وفهرس المراجع[67]. وأما ترتيب فهارس الكتاب فإن المنهج المنطقى تقديم أهم الفهارس وأشدها مساسًا بموضوع الكتاب[68].

 

المبحث الثانى

منهج جمعيةِ الْمَكْنِزِ الإسلامىِّ فى تحقيق كتب الموسوعة الحَدِيثِيَّة

بعد رحلة طويلة للحديث النبوى وعلومه ومجهودات المسلمين فى حمل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عبر القرون المتطاولة جاءت مجهودات جمعية المكنز الإسلامى فى خدمةِ السُّنَّةِ المشرفةِ لتربط الحاضر بالماضى، وتستشرف المستقبل المشرق؛ رغبةً فى تحقيقِ آمالِ علماءِ الأمةِ فى تجميعِ الحديثِ النبوىِّ ومروياتِهِ بأسانيدِهِ المتعددةِ؛ فَسُخِّرَتْ إنجازاتُ العلمِ الحديثِ فى مشروعٍ ضخمٍ الهدفُ منه جمعُ السُّنَّةِ النبويةِ فى صورة مطبوعة وإلكترونية. وقد حَرَصَتْ جمعيةُ المَكْنِزِ الإسلامىِّ على أن تُهَيِّئَ لهذا المشروعِ سُبُلَ القوةِ والاستمرارِ والجمعِ بين جودة المنتج ودقة المنهج؛ فانْتَقَتْ أفضلَ الباحثين فى مَجَالَىِ الحديثِ واللغةِ لتكوينِ فريقِ عملٍ كاملٍ متكاملٍ يُتْقِنُ عملَهُ ويقدِّرُ مسئوليتَهُ وأمانتَهُ التى وُكِلَتْ إليه، وانْتَدَبَتْ كبارَ العلماءِ ليضعوا خطةً علميةً مُحْكَمَةً يتعينُ على كُلِّ باحثٍ التزامَها ثم يراجعوا نتاجهم العلمى ومدى دقتهم فى إخراجه، ولم تَكْتَفِ بهذا فَحَسْبُ، بل انْتَخَبَتْ أفضلَ العلماءِ ليعملوا على تحكيمِهِ ومراجعتِهِ وَفْقَ قواعدِ التحقيقِ العلمىِّ الرصينِ.

وسأعرض فى هذا المبحث لأمرين مهمين:

فأما الأول: فبيان المنهج العلمى المُتَّبَع فى تحقيق كتب موسوعة المَكْنِز الإسلامى الحَدِيثِيَّة.

وأما الثانى: فَذِكْر مزايا هذا المنهج العلمى.

أولًا: بيان المنهج العلمى المُتَّبَع فى تحقيق كتب موسوعة المَكْنِز الإسلامى الحَدِيثِيَّة:

إن الغاية من تحقيق الكتاب هى إخراج نصه أقرب ما يكون إلى الصورة التى تركها مؤلفه، ومن أجل بلوغ هذه الغاية وضع العلماء أصولًا وقواعدَ كثيرةً قد عرضتها بطريقة إجمالية عامة فى المبحث السابق، وعلى الرغم من ذلك فإننى وجدت أنه ينبغى عَلَىَّ أيضًا أن أُبَيِّنَ المنهج العلمى الذى التزمناه فى تحقيق كتب هذه الموسوعة الحديثية؛ لأنه وإن كان مُسْتَنْسَخًا من هذه الأصول والقواعد المذكورة سابقًا فإن فيه مَزِيدَ بَسْطٍ وتفصيلٍ بسبب مراعاته حالةَ كُلِّ كتابٍ من هذه الكتبِ وخصوصيتَهُ.

ويمكن القول بأن العمل جرى فى إخراج هذه الكتب وتحقيقها وفق خطوات علمية دقيقة حسبما تقتضيه قواعد التحقيق العلمى؛ وذلك على النحو التالى:

الخطوة الأولى: اختيار الكتاب:

سبق أَنْ بيَّنت فى المقدمةِ أن جمعيةَ المَكْنِزِ الإسلامىِّ بَنَتْ خطةَ مشروعِها التراثىِّ الإسلامىِّ العظيمِ الرامى إلى جَمْعِ السُّنَّةِ النبويةِ المشرفةِ فى موسوعةٍ واحدةٍ مُسَمَّاةٍ باسمِ " جَمْع جوامع الأحاديث والأسانيد ومَكْنِز الصحاح والسنن والمسانيد " على أساسِ جَمْعِ وتحقيقِ ما تَشْتَمِلُ عليه هذه الركائزُ الخمسُ: الأولى: مصادرُ تحفةِ الأشرافِ لِلْمِزِّىِّ. الثانية: مصادرُ إتحافِ المَهَرَةِ لِابْنِ حَجَرٍ العسقلانىِّ. الثالثة: مصادرُ المطالبِ العاليةِ لِابْنِ حَجَرٍ أَيْضًا. الرابعة: مصادرُ مَجْمَعِ الزوائدِ لِلْهَيْثَمِىِّ. الخامسة: مُصَنَّفَاتُ الإمامِ الْبَيْهَقِىِّ.

فإذا اكتملتْ كتبُ هذه الركائزِ الخمسِ، انتقلتِ الجمعيةُ إلى سائرِ كتبِ السُّنَّةِ المُسْنَدَةِ. وقد أَصْدَرَتْ الجمعيةُ فى إطارِ هذا المشروعِ الكبيرِ ثلاثةَ إصداراتٍ على التفصيلِ الذى بيَّنته فى المقدمة.

الخطوة الثانية: التحقق من عدم طبع الكتاب، أو من وجود ما يستدعى إعادة طبعه:

لقد رَأَتْ جمعيةُ المَكْنِزِ الإسلامىِّ أن خدمةَ كتبِ السُّنَّةِ المشرفةِ تحتاج إلى إعادة النظر فى كثير من مطبوعاتها؛ وذلك بسبب تسلل الخلل إليها إما من جهة ضعف النسخ الخطية المعتمد عليها، وإما من جهة القصور العلمى لدى المشتغلين فى تحقيقها، وإما من جهة قلة الإمكانات المادية المخصصة لطباعة كتبها فى صورة تليق بمكانتها لدى الأمة الإسلامية؛ ولذلك أَطْلَقَتْ فكرةَ مشروعِها العظيمِ الذى يهدف إلى جَمْعِ السُّنَّةِ النبويةِ المشرفةِ محققةً تحقيقًا علميًّا دقيقًا متميزًا فى موسوعةٍ واحدةٍ.

الخطوتان الثالثة، والرابعة: جَمْعُ النُّسَخِ الخطيةِ للكتابِ، وترتيبُها:

تميزتْ جمعيةُ المَكْنِزِ الإسلامىِّ بحرصِها الشديدِ على جمعِ أَوْثَقِ النُّسَخِ الخطيةِ للكتبِ التى تعملُ على تحقيقِها، وتُعَدُّ هذه الميزةُ منقبةً عظيمةً للجمعيةِ ولمنهجِها العلمىِّ؛ خاصة إذا علمنا أن جمع النسخ الخطية الموثوق فيها ليس بالأمر السهل؛ حيث يمر بعدة مراحل بدءًا من البحث والتنقيب عن النسخ الخطية فى فهارسِ مخطوطاتِ مكتباتٍ شتى فى مختلفِ أنحاءِ العالمِ، ومرورًا ببذل غاية الجهد للحصول عليها، ثم الاجتهاد فى فحصها ودراستها لاستبعاد ما لا يخدم عملية التحقيق ولا يُقَدِّمُ لها جديدًا، والإبقاء على ما يحفل بمميزات وتوثيقات تؤهله للاعتماد عليه؛ فبعض هذه النسخ التى توافرت لنا بالغ الإتقان مقروء على الأئمة الحفاظ الأعلام وعليه خطوطهم، كما أن بعضها قد تَفَرَّدْنَا به بفضل الله - تعالى - فلم يَسْبِقْنا أحدٌ فى الاعتماد عليه، وانتهاءً بترتيبها بحسب أقدمية نَسْخِها وقوتها معًا تبعًا لما وُجِدَ فيها من مميزات معتبرة فى توثيقات النسخ الخطية.

ومما تجدر الإشارة إليه أننا لم نَكْتَفِ بهذا فَحَسْبُ؛ وإنما تخيرنا نسخة مطبوعة معتبرة لكل كتابٍ، فاستعنا بها بجانب اعتمادنا على النسخ الخطية، بل زدنا فاستعنا فى توثيق النص وتقوية الاختيارات فيما اختلفت فيه النُّسَخُ بعدد من المصادر الوسيطة المساعدة التى تُعَدُّ نُسَخًا فرعيةً من كل كتاب من هذه الكتب.

وهذه منقبة أخرى؛ فقد التزمت جمعية المكنز فى جميع تحقيقاتها الرجوع إلى النصوص المقتبسة من المصنَّفات اللاحقة والسابقة، سواءٌ أكثرت نُسَخ الكتاب المراد تحقيقه أو قَلَّت؛ مما أثرى عملها، وكشف عن الترابط الوثيق بين كتب أهل العِلم السابقين واللاحقين.

وتنقسم هذه المصادر عدة أقسام حسب حالة كل كتاب ومصادره التى توافرت لدينا: فقسم خاص بكتب المؤلف الأخرى التى أفاد منها فى تصنيف الكتاب. وآخر خاص بالكتب التى يروى أصحابها الأحاديث فيها عن المؤلف مباشرة. وثالث خاص بالكتب التى يروى أصحابها الأحاديث فيها عن المؤلف بواسطة. ورابع خاص بالكتب التى تنقل الأحاديث من الكتاب. وخامس خاص بالكتب التى اعتنتْ بالكتاب عنايةً خاصةً كمختصراته وأطرافه وزوائده والمنتقيات منه وشروحه. وسادس خاص بالكتب التى يروى المؤلف من طريقها. والأصل عندنا أن نستعين بالمطبوع منها، ولكن إذا وجدناه ضعيفًا غَيْرَ مُؤَهَّلٍ للاستعانة به بحثنا عن نسخة مخطوطة جيدة منه فاستعنا بها.

الخطوتان الخامسة، والسادسة: تحقيق عنوان الكتاب، وتحقيق اسم المؤلِّف ونسبة الكتاب إليه:

لقد أدرجنا هاتين الخطوتين الرئيستين فى المقدمة العلمية المنهجية التى نُصَدِّرُ بها كل كتابٍ من كتب موسوعتنا الحديثية، ويكون ذلك على وجه التحديد فى الفصل الثانى منها الذى نخصصه للتعريف بالكتاب المُحَقَّق؛ فمما نتناوله فيه بيان صحة نسبة الكتاب لمصنِّفه، وتحقيق اسمه، وغير ذلك من المباحث العلمية.

فمن المشكلات التى تَعْرِضُ للمُحَقِّق: وقوع الاختلاف فى تسمية الكتاب حتى يُظَنَّ أنه مُصَنَّف آخر للمؤلِّف؛ كما وقع لنا عند تحقيق عنوان سنن الدارمى المسمى بالمسند؛ إذ ظن بعض أهل العِلْم أن له كتابين، والصواب أن العنوانين لكتاب واحد؛ وهو المسند، وإنما عُرِفَ بالسنن؛ لأنه مرتب على الأبواب[69].

الخطوة السابعة: تحقيق متن الكتاب:

تمثل هذه الخطوة لب عملية التحقيق؛ فما الخطوات السابقة عليها من أساسيات التحقيق أو التالية لها من مكملاته إلا كالخادم والتابع لها. وهذه الخطوة تتم على المرحلتين التاليتين:

المرحلة الأولى: النَّسْخ والمقابلة:

يتم العمل فى هذه المرحلة الدقيقة من مراحل عملية التحقيق من خلال تَخَيُّرِنا نسخةً مُتْقَنَةً مُؤَهَّلَةً للاعتماد عليها فى نَسْخِ النصِّ نَسْخًا مُتْقَنًا، حتى إذا انتهينا من نَسْخِها بدأنا عمليةَ المقابلةِ؛ فقابلنا النص فى النسخ الخطية بعضها ببعض، ثم بالنسخة المطبوعة، وكذلك بالمصادر الوسيطة المساعدة فى مواضع الحاجة، وأثبتنا الفروق بينها؛ وذلك على نَحْوٍ شاملٍ كاملٍ دقيقٍ موافقٍ لما نَصَّ عليه شيوخ التحقيق.

وقد واجَهَتْنا فى هذه المرحلة خاصةً بعضُ المشكلاتِ كرداءة تصوير نسخة ما، أو وجود خرم فى أثنائها، لكننا تغلبنا على ذلك فى كثير من الأحيان بفضل ما سَخَّرَتْهُ جمعيةُ المَكْنِزِ الإسلامىِّ من إمكانات ونفقات لجمع المخطوطات؛ فدائمًا ما تنظم الجمعية رحلات عمل لبعض العواصم العالمية الكبرى؛ خاصة إذا جاءت معلومات مؤكدة بوجود تصوير أفضل للنسخ التى بين أيدينا، أو بوجود نسخ بديلة أجود مما عندنا، وفى هذه الحالة تجرى المسارعة إلى الحصول عليها ثم إعادة مقابلتها، حتى وإن كنا فى مراحل نهائية من العمل، وذلك بدون أدنى مضض، وهذه منقبة أخرى تُضافُ إلى مناقب جمعية المكنز ومنهجها العلمى، ولله الحمد.

المرحلة الثانية: معالجة الفروق بين النُّسَخ:

بعد انتهائنا من المقابلة بين النُّسَخ وإثبات الفروق فإننا ندخل فى مرحلة معالجة هذه الفروق؛ فنحدد ما يُثْبَتُ منها فى متن الكتاب، وما يُنَبَّهُ عليه فى الهوامش على النحو الذى سأذكره فيما بعد. وسبق أَنْ بيَّنت أن هذه المرحلة تكون بإحدى طريقتين: إما طريقة الأصل المختار، وإما طريقة النص المختار، وقد بيَّنت أيضًا أن جمعية المكنز الإسلامى ارْتَضَتْ طريقة النص المختار فى سائر أعمالها؛ لصعوبة توفر أصل واحد يجتمع فيه كل الشروط اللازمة لإخراج الكتاب عليه، بالإضافة إلى أنها هى التى عليها العمل عند أكثر المشتغلين بالتحقيق.

وقد عالجنا فروق النسخ وفق خطةٍ مُحْكَمَةٍ وعلى نَحْوٍ لا يُضَيِّعُ على القارئ شيئًا مما فى الأصول الخطية من الفوائد، وفى الوقت نفسه يجعله أَيْضًا مطمئنًّا إلى اختياراتنا من خلال مقارنته بين ما أثبتناه فى المتن وما أودعناه فى الهوامش، واطلاعه كذلك على توثيقاتنا لتلك الاختيارات بتعليلات سديدة وتعليقات مفيدة.

وقد جَرَتْ معالجة فروق النسخ تبعًا للمنهج التالى:

أ. اتَّبَعْنا طريقةَ النصِّ المختارِ؛ فأثبتنا فى صلبِ الكتابِ النصَّ الراجحَ؛ وهو ما اتفقت عليه جميع النسخ التى اعتمدنا عليها أو أكثرها ما دام صوابًا، وأثبتنا فى الهامش فروقَ النسخِ عدا اليسير غير المؤثر حتى لا نحجب عن القارئ شيئًا مما فيها.

ب. إذا اتفقت أكثر النسخ على الخطإ وكان الصواب فى أقلها، فإننا نثبت الصواب فى الصلب، ونذكر فى الهامش فروقَ النسخِ ووَجْهَ الصوابِ الذى أثبتناه.

ج. إذا انقسمت النسخ فى الصواب على وجهين أو أكثر، فإننا نثبت فى الصلب ما رَجَّحْنَاهُ، ونذكر فى الهامش فروقَ النسخِ ودليلَ رجحان ما أثبتناه. ومن المرجِّحات التى نعتمد عليها فى إثبات النص الراجح ما يلى:

1- قوة النسخ تبعًا للترتيبِ الذى ارتضيناه بعد دراستها دراسةً مفصلةً فى كُلِّ كتابٍ.

2- موافقة المصادر الوسيطة المساعدة المشتملة على نسخة من نصوص الكتاب.

3- موافقة روايات الحديث الأخرى الواردة فى كتب التخريج من طريق المصنِّف أو شيخه فَمَنْ فوقه فى الإسناد ثم المتن مع مراعاة خصوصية كل رواية.

4- موافقة ترجمة الراوى فى كتب الرجال.

5- موافقة المشهور أو الصحيح فى لغة العرب.

6- علامات التصحيح والتضبيب فى المخطوطات.

7- غير ما سَبَقَ من طرق الترجيح الأخرى التى تُذْكَرُ عند كُلِّ حالة.

د. أثبتنا الزيادة فى المتن ولو كانت من نسخة واحدة إذا كان السياق يقتضيها، ونبهنا على ذلك فى الهامش مع الاستئناس بكتب التخريج.

ه. أثبتنا الزيادة فى أسماء الرواة أو أنسابهم أو ألقابهم فى المتن ولو من نسخة واحدة إذا كانت زيادة صحيحة فى نفسها، ونبهنا على ذلك فى الهامش.

و. أثبتنا الاسمَ الصحيحَ للكتابِ الذى وثَّقناه، وسندَهُ الذى يبدأُ به، وديباجتَهُ الختاميةَ من أوثقِ النسخِ الخطيةِ التى توافرتْ لدينا.

ز. ضبطنا النصَّ ضبطًا كاملًا سندًا ومتنًا مع الاعتناء بِذِكْرِ ما وجدناه من الضبط فى النسخ الخطية التى اعتمدنا عليها ما دام صوابًا.

الخطوة الثامنة: تجويد التحقيق من خلال الاعتناء بمكملاته:

لم تَدَّخِرْ جمعيةُ المَكْنِزِ الإسلامىِّ وُسْعًا فى سبيلِ تحقيقِ كتبِ السُّنَّةِ النبويةِ المشرفةِ تحقيقًا علميًّا دقيقًا متميزًا؛ فلم تتركْ بابًا يوصلُها لذلك إلا سَلَكَتْهُ قَدْرَ الطاقةِ حتى صارتْ نصوصُ موسوعتِها الحَدِيثِيَّةِ موثوقًا بها سالمةً من التصحيف والتحريف الواقعين فى أغلب الكتب المطبوعة، وهى مع ذلك أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ بين إخراجِ كُتُبِها فى صورةٍ إلكترونيةٍ وإخراجِها مطبوعةً، وما ذلك كله إلا لإخراجِ كتبِ السُّنَّةِ المشرفةِ فى أَبْهَى صورةٍ تليقُ بها وبقدسيتِها عند المسلمين، وحرصًا منها على ذلك أيضًا فقد ضَمَّنَتْ منهجَها العلمىَّ فى التحقيقِ العديدَ من مكملاته التى نَصَّ عليها علماؤه وشيوخُه؛ رغبةً منها فى مقاربةِ الكمالِ والتمامِ فى ذلك.

وفيما يلى بيان لمكملات التحقيق التى الْتَزَمَتْها جمعيةُ المَكْنِزِ الإسلامىِّ فى إخراجِ كُتُبِها وتحقيقِها حتى صارتْ كأنها أساسيات فى منهجها:

أ. اتخذنا ما قرره واضعُ علمِ الترقيمِ وعلاماتِهِ فى اللغة العربية العلامةُ الأديبُ الكبيرُ أحمدُ زكى باشا[70] منهجًا لنا فى إخراج كتب الحديث الشريف؛ فتركنا استعمال علامات الترقيم فى النص؛ لنترك المجال مفتوحًا لأهل العلم للاجتهاد فى فهمه واستنباط الأحكام منه دون تدخُّل منا فى توجيهه، فى حين استعملناها فى الهوامش للفصل بين رموز النُّسَخ، وتحديد بداية ونهاية الفروق بينها، وغير ذلك، وأما فى مقدمات التحقيق فقد استبدلنا بها علامات زخرفية شبيهة بالمُسْتَخْدَم فى المخطوطات.

ب. رقمنا الأحاديثَ ترقيمًا متسلسلًا؛ فجعلنا لِكُلِّ متنٍ له إسنادٌ رقمًا جديدًا، سواء كان حديثًا أو أثرًا، وحرصنا على أن نضع الرقمَ قبل صيغةِ التحديثِ ما أَمْكَنَ ذلك، إلا أن يكون النصُّ مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالحديث لا مُسَوِّغَ لفصله عنه؛ فعندئذٍ نضع الرقمَ قبل بدايةِ النصِّ، وإذا ذُكِرَ فى الإسناد أكثرُ من صحابىٍّ فإننا نجعل له رقمًا واحدًا، إلا فى حالةِ تمييزِ المُصَنِّفِ لمتنِ الصحابىِّ الأولِ ثم عَطْفِهِ لحديثِ الصحابىِّ الثانى عليه؛ فعندئذٍ نجعل له رقمين، وجعلنا أيضًا رقمين لِكُلِّ إسنادَيْنِ بينهما متنٌ، ولو كانا لصحابىٍّ واحدٍ، أو قال بعد الثانى منهما: مثله، أو نحوه.

ج. شرحنا الألفاظ الغريبة شرحًا مختصرًا مفيدًا من خلال كتب غريب الحديث والشروح والمعاجم اللغوية.

د. خرجنا أحاديث كتب الموسوعة؛ لأن تخريجَها يُعَدُّ توثيقًا لها، وقد جرى ذلك تبعًا للمنهج التالى:

1- ربطنا الأحاديث بكتب الأطراف والزوائد التالية: تحفة الأشراف للمزى، وإتحاف المهرة والمطالب العالية كلاهما لابن حجر العسقلانى، وإتحاف الخيرة المهرة للبوصيرى، ومجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمى؛ فقد ارتضينا هذه الكتب لربط أحاديث كتب الموسوعة بعضها ببعض وبغيرها من كتب الحديث التى تشتمل عليها كتب الأطراف والزوائد السالفة الذِّكْر؛ فنذكر أسماءَها مختصرةً، ثم نذكر رقمَ الحديثِ فيها؛ فتحفة الأشراف: (تحفة)، وإتحاف المهرة: (إتحاف)، والمطالب العالية: (مطالب)، وإتحاف الخيرة المهرة: (خيرة)، ومجمع الزوائد ومنبع الفوائد: (مجمع).

2- اتخذنا كتاب تحفة الأشراف رابطًا رئيسًا لربط أحاديث كتب هذه الموسوعة؛ فقد عرضناها عليه حديثًا حديثًا، فما كان من طُرُقِها فيه ربطناه به، وأما بقية الكتب الأخرى فقد استخدمناها أَيْضًا فى ربط الأحاديث، على أن يكون الكتابُ الذى جَرَى رَبْطُ أحاديثِهِ بها من مصادرها.

3- ذكرنا تخريج الحديث تفصيلًا من كتبِ موسوعتِنا الحديثيةِ " جمعِ جوامعِ الأحاديثِ والأسانيدِ ومَكْنِزِ الصحاحِ والسننِ والمسانيدِ " بإصداراتها الثلاثة؛ فنكتب: (وأخرجه)، ثم نذكر مَنْ أخرجه مِنْ أصحاب هذه الكتب ورقم الحديث فيها، ورمزنا لهذه الكتب بالحروف المعروفة لأصحابها

فللبخارى خ   ولمالك ك
ولمسلم م   ولأحمد حم
لأبى داود د   وللدارمى مى
وللترمذى ت   وللحميدى ح

وللنسائى فى المجتبى

س   وللدارقطنى قط

ولابن ماجه

ق   وللطبرانى فى المعجم الصغير طص

4- خصصنا مَكْنِزَ المسترشدين لِذِكْرِ هذه الروابطِ والتخريجاتِ مرتبةً على النَّحْوِ المذكورِ آنفًا حتى يُطْبَعَ فى مُلْحَقٍ مُسْتَقِلٍّ مع كتب كل إصدار.

ه. عملنا لكلِّ كتابٍ مقدمةً علميةً تشتمل على خمسة فصول على النحو التالى:

الفصل الأول: وفيه التعريف بالمُصَنِّف: حيث تناولنا فيه اسمه وكنيته، ونسبه ونسبته، ومولده ونشأته، وطلبه للعلم، ورحلاته العلمية، وصفاته وفضائله، وشيوخه، وتلاميذه، وعلومه، ومؤلفاته، ومكانته العلمية، وثناء أهل العلم عليه، ثم وفاته.

الفصل الثانى: وفيه التعريف بالكتاب المُصَنَّف: حيث تناولنا فيه صحة نسبته لمصنِّفه، وتحقيق اسمه، وعدد أحاديثه، وعدد شيوخ مصنِّفه الذين روى عنهم فيه، ورواته الذين رووه عن مصنِّفه، وموضوعه، ومنهج المؤلف فى تصنيفه له، ومكانته، وعناية أهل العلم به، وطبعاته، ومزايا طبعتنا منه.

الفصل الثالث: وفيه طبقات رواة الكتاب: حيث ذكرناها مشفوعة بالرسم التوضيحى لها وبيان اتصالها بالنسخ المعتمدة فى التحقيق.

الفصل الرابع: وفيه وصف النسخ المعتمدة فى التحقيق، وبيان رموزها المشار بها إليها فى الهوامش مرتبةً حسب أقدمية نَسْخِها أو قوتِها أو الأمرين كليهما: حيث ذَكَرْنَا بيانات كل نسخة من حيث مصدرها، وعنوانها، وإسنادها، وعدد أوراقها، وعدد أسطر صفحاتها، وعدد كلمات السطر، وبداية النسخة، ونهايتها، ونوع الخط، واسم الناسخ، ومكان النسخ، وتاريخه، وحالة النسخة، ومحتواها الإجمالى، وتوثيقاتها، ولا سيما ما فيها من سماعات وبلاغات وغير ذلك.

الفصل الخامس: وفيه بيان منهج العمل فى تحقيق الكتاب: حيث بَيَّنَّا فيه منهجنا فى تحقيق نص الكتاب وتحريره، والتعليق عليه، ومعالجة فروق نُسَخه والترجيح بينها، وذَكَرْنَا المصادر الوسيطة المساعدة التى استعنا بها فى توثيق الاختيارات، وأوضحنا كذلك طريقتنا فى تخريج الأحاديث.

و. عملنا أَيْضًا مجموعة متنوعة من الفهارس، وحرصنا على تحميلها على القرص المُدْمَج المُرْفَق مع كتب كل إصدار؛ لنعين الباحث على الوصول إلى غرضه بسهولةٍ ويُسْرٍ.

وهذه المجموعة المتنوعة من الفهارس تتمثل فى: فهرس الآيات القرآنية الكريمة، وفهرس السلاسل، وفهرس الثنائيات، وفهرس الأحاديث القدسية، وفهرس الشعر والرجز، وفهرس الأماكن والبلدان، وفهرس القبائل والجماعات، وفهرس أعلام المتن، وفهرس الأيام التاريخية والغزوات، وفهرس الألفاظ الغريبة، وفهرس كتب التخريج، وفهرس الجرح والتعديل، وفهرس الحكم على الحديث، وفهرس المحتوى[71].

ثانيًا: مزايا المنهج العلمى المُتَّبَع فى تحقيق كتب موسوعة المَكْنِز الإسلامى الحَدِيثِيَّة:

إن لهذه الموسوعة الحديثية مزايا كثيرةً يدركها كلُّ مَنْ تعامل معها، واستعان بها فى أبحاثه وتخريجاته ومطالعاته، ولا رَيْبَ أن هذه المزايا مستمدةٌ من مزايا المنهج العلمى الذى اتَّبَعْنَاهُ فى تحقيقِ كتبِها، فلم نَخْطُ خطوات هوجاء، ولم نخبط خبط عشواء، وإنما خَطَوْنَا خطوات علمية دقيقة.

ويمكن القول بعد عرضى الخطواتِ العلميةَ الدقيقةَ السابقةَ التى يشتمل عليها منهجُنا العلمىُّ: إن التزامنا هذه الخطواتِ يضمنُ لنا - بإذن الله تعالى وفضله - بلوغَ مُرْتَقًى عظيمٍ فى تحقيقِ النَّصِّ الحديثىِّ، وضبطه، وتوثيقه، وتخليصه من شوائب السقط والخطإ والتحريف والتصحيف. ولِمَ لا؟ فقد استفرغنا وسعنا فى ذلك غَيْرَ عَجِلِينَ أو قَلِقِينَ من طول الوقت؛ حيث دار هدفنا مع منهجنا فى فَلَكٍ واحدٍ؛ وهو إعلاء شأن الدقة والإتقان فى إخراج نتاجنا العلمى وفق قواعد الحديث واللغة والتحقيق العلمى المنهجى، فالكتاب المراد إدخاله ضمن موسوعتنا الحديثية لا بُدَّ أن يمر بمراحل رئيسة، تشتمل كل مرحلة منها على عدة خطوات دقيقة كما بيَّنت، فالحمدُ للهِ على هدايتِهِ وتوفيقِهِ.

ويمكن إجمال مزايا هذا المنهج العلمى الذى انتهجناه ورسمنا به طريق تميزنا فيما يلى:

أ. لا نرى أنفسنا مبالغين إذا قلنا: إن كل خطوة من الخطوات العلمية الدقيقة التى تقتضيها قواعد التحقيق العلمى للنصوص عامةً والحديثية خاصةً تُعَدُّ من أعظم مزايا منهجنا العلمى، فقد حرصنا كل الحرص على التزامها؛ لتخرج نصوص موسوعتنا الحديثية أقربَ ما تكون من أصولها القديمة التى تركها مؤلفوها؛ وهو ما شهد به كثير من العلماء وشيوخ التحقيق الذين اطلعوا على أعمالنا.

ب. لا نبالغ أيضًا إذا قلنا: إن باحثى جمعية المكنز الإسلامى، واللجنة العلمية المشرفة عليهم، والعلماء المحكمين لَيُعَدُّونَ جميعًا من أهم سمات منهج الجمعية العلمى؛ فليس هذا المنهج عبارة عن قوالب جامدة متحجرة تُوضَعُ فى الكتب، وإنما هو نتاج انصهار علوم جميع هؤلاء وأفكارهم وخبراتهم وتجاربهم وطاقاتهم فى بوتقة واحدة ينبعث منها فيه الحياة والحيوية الملائمتان لكل كتاب من كتب هذه الموسوعة الحديثية.

ج. جلب كل ما يمكن الوصول إليه والحصول عليه من الأصول الخطية الموثقة لكتب موسوعتنا الحديثية؛ فقد توافر لها قَدْرٌ صالحٌ من نفائسِ النُّسَخِ الخطيةِ بالغةِ الإتقانِ، المقروءةِ على الأئمةِ الحُفَّاظِ الأعلامِ، المُثْبَتَةِ عليها خطوطُهُمْ، وبعضُها تَفَرَّدْنَا به - بفضلِ اللهِ تعالى - فلم يَسْبِقْنا أحدٌ فى الاعتماد عليه؛ فعلى سبيلِ المثالِ مُسْنَدُ الإمامِ أحمدَ؛ فقد اعْتَمَدْنَا فى تحقيقِهِ على ثَمَانٍ وثلاثين نسخةً تَفَرَّدْنَا منها بِسِتَّ عَشْرَةَ نسخةً نادرةً طُبِعَ عليها لِأَوَّلِ مَرَّةٍ؛ فجاءت طبعتنا منه أتم الطبعات، فعلى الرغمِ من كثرةِ طبعاتِهِ التى سبقتْ طبعتنا فإنها كُلَّهَا ناقصةٌ؛ فقد بَلَغَ السقطُ منها فى موضعٍ واحدٍ أَكْثَرَ من مائةِ حديثٍ قد استدركناها، فنحمدُ اللهَ - تعالى - على توفيقِه وإنعامِه.

وكذلك السُّنَنُ للإمامِ الدارقطنىِّ؛ فقد حققناه على إِحْدَى عَشْرَةَ نسخةً خطيةً، أَكْثَرُهَا لم يُحَقَّقِ الكتابُ عليها من قَبْلُ؛ فجاءت طبعتُنَا منه متضمنةً كلامًا على الرجالِ جَرْحًا وتعديلًا، وأحكامًا على الأحاديثِ إعلالًا وتصحيحًا للإمامِ الدارقطنىِّ، قد خَلَتْ منها جميعُ الطبعاتِ السابقةِ، فالحمد لله أولًا وآخرًا.

د. لم يقتصر منهجنا فى تحقيق كتب هذه الموسوعة على الاستعانة بالأصول الخطية منها فَحَسْبُ، بل تَخَطَّاهَا ليشمل أيضًا مواردها ومصادرها التى تُعَدُّ نُسَخًا فرعيةً منها؛ فقد نَقَّبْنَا عن موارد كل كتاب ومصادره، سواء كثرت أصوله الخطية أو قَلَّت، فاستعنا بها فى توثيق النص الحديثى وتقوية اختيارنا له؛ مما زاده قوةً وتأصيلًا، وجعل كل مطلع عليه مطمئنًّا إلى ما أثبتناه فى تحريره وضبطه، وصار يغلب على ظنه أنه أقرب صورة لما كتبه مؤلِّفُه.

هـ. جاءت معالجةُ منهجِنا لفروقِ النسخِ وفقَ طريقة " النص المختار "، وهى طريقةٌ تَعْظُمُ معها مسئولية الباحث أو المحقق، وطريقُهُ فيها يكون خطرًا وعرًا؛ لأنه يكون حَكَمًا على النُّسَخ عند اختلافها، يقرر أى نصوصها أقرب إلى ما وضعه المؤلِّف.

وقد أمكننا تحمل هذه المسئولية، وتجاوز خطر هذا الطريق ووعورته سالمين بما انبنى عليه منهجنا مما يلى:

1- انتقاء نخبة من الباحثين المتخصصين فى علومِ الحديثِ الشريفِ واللغةِ العربيةِ ممن يمتلكون مهارةً، وَحِسًّا عِلْمِيًّا مُدَرَّبًا، وَتَمَرُّسًا فى فن التحقيق.

2- خضوع جميع مراحل التحقيق لإشرافٍ علمىٍّ من فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم أستاذ الحديث الشريف وعلومه بالأزهر الشريف، ومعاونة من الدكتور كيلانى محمد خليفة مدير مشروع السُّنَّة المشرفة.

3- انتخاب أفضل العلماءِ ليعملوا على تحكيمِ أعمالنا ومراجعتِها وَفْقَ قواعدِ التحقيقِ العلمىِّ.

4- اشتمال كل مرحلة من مراحل التحقيق على عدة خطوات دقيقة، وخضوع كل خطوة للعديد من المراجعات من عدة مستويات علمية دون تعجل أو تسرع؛ فإحكام التحقيق وإتقانه يأتى أولًا، ثم يأتى الوقت ثانيًا.

5- الاعتماد على المنهج الوصفى فى عرض فروق النسخ؛ فلم نُضَيِّعْ ولم نُفَوِّتْ على القراء أو الباحثين شيئًا مما فى الأصول الخطية من الفوائد، ولم نُخْفِ عليهم شيئًا جوهريًّا مؤثرًا تَضَمَّنَتْهُ؛ فَبَيَّنَّا ما أثبتناه فى المتن وما أودعناه فى الهوامش من هذه الفروق، وحرصنا على بيان ما وَثَّقْنا به اختياراتنا من التعليلات الصائبة والتعليقات النافعة؛ فَأُتِيحَتْ للجميع الفرصةُ للمشاركة فى الحكم على ما تخيرناه وما أثبتناه من النصوص، ولا ريب أن هذا من أعظم محاسن منهجنا.

و. الجمع بين مَزِيَّتَىِ الرواية والدراية فى كتب هذه الموسوعة الحديثية من خلال تخريج الأحاديث عن طريق ربطها بكتب الأطراف والزوائد السالفة الذِّكْر وربط كتب الموسوعة بعضها ببعض وشرح الألفاظ الغريبة عن طريق كتب غريب الحديث والشروح والمعاجم اللغوية.

ز. دقةُ ضَبْطِ نصوصِ كتبِ هذه الموسوعةِ الحديثيةِ سندًا ومتنًا وسلامتُها من الأخطاءِ حتى صارتْ هى المُعْتَمَدَةَ فى مجالسِ سماعِ الحديثِ الشريفِ فى شَتَّى بِقاعِ الأرضِ شرقًا وغربًا؛ فلا تُحْصَى مجالسُ السماعِ التى اعْتَمَدَتِ الطبعةَ المتميزةَ من الكتبِ الستةِ والمُوَطَّإِ قراءةً وسماعًا فى بلادِ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وبلادِ الشامِ، ومصرَ، والمغربِ، وغَيْرِها، فالحمدُ للهِ على فضلِهِ علينا وتوفيقِهِ لنا.

ح. من أهم ما يُمَيِّزُ منهجَنا فى التحقيقِ حِرْصُنا الشديدُ على تجويده من خلال اعتنائنا بمكملاته التى من أبرزها تلك الدراساتُ العلميةُ التى اشتملتْ عليها مقدماتُ التحقيقِ التى صدَّرنا بها كُلَّ كتابٍ من كتبِ هذه الموسوعةِ؛ فهى دراسات منهجية تتضمن مباحث دقيقة وفوائد كثيرة، قسَّمناها على خمسة فصول متبعين فى عرضها أسلوبًا وسطًا بين الإسهابِ المُمِلِّ والإيجاز المُخِلِّ.

ط. من مكملات التحقيق المهمة أيضًا التى حرصنا على الاعتناء بها صناعة الفهارس؛ فيمكن القول بأننا بهذه الفهارس صَنَّفْنَا كتب الموسوعة تصنيفًا نوعيًّا، ضممنا فيه الشبيه إلى شبيهه، والنظير إلى نظيره، بحيث يمكن للباحث أن يقف على جميع مواطن مادته فى جميع الكتب بدقة وسرعة فائقة ودون خلط بغيرها، فهى تخدم الباحثين فى مجالات مختلفة كما سيأتى بيانه فى المبحث التالى.

 

المبحث الثالث

منهج جمعيةِ الْمَكْنِزِ الإسلامىِّ فى نشر كتب الموسوعة الحَدِيثِيَّة

تُعَدُّ جمعيةُ المَكْنِزِ الإسلامىِّ رائدةً فى مجالِ خدمةِ السُّنَّةِ المشرفةِ على مستوى العالمِ الإسلامىِّ؛ فهى أَوَّلُ مَنْ جمَع بين النشرِ الورقىِّ والإلكترونىِّ لِكُتُبِها؛ ومِنْ ثَمَّ سأعرض فى السطور التالية لهذا المنهج الرائد من خلال المحورين التاليين:

المحور الأول: هدف الجمع بين النشرِ الورقىِّ والإلكترونىِّ لكتب الموسوعة الحديثية:

لم يُبْنَ هذا المنهج الرائد فى نشر كتب السنة المشرفة على فكرة حمقاء أو هوجاء، ولم يكن الباعث عليه ترفًا أو سرفًا، ولكن لو نُظِرَ إليه نظرةً سطحيةً لَحُكِمَ عليه بذلك، بل ولَرُمِىَ بأنه مدعاة للإسراف وإهدار الموارد، لكنه فى الحقيقة على العكس من ذلك؛ فهو خير ما تُخْدَمُ به السنة وجماهير الأمة.

فالفطن اللبيب من يحوز فضائل الأمور، لا من يفطن لبعضها ويغيب عنه بعضها الآخر، وهذا كان منطلق الجمعية فى اعتمادها هذا المنهج الجامع؛ فقد رأت أنه لا غنى بأى حال من الأحوال عن الكتاب المطبوع، وفى الوقت نفسه لا يمكنها إغفال أو إهمال ما للنشرات الإلكترونية من فوائد جمة قد لا يتسنى بلوغها فى النشرات الورقية.

ولا شك أن الكتاب المطبوع يمثل لكل طالب علم المنبع الأصيل، والجليس الأمين، والصاحب المعين، ومجمع العلوم، ومفتاح الفهوم، يحفظ عليه وقته، ويؤنس خلوته.

وهو فى الدرس والتعلم، والحفظ والفهم، والمطالعة والمذاكرة ركن ركين، لا يُجارى ولا يُبارى، ولا يظن ضعف أهميته وقلة قيمته فى هذا العصر إلا مَنْ يَعُدُّهُ لتزيين الجدران أو الفخر على الأقران، بل سيظل على الرغم من انتشار أدوات الحداثة ووسائلها المختلفة محتفظًا برونقه وبهائه وسلطانه، فلا تغنى عنه النشرات الإلكترونية بحال؛ فهو أسهل فى الحمل والاصطحاب فى مختلف الأحوال، أما النشرات الإلكترونية فلا يخفى أن اعتمادها على الكهرباء ووسائل الاتصال العصرية قد يجعلها غير صالحة لكل زمان ومكان.

ولكن على الرغم من هذا لا يمكن لأحد أن يجحد عظيم فائدتها حيث سهولة الحصول عليها، ويُسْر اقتنائها وتخزينها، وسهولة البحث فيها عن أى معلومة، بل وسرعة الوصول إليها، فهى بلا شك توفر كثيرًا من الوقت والجهد، فالبحث فى الكتب الورقية يكون عن طريق الفهارس ومظان الأبواب، أما فى برامج الكتب الإلكترونية فيكون بجرد آلاف الكتب والمجلدات كلمةً كلمةً، بل وحرفًا حرفًا.

ومِنْ ثَمَّ يمكن القول بأنه لا غنى عنهما، فالأفضل الجمع بينهما، وهو ما حرصت الجمعية على توفيره لجماهير الأمة على اختلاف شرائحها ورغباتها، فلم تَضَنَّ بمال أو نفس ونفيس فى سبيل تحقيق ذلك.

المحور الثانى: عرض جوانب منهج جمعية المكنز الإسلامى فى نشر كتب الموسوعة الحديثية:

أولًا: مرحلة الإعداد للنشر الورقى:

حرصتْ جمعيةُ المَكْنِزِ الإسلامىِّ على إخراجِ الأحاديثِ النبويةِ فى أَبْهَى صورةٍ تليقُ بها وبقدسيتِها عند المسلمين؛ فعملتْ على تطويرِ أفضلِ الحروفِ المطبعيةِ عن طريقِ ترقيمِ الحروفِ التى اسْتُخْدِمَتْ فى طبعة الملك فؤاد للمصحف الشريف التى لا تزال تعتبر قمة التصفيف والطبع العربى، وليس هذا فحسب بل تمكنتْ من إضافة حوالى أربعمائة من الروابط الأخرى التى لم تكن متوفرة للقائمين على طَبْع مصحف الملك فؤاد بسبب القدرات الفنية المقيدة فى عصرهم الخاصة باستخدام تقنية الرصاص المذاب السائدة آنذاك.

فقد انتقتِ الجمعيةُ فريقًا من خبراء الخط العربى من أجل تطوير هذه الحروف وتحسين أشكالها وهيئاتها المختلفة مع ترقيمها؛ فأدتْ هذه الجهود المخلصة إلى الرقى بعلم الطبع والتصفيف العربى إلى قمم جديدة من الجودة والجمال؛ ولذلك تفخر الجمعيةُ بأن مجموعة الحروف المطبعية المتوفرة لديها الآن تتضمن أشكالًا وهيئاتٍ تجعل النَّصَّ أشدَّ وضوحًا، وأكثرَ قُرْبًا من قواعد الخط العربى، وهذه ميزة عظيمة تَفَرَّدَتْ بها مطبوعاتُها القيمةُ عن غيرها من المطبوعات الأخرى المحلية والإقليمية حتى صارت تضاهى بها أجمل المخطوطات والكتب القديمة، وفى الوقت نفسه لا تقل جودةً عن أفضل المطبوعات العالمية.

ولم تقتصر عناية الجمعية بمطبوعاتها من كتب الحديث على تطوير الخط وتحسينه فحسب، بل امتدت إلى تزيينها بأجمل الزخارف الإسلامية المستوحاة من زخارف مخطوطات التراث الإسلامى الرائعة.

وكذلك وَفَّرَتْ أَفْخَمَ أدواتِ الطباعةِ المتمثلةِ فى الورقِ والأحبارِ والزخارفِ والتجليدِ لدى أَرْقَى المطابعِ العالميةِ.

ثانيًا: مرحلة الإعداد للنشر الإلكترونى:

شرعت الجمعية بعد الانتهاء من تحقيق هذه الكتب فى التعامل معها آليًّا وإلكترونيًّا من خلال التعاون بين باحثى مشروع السنة وفريق الفَنِّيين المتخصصين فى مجال هندسة الكمبيوتر والبرمجيات التابعين لها؛ فقد أنشأت الجمعية قسمًا مختصًّا بهندسة الكمبيوتر والبرمجيات ليكون من وظائفه إنشاء برامج متطورة تمكن باحثى مشروع السنة من فهرسة نصوص كتب الموسوعة وتصنيفها تصنيفًا نوعيًّا يُضَمُّ فيه الشبيه إلى شبيهه، والنظير إلى نظيره، ثم معالجتها آليًّا لعمل نشرة إلكترونية متميزة لها تحتوى على جميع نصوصها وعلى مجموعةٍ متنوعةٍ من الفهارسِ الخادمةِ للمتونِ والأسانيدِ أيضًا.

فقد سُخِّرَتْ إنجازاتُ العلمِ الحديثِ، وطُوِّعَتْ تكنولوجيا العصر فى جمعِ السُّنَّةِ المرويةِ إلينا بالأسانيدِ فى صورة إلكترونية أيضًا، وفهرستُها، ووضعُ البرامجِ التى تُتِيحُ استرجاعَها والربطَ بينها حتى يتمكنَ الباحثُ مُحَدِّثًا كان أو فقيهًا من استحضارِ المروياتِ المختلفةِ بأسانيدِها دفعةً واحدةً، وحتى يتمكنَ طالبُ علمِ الحديثِ خاصةً من الاستفادةِ من سرعةِ استرجاعِ المعلوماتِ فى دراسةِ الأسانيدِ والمتونِ.

وهذه بعض مزايا محركات البحث الإلكترونى التى تتميز بها هذه النشرة الإلكترونية:

1- تمكين الباحث من الوقوف على جميع الآيات الواردة فى الأحاديث مع تحديد موطن هذه الأحاديث فى كتب الموسوعة، وهذه ميزة عظيمة تفيد فى عمل البحوث الخاصة بالتفسير.

2- تمكين الباحث من الوقوف على جميعِ طُرُقِ وألفاظِ الحديثِ فى مظانه دون مشقة أو كبير وقت؛ وذلك عن طريق رقم التحفة، أو البحث فى النص، وهذا أَمْرٌ ذُو فوائدَ جمةٍ؛ فَبِهِ يُعْرَفُ حَالُ الحديثِ من حيث الصحةُ والضعفُ، وذلك لأهل هذا الشأن، وَبِهِ أَيْضًا تَسْهُلُ المقارنةُ بين ألفاظِهِ ومعرفةُ زيادةِ بعضِ الرواةِ على بعضٍ ومعرفةُ المُدْرَجِ فى الحديثِ من ألفاظِ الرواةِ، وغير ذلك من مزايا تخريج الحديث.

3- تمكين الباحث من الوقوف على جميعِ مروياتِ أَىِّ رَاوٍ مِنْ رواةِ الأحاديثِ الواردةِ فى الموسوعة فى جميع الكتب التى تشتمل عليها؛ مما يَتَرَتَّبُ عليه سهولة عمل دراسة عن الراوى ومروياته ومنهجه فى الرواية، وليس هذا بالأمر الهَيِّن؛ فقد رَأَيْنَا كثيرًا من الرسائل العلمية المُقَدَّمَة للحصول على الدرجات العلمية الرفيعة تُعْنَى بِجَمْعِ مروياتِ رَاوٍ واحدٍ؛ ومِنْ ثَمَّ يَسُرُّنَا أن نُخْرِجَ هذه الموسوعةِ الحديثيةِ؛ حيث إنها تُمَكِّنُ أَىَّ باحثٍ من الوقوف على مروياتِ الآلافِ من الرواة بسهولةٍ ويُسْرٍ، وقد استلزم توفيرُ هذه الميزةِ العظيمةِ منا جهدًا كبيرًا متواصلًا لعدة سنين تحت إشراف نخبة من المتخصصين فى علم الحديث.

4- تمكين الباحث من الوقوف على شيوخِ وتلاميذِ أَىِّ رَاوٍ من الراوة مع ذِكْر مواطن الرواية، وليس مجرد الإشارة إلى الرواية فَحَسْبُ؛ وذلك من واقع الاستقراء الدقيق لأسانيد كتب الموسوعة.

5- تمكين الباحث من الوقوف على نَصِّ أَىِّ حديثٍ عن طريقِ معرفةِ أَىِّ لفظةٍ من ألفاظه؛ وذلك بالبحث فى النص، وهذا من الميزات المذهلة فى عالم الكمبيوتر؛ إذ البحث فى نصوص الكتب لا يستغرق إلا ثوانى معدودة.

6- تمكين الباحث من البحث عن لفظة معينة ومعرفة عدد مرات ورودها فى هذه المصادر؛ فعلى سبيل المثال يمكن تَتَبُّعُ لفظةٍ غريبةٍ مثل الحنتمة والنقير، أو مصطلحٍ فقهىٍّ مثل المزابنة والمحاقلة، أو مكانٍ مثل المدينة ومكة، أو قبيلةٍ مثل أسلم وغفار، وهذا مجال اهتمام كثير من الباحثين.

7- تسهيل جَمْع الأحاديث والآثار التى وردتْ فى موضوع واحد؛ مثل الأحاديث والآثار التى وردتْ فى الحج مع إمكان جَعْلها فى مكان واحد بحيث يستطيع الفقيه أن ينظر فيها مجتمعةً؛ وَمِنْ ثَمَّ يَسْهُل عليه استنباط الأحكام منها.

8- إمكان جمع كلام أئمة الجرح والتعديل على الرواة جرحًا وتعديلًا، وحصر أسمائهم وأسماء الرواة المُتَكَلَّمِ عليهم فى جميع كتب الموسوعة أو فى كتاب معين منها، وهذه ميزة عظيمة؛ فهذا الكلام على نفاسته قد لا يوجد فى كتبِ الجرحِ والتعديلِ المعنيةِ بإيراده أساسًا إضافة إلى ذلك يصعب الوقوفُ عليه فى كتبِ السُّنَّةِ لتفرُّقه فيها دون ترتيب معين؛ ولذلك يُعَدُّ جمعُهُ فى هذا الفهرس وتسهيلُ الوقوفِ عليه مَغْنَمًا كبيرًا يساعد على الوصول إلى الدقة فى الحكم على الرجال جرحًا وتعديلًا وعلى الأحاديث تصحيحًا وتضعيفًا.

9- إمكان عمل معجم للقبائل والفرق والجماعات التى وردتْ فى كتب هذه الموسوعة.

وختامًا: أرجو أن أكونَ بهذا البحثِ المتواضعِ قد لَفَتُّ أنظارَ العلماءِ والباحثين إلى الجوانب المختلفة لمنهج جمعية المكنز الإسلامى فى تحقيقِ كتبِ السنةِ النبويةِ ونشرِها، واللهَ أسألُ أن ينفعَ به كاتبَهُ وقارئَهُ وسامعَهُ، إنه ولىُّ ذلك والقادرُ عليه، والحمدُ للهِ أولاً وآخِرًا، وصلى اللهُ على سَيِّدِنَا محمدٍ وآلِهِ وصحبِهِ أجمعين.