التدخل فى النصوص بين المحدِّثين والمحْدَثين
أ.د. فيصل عبد السلام الحفيان
أستاذ علم المخطوطات
ومدير معهد المخطوطات العربية بالقاهرة
العودة لصفحة المؤتمر
بسم الله الرحمن الرحيم
ربى اشرح لى صدرى، ويسرى لى أمرى، واحلل عقدة من لسانى.
نعتنى السيد رئيس الجلسة بأننى من المشتغلين بالحديث؛ لكنه صدق، فعلى الرغم من أننى لم أشتغل أو لست منتسبا إلى علم الحديث، لكننى لا بد أن أشير إلى أن علم الحديث ليس علما من علوم الإسلام؛ لكنه علم أسس منهج العلم الإسلامى كله، فكل من تعاطى علما من علوم الإسلام فهو مدين للمحدثين ولأهل الحديث، فإذا ما انتقلنا إلى التحقيق فنحن أكثر اتصالا بعلم الحديث، لأننى أقول دائما إن علم التحقيق كله ولد من رحم علم الحديث.
والقضية التى أريد أن أعالجها قد لا تجدون فيها شيئًا كثيرا من علم الحديث؛ لكنها متصلة بالحديث والتحقيق، وهى قضية التدخل فى النصوص، أولا لا بد من التأكيد على أمر مهم، فالنصُ عند علماء المسلمين حرمٌ، بمعنى أنه (ولد صحيح)، فالمؤلف أو صاحب النص حين يؤلف كتابا إنما يقتطع قطعة من نفسه ومن جسده فى هذا الكتاب، ولذلك فالنصُ ولدُ المؤلف العقلى، لكننى أريد أيضا أن ألفت الانتباه إلى أن النص - فيما أرى - هو شىء خيالى، أى ليس شيئًا يمكن أن نمسك به، لماذا؟ لأن النص فى جوهره عالق بعقل صاحبه أو على لسانه، فإذا ما حاولنا أو حاول صاحبه أن يخرجه من عقله، أو ينقله أحد من لسانه، فقد أصبح فى مهب الريح، أصبح عرضة للتغيير والتبديل وربما العبث، كأن النص هو ذاك الشىء - كما قلت - الخيالى الذى هو مستكن فى عقل صاحبه أو على لسانه.
أما فى عقل صاحبه فهو فكرة بكر، وأما فى لسانه فهو قادر على أن يدافع عنه، أو أن يصححه، أو أن يضبطه، لكن بمجرد أن ننتقل من حركة العقل إلى حركة اليد - حتى ولو كانت يد صاحبه - فنحن لا نأتمن يد المؤلف نفسه على نصه؛ لأن النص عندما يريد أن يتحول إلى كلمة مكتوبة يصبح مؤلفه ناسخا، يجوز عليه ما يجوز على النساخ من الخطأ والتحريف والتقديم والتأخير والزيادة والاضطراب، وكل العيوب النسخية، وهذه النقطة شديدة الأهمية، فالنص فى جوهره - بغض النظر عن الإبرازات والمسودات والإخراجات – لا بد أن يكون ثابتا بصورة من الصور، ومهمة المحقق هى أن يصل إلى هذا الثابت، لكن كيف يصل إليه؟ يصل إليه عبر النُّسخ، وهى بطبعها ليست النص، فكل النسخ ليست النص، أى نسخة مهما ارتفع قدرها وعلت قيمتها (قِدم، اكتمال، خط عالم، خط المؤلف) هى ليست النص؛ بل هى صورة من صور النص، هى تجلٍ من تجليات النص، ولذلك على المحقق أو الذى يريد أن يتعامل مع النصوص أن يدرك هذه الحقيقة، وهى أن النص شىء متعالٍ، وأن علينا أن نصل إليه، وأن نبذل كل الجهد حتى نستطيع أن - كما يقول عبد السلام هارون - نصل إليه أو نقارب الوصول إليه، تلك هى طبيعة الدرس التاريخى أصلا، فالدرس التاريخى لا يمكن أن تصل فيه إلى حقيقة قاطعة، إنما تستطيع أن تقارب الحقيقة، أو أن تقترب منها، إنما أن تمسك بها، أو أن تقبض عليها فهذا أمر دونه كما يقولون (خرط القتاد).
ولعل جذور قضية التدخل التى أشرنا إليها نستطيع أن نردها إلى مسألة الرواية بالمعنى، فالعلم إما أن يكون شفاهةً، وإما أن يكون مكتوبًا؛ لكنه كما نعلم جميعا بدأ شفاهةً، والخلاف بين المحدثين وأهل الحديث حول جواز الرواية بالمعنى، وبالطبع كلكم تعرفون أن الخطيب البغدادى خاصة فى (الكفاية فى علم الرواية) له كلام طويل وأبواب كثيرة تكلم فيها عن مسألة الرواية بالمعنى، تجوز، أو تجوز مقيدة إذا لم يكن كلام الرسول، لا تجوز أصلا الرواية بالمعنى.
والحديث خرج من فِى الرسول صلى الله عليه وسلم، فكل من ينقله لا بد أن ينقله بألفاظه مع الخلاف الذى أشرنا إليه، كأن قضية التدخل فى النص هى قضية الراوى أو السامع للحديث من الرسول صلى الله عليه وسلم، والخوف من أن يغير اللفظ أو أن يستبدل بلفظ لفظا أو أن يقدم أو أن يؤخر، كل هذه الأمور هى فى جوهرها فكرة التدخل فى النصوص من غير صاحب النص، وهنا لا بد أن نفرق أيضا بين التدخل بالمفهوم الذى أريده وبين التعديل، فالتدخل هذا تدخل الخارجى، سأقول لكم تعريفا أقترحه (عندما يتدخل صاحب النص فى النص فهو ليس تدخلا؛ لأن التدخل بطبيعته لا بد أن يكون خارجيا من طرف آخر غير الذى أنتج المعرفة)، لذلك نحن نسمى تدخلات أو تغييرات المؤلف بأنها تعديلات من صاحب النص، إنما عندما يكون الطرف الآخر خارج المؤلف فهو الذى نريد به التدخل فى النصوص.
نحن لا نتكلم عن النص، فالنص باختصار لا بد أن نضبطه فيما يتصل بالتحقيق، هو الفقر أو الجمل أو الكلمات الأصلية التى يكتبها، ولا بد أن نفرق هنا أيضا فى نقطة منهجية بين النص الشفهى والنص المكتوب، فالنص الشفهى لا يحقق بل يُضبط، إنما النص المكتوب هو الذى يُحقق، لأن له نسخا، فصاحب النص اختفى أو ما عاد بإمكاننا الوصول إليه، وأصبح علينا الاعتماد الآن أن نذهب إلى النسخ لكى نستنطقها، ونجعل منها ليس نصا وإنما شيئا مقاربا للنص الذى أراده المؤلف.
قد استخدمت فى العنوان (التدخل فى النصوص) لكن بعض الناس يستخدمون مثلا كلمة متن، وهى تحيل على الشرح، على الحاشية، على التعليق مثلا، إنما النص قد يكون شرحا، وقد يكون تعليقا، وقد يكون حاشيةً، (فالنص) هى الكلمة المقصودة هنا فى العنوان الذى اخترته، لذلك المدخل الحقيقى لفهم كلمة (النص) هو المدخل التحقيقى أو الكوديكولوجى والفيلولوجى، لغةً وتحقيقًا، النص فى مقابل الوعاء، وليس النص فى مقابل الحاشية، أو فى مقابل التعليق، أو فى مقابل ألفاظ أخرى.
إن النص باختصار فى هذا المعنى هو الكتاب، فعندما نتكلم عن التدخل نتكلم عن التدخل فى الكتب أى فى النصوص اليوم، وقضية التدخل هى قضية مركبة، لها بُعد تاريخى، ولها بُعد شديد العصرية؛ لأن كل الذين يتعاملون اليوم مع النصوص لا بد أن ينتبهوا إليها ويتنبهوا إلى مسألة: كيف نتعامل مع النصوص؟ بحيث نقاربها أو نحاول أن نصل إليها.
إن مصطلح الكتاب الذى تكلمت عنه واحد من المصطلحات التى نستخدمها للتعبير عن النص أو لتوازى النص، وهناك ثراء كبيرًا فى اللغة العربية فى هذا الاتجاه، لكن كل مصطلح يحيد على معنى من المعانى، قد نستخدم مثلا كلمة (ملخص، خلاصة) فيكون المعنى الذى نحيل عليه هو معنى الاختصار؛ لكن هناك معنى آخر معنى الكمال، إذا أردنا أن نعبر عن الكتاب بأنه مكتمل نقول (الأصل، الجامع، الأم، المطولة، المرصود، المدون)، وكذلك معنى الاختيار نقول (المختار، التهذيب، النقاية، التخريج، الزبدة)، معنى التعليق العلمى أو المنهجى (الشرح، التفسير). وقد يترافق مع الشرح والتفسير ما يحيل على الحجم أو الطول (الشرح الكبير، البسيط، الوسيط، الأوسط، الصغير(.
كل هذه دلالات تحيل على معنى النص ولكن من زاوية أو من رؤية مختلفة، فمعنى الصغر أو القلة (نبذة، ونكتة، وعجالة، ومقالة، ومجلة)، ومعنى الهيئة التى أُدى بها النص (الأمالى) مثلا، ومعنى التنظيم (التجريد، والترتيب)، ومعنى الشيوع (كناش، كشكول، تذكرة)، ومعنى الإلحاق (التكميل، والتكملة، والتتميم، والتتمة، والزيل أو التزييل)، ولربما كانت الإحالة فيما يوازى كلمة النص هى (العلم)، وهذا أيضا فضل من أفضال أهل الحديث، عندما نقول المصنَّف، وعندما نقول المسند، الجزء، هذا أيضا عَلَم على ذلك الكتاب بهيئة مخصوصة، وبمنهج مخصوص الذى يؤلَّف فى علم الحديث، ولربما دل المصطلح على المناسبة، كما نقول مثلا (هذا الكتاب الختم) الذى يُختم به قراءة كتاب مهم أو كتاب عظيم مثل صحيح البخارى.
فعندما نتعرض لمسألة التدخل لا بد أن نستصحب معنا مسألة مستويات النص التى أشرت إليها، فهناك مستوى الدستور الذى هو مُبيضة المؤلف، ومستوى المسودة التى أشار إليها الدكتور حاتم العونى، فالمسودة لها قيمة عالية، دعك من كلمة مسودة التى قد توحى لنا بأنها مثلا مسودة وليست مبيضة، وهناك كُتب بخطوط العلماء المدققين، وهناك كُتب أو نصوص قُرأت على المؤلفين، وهناك نسخ فاسدة رديئة محشوة بالأخطاء، هذه تجرِّئك على التدخل عليها. لذا لا نستطيع أن نتعامل مع النصوص على أنها مستوى واحد، لا بد أن ننظر إليها على أنها مستويات، وأن علينا أن نتعامل مع كل مستوى بما يليق به وما يناسبه.
وهناك تفصيلات كثيرة فيما يتصل بهذا الأمر، لكنى أعود إلى مصطلح التدخل الذى أشرت إليه، هل نجد هذا المصطلح فى كتب أو فى معجمات مصطلحات المخطوطات؟ لا نجده، فهو مصطلح غير موجود لدينا، أما الآن فقد أصبح يشيع أو يستخدم كثيرا، لكن لو رجعنا إلى معجم مصطلحات المخطوط الذى قام به الدكتور شوقى بنبين أو إلى المعاجم التى – نحن - نشرناها فى معهد المخطوط لن نجد هذا المصطلح، تُرى ما هو سلف هذا المصطلح عند قدمائنا علماء الحديث؟ إن مصطلح السلف الذى كان مستخدما هو مصطلح (الإصلاح) فهو يتردد على ألسنة العلماء (القاضى عياض، والخطيب، وغيرهم) لكن هذا المصطلح فى الحقيقة ليس دقيقا، فهو مصطلح فضفاض إلى حد ما، فلا يؤدى الوظيفة الحقيقية التى نريدها اليوم من تدخل المحقق أو تدخل مَن يتعامل مع النص تدخلا لا يصح، فكلمة (الإصلاح) التى استخدمها القدماء ربما تحيل على معنى إيجابى، نحن لا نريده أو لا يمكن توظيفه اليوم التوظيف السليم، لكن يمكن أن نربط بين مصطلح التدخل ومصطلح موجود فى مصطلحات المخطوطات وهو مصطلح (التخمين)، وهو يمثل التقديرات التى يفترضها المحقق أو من يتعامل مع النص لإقامة النص، سواء أكان بكلمة أو بجملة أو بزيادة أو إلى آخره، كل هذه الأشياء التى نعرفها.
كما يمكن أن نربط أيضا بين مصطلح التدخل ومصطلح التخمين، على أن التدخل فعل والتخمين أداة أو آلة، وهذا ما يحيل عليه الذين نَظَّروا لعملية التحقيق بما يسمى علم احتمالات النصوص، علم احتمالات القراءات المختلفة للنص.
قد تكون هناك كلمة أو هناك سياق معه يُشكل أو يلتبس على القارئ، أو لا يتجه له فهمه، فيكون أمامه ثلاثة خيارات:
- الخيار الأول: التورع عن دخول حرم النص وإبقاء النص على ما هو عليه والسكوت عنه. وهنا لا تخمين ولا تدخل.
- الخيار الثانى: الإبقاء تورعًا، لكن مع الإشارة - وهذا ما استخدمه القدماء - إلى ما دار فى خلد المتعامل مع النص من ظن أو شك أو تردد، والتعبير عن ذلك بالمختصرات التى نعرفها والتى يشار إليها فى كتب الحديث وكتب التحقيق، وهذا نوع من التدخل القائم على التخمين السلبى، فيكتفى بإثارة الشك لكنه لا يجاوزه إلى التدخل الفعلى.
- والخيار الثالث: وهو الجرأة على النص واستبدال حرف أو كلمة أو جملة معتقدا أن فعله هو الصواب، وأن الحرف الذى اقترحه هو الذى يحل إشكال السياق ويزيل الالتباس ويقيم الفهم.
وبناءً على هذا الخيار الأخير يجرى ما جرى على الخيارين السابقين من السكوت أو التصريح، وليس أسوأ أو أقبح من السكوت، من أن تغير أو تتدخل دون أن تصرح، دون أن تقول أنا فعلت كذا، هذا أسوأ أنواع التدخل الذى يمكن أن يقع فيه المحقق أو المتعامل مع النص؛ لأن فيه اعتداءً على النص وعلى صاحبه.
وإذا أردنا أن نعرِّف (التدخل)، أو أن نضع له تعريفا أوليا غير ناضج - يعنى أنا أقترحه - أن التدخلَ فعلٌ (أى عمل فعلى) خارجىٌ ليس من المؤلف فى داخل حرم النص. يقل الخوف من التدخل كثيرا إذا ما كان فى الحاشية، إنما فى المتن أو النص نفسه - كما قلت فى البداية هذ - حرب، فالتدخل فعلٌ خارجى واعٍ، لماذا واع؟ لأننى أريد أن أخرج تلك التصحيفات من النسَّاخ والتحريفات والتقديم والتأخير والزيادة وكل هذه الأمور، فهذه ليست تدخلا لأنها ليست داخلة عن وعى وتعمد. وقلت (داخل حرم النص) لإخراج الحاشية. ثم هناك إضافة على هذا التعريف هى (سواء أصاب أم أخطأ) فالتدخل نفسه فعل مذموم فى التعامل مع النصوص سواء أصاب الحق، أو أخطأ فيه؛ لأن النص حرم.
وهنا نقطة منهجية أخرى لا بد أن نشير إليها، أننا فى الدرس التاريخى تحديدا الذى لا نراه بأعيننا - يعنى كل ما ينتمى إلى علم التاريخ ومنه التحقيق والتعامل مع النصوص – إننا لا نسعى إلى الصحة ولا إلى الصواب؛ بل نحن نسعى إلى الصدق، وهناك فرق بين صحة الشىء وصوابه وبين صدقه، فى التاريخ نحن نريد الصدق، عندما يخطئ المؤلف فليخطئ، لا نصححه ولا نفتئت عليه، ولا نغير صورته التاريخية، تماما كما الحدث، هل أنا أريد حدثا على هواي مثلا؟ المعركة الفولانية خسرناها، لأننى أحب أن أكسب، أغير النتيجة وأقول أنا الذى كسبت، أنا أريد المحقق مؤرخًا، فالمحقق فى النهاية يريد استعادة الصورة الأولى التاريخية للنص كما هى دون تحسين ولا تجميل ولا إضافات ولا تغيير، هذه هى فلسفة الرؤيا التى ينبغى أن ننطلق منها ونحن نتعامل مع نصوصنا التراثية، فالمحقق المجيد والمحقق الحق هو ذلك الذى يستعيد الصورة الصادقة، لا الصحيحة، ولا الصائبة، أو لنقل المصححة أو المصوبة.
بين يدى فى الأيام الأخيرة كتاب لأستاذنا الدكتور بشار عواد معروف حول تحقيق النصوص بين أخطاء المؤلفين وإصلاح الرواة والنساخ والمحققين، أثار دهشتى فى الحقيقة، كيف تجرأ الناس فى القديم على إصلاح النصوص والتدخل فيها؟ ليس إصلاحا، بل إفسادًا، عندما يتصل الأمر بتغيير الصورة التاريخية نكون أمام إفساد لا تصحيح، لأن التصحيح مكانه فى الحاشية، مكانه فى الدرس، وليس مكانه فى النص.
هل فكر المحدثون تفكيرا نظريا فى مسألة التدخل فى النصوص؟ قد تتبعت كتب المحدثين الذين تناولوه، وأستطيع أن أقول - بشىء ربما من عدم الاستيعاب - أن المحدثين لم يفكروا تفكيرا نظريا، بمعنى أن يكون التدخل مقصودا قصدا بالدرس، إنما فكرة التدخل جاءت فى تضاعيف كلامهم عن التصحيح والتضبيب وكل هذه الإجراءات التى تتم فى أثناء عملية النسخ، ولذلك نحن نلاحظ أنهم لم يفردوا لها مصنفات ولا رسائل، ولم يعقدوا لها بابا.
قد تتبعت الأبواب التى جاءت فى الكفاية والتى جاءت فى مشارق الأنوار، والتى جاءت فى الكتب الأخرى، حتى فى كتب آداب العلم والتعلم للعلموى وغيره، لم يعقدوا لها فصلا؛ بل كانت دائما - كما قلت - فى تضاعيف كلامهم.
بالطبع لدينا عدة مواقف قديمة من التدخل فى النصوص، عندنا القاضى عياض، وهو رجل له موقف واضح، وموقفى ربما كان مثل موقفه، لذلك هو يقول ويستخدم ألفاظ شديدة القسوة: "لهذا قد شاهدنا من الإصلاحات لمثل هذا لبعض المتجاسرين، وأكثرهم من المحْدَثِين والمتأخرين، ما الصواب فيما أنكروه، وعين الخطأ ما أصلحوه" فهو يعرِّض باثنين بابن وضاح وبأبى الوليد الوقشى، وهو أستاذه، كأن الوقشى كان شديد الجرأة على النصوص اعتزازا بعربيته، رجل متمكن فى اللغة، ودائما ما تأتى المشكلة من أهل اللغة مثلى، يغترون بلغتهم ويظنون أن النص لغة، صحيح أن النص لغة لكنه معرفة أيضا، ولا بد من الربط دائما بين النص اللغوى والنص المعرفى، تعرفون أن معظم الذين حققوا النصوص فى القرن الماضى هم لغويون، حققوا فى الفلاحة، وفى التاريخ، وفى الكيمياء، قدرتهم اللغوية دفعت بهم فى ظل غياب أولائك الذين يعرفون أو متخصصين فى المعارف الأخرى التى ينبغى أن تكون جزءا، لذلك فالتحقيق لا بد أن يقوم على ساقين، ساق اللغة من ناحية، والساق الأخرى هى المعرفة الموضوعية، الحقل المعرفى، العلم الذى ينتمى إليه النص، فإذا ما كُسِرت ساق فإن قدرة التعامل مع النص لن تكون كما ينبغى، أو لن تكون بالجودة المطلوبة.
يقول السخاوى فى (فتح المغيث) عن الوقشى "إذا مر به شىء لم يتجه له وجهه أصلحه" وأنا قلت لكم أن كلمة (الإصلاح) هى سلف كلمة (التدخل) ".. بما يظن اعتمادا على وُثوقه بعلمه فى العربية واللغة وغيرها، ثم يظهر أن الصواب ما كان فى الكتاب، وأن ما غيَّره إليه خطأ فاسد".
وأنا أحب عياضًا، لذلك اسمحوا لى أن أقتطف أو أقتبس عبارته مرة أخرى، "أما الجسارة فخسارة" هذا كلامه فى (مشارق الأنوار)، وما قلته قبلُ كان فى (الإلماع) يقول "فكثيرا ما رأينا مَن نبَّه بالخطأ على الصواب فعكس الباب، ومن ذهب مذهب الإصلاح والتغيير فقد سلك كل مسلك فى الخطأ، ودلاه" اقتباسًا من القرآن "ودلاه رأيه بغرور"، وقد وقفت على عجائب فى الوجهين.
والسبكى - ليس صاحب الطبقات والده - حقق نقلة مهمة، عندما أكد أو نصح المؤرخين فى أنهم عندما ينقلون مقتبساتهم من المراجع نقلا حرفيا، لا بد أن ينقلوها نقلا حرفيا، إنما الاختصار والاقتضاب فيعتبر نوعا من التصرف فى النص، كأن عياضا يمثل تمثيلا قويا المحافظين على حرمة النص من أى تدخل مهما هان.
وكذلك يسير البدر الغزى صاحب (الدر النضيد) مع عياض فيقول "لا يجوز أن يصلِحَ كتابَ غيره بغير إذن صاحبه"، بهذا أضاف قيد الإذن، أما العلموى معاصره صاحب (العقد التليد فى اختصار الدر النضيد) يوافق البدر لكنه يزيد على ذلك بقوله - يريد طبعا عدم جواز الإصلاح إلا بإذن صاحب الكتاب - "هذا محله فى غير القرآن، فإن كان مغلوطا أو ملحونا فليصلحه". وهناك نقطة مهمة تذهب بنا بعيدا إلى مسألة الخط عندما يضيف "غاية ما فى الباب إن لم يكن خطه مناسبا فليأمر من يكتب ذلك بخط حسن" ويضيف "ولا يحشيه، ولا يكتب شيئا فى بياض فواتحه أو خواتمه إلا إذا علم رضا صاحبه" يريد أن يدع الكتاب كما هو.
من الذى يقف فى مواجهة هؤلاء الذين هم بين متمسك بحرمة النص وبعض الاستثناءات القليلة التى لا تضر، ابن جماعة البدر صاحب (تذكرة السامع والمتكلم) هو لم يتعرض لمسألة التدخل تعرضا مباشرا؛ لكنه فى سياق حديثه عن جواز النسخ من الكتاب الموقوف على من ينتفع به غير معين، يقول "ولا بأس بإصلاحه ممن هو أهل لذلك".
فى ذهنى أن هناك مشكلة بين المواقف النظرية والأعمال الإجرائية، هذه التى أشرت إليها هى الأعمال والمواقف المبدئية أو النظرية لعياض والعلموى وغيرهما؛ لكن ماذا نفعل مع تلك الأخطاء الكثيرة التى أصلحها القدماء، والتى رصدها الدكتور بشار عواد، وهى متنوعة تنوعا كبيرا ، وقد أحصيت منها أنواعا كثيرة وأنا أقرأ الكتاب، ماذا نفعل؟
أنا بالطبع قفزت على أشياء كثيرة، وربما لم تتضح الفكرة كاملة، وأدعو من هنا أن نولى مسألة التدخل ووضع ضوابط، والربط بمستويات النصوص، وأمور كثيرة لا بد أن تكون واضحة اليوم فى صورة بحوث، ليس لدينا - فيما أعرف - إلا بحثان، بحث نُشر فى المغرب عند الدكتور الطبرانى فى تطوان، من أحد الباحثين محمد أمين المؤدب كتب بحثا عن (إشكال التدخل فى النصوص)؛ لكنه أضاع نصف البحث فى التمهيد لأهمية علم التحقيق، وخلط بين التدخل الذى يفيده اللفظ وبين إجراءات التحقيق. وهناك بحث أظنه سيُلقى غدا فى الإمارات أيضا حول (حدود المحقق فى التدخل فى النصوص) لباحث أردنى اسمه أنور أبو سويلم، إذًا نحن محتاجون إلى أن ننظر فى هذا، ليس فقط من باب الترف الفكرى؛ ولكن من باب أن نجعل الشباب الكثير اليوم المتجهين إلى التراث يعرفون كيف يتعاملون مع النصوص، ما هو المسموح به، وما هو غير المسموح به؟ أين المزالق والمضائق التى ينبغى أن يبتعدوا عنها حتى يؤدوا أمانة التعامل مع هذا التراث العظيم الذى ننتمى إليه؟
شكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
العودة لصفحة المؤتمر