كتب غريب الحديث واللغة ودورها فى ضبط متون الحديث الشريف
أ.د. ياسر محمد شحاتة دياب
أستاذ الحديث بكلية أصول الدين - طنطا
العودة لصفحة المؤتمر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى امتن فخلق، وتكرم فعَلَّم، عَلَّم بالقلم، عَلَّم الإنسان ما لم يعلم
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ *** عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ القُرُونَ الأُولَى
أَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا *** وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا
وَفَجَرْتَ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا *** فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا
اللهم صل وسلم وبارك على خير مُعلَّمٍ ومُعلِّم، سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وأحبابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، ويسر لنا العمل بما علمتنا، وأوسعنا شكر ما آتيتنا، وأنهج لنا سبيلا يهدى إليك، وافتح اللهم بيننا وبينك بابا نفد منه عليك، لك مقاليد السماوات والأرض، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
أما بعد،
المنصة الكريمة رئيسًا وأعضاءً، الجمع الكريم الطيب من الحضور من سادتنا العلماء، وأساتذتنا الأجلاء، والأحبة من الزملاء والأبناء.
أحمد الله أنى جئت فى ترتيبى، فاسمى يبدأ بحرف الياء، وهى آخر حروف الهجاء، وأسأل الله أن يكون حظى كبيرًا معكم من اسمى، فأُيَسِّر عليكم ولا أطيل.
وشأن الابن الأخير من أبناء الرجل أن يكون مدللا، وأريد أن أحظى بالتدليل منكم، فاعذرونى على أى تقصير أو قصور فى البحث، فقد أتى على عجل فى موضوع مهم للغاية، وهو يتعلق بكَلِم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى نعطى لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حقه من خلال ما كتب العلماء الكرام فى كتب الغريب واللغة، لا بد من تقرير أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه من حلاوة [وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا] (النساء 113)، ومن طلاوة [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْى يُوحَى] (النجم 4) ما يجعه فى الذروة العليا من الفصاحة والبلاغة والبيان.
فقد قال أديب العربية الجاحظ قديمًا عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلام حُفَّ بالعصمة، وشُيِّد بالتأييد، ويُسِّر بالتوفيق، وهو الكلام الذى ألقى الله عليه المحبة، وغشَّاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام".
وكذلك يقول أديب العربية الحديث الرافعى "إن خرجت الموعظة قلتَ: أنين من فؤاد المقروح، وإن راع بالحكمة قلتَ: صورة بشرية من الروح، فى منزع يلين فينفر بالدموع، ويشتد فينزو بالدماء، وإذا أراك القرآن أنه خطاب السماء للأرض، أراك هذا أنه كلام الأرض بعد السماء"، ولا عجب، فألفاظ النبوة يعمرها قلب متصل بجلال خالقه، ويثقلها لسان نزل عليه القرآن بحقائقه، فهى إن لم تكن من الوحى؛ ولكنها جاءت من سبيله، وإن لم يكن لها منه دليل فقد كانت هى من دليله.
لقد كانت الأمة العربية تتخبط فى ظلمات بعضها فوق بعض، ثم خرجت باسم الله من أوديتها المجهولة إلى مكان الريادة لسائر الأمم، فما سر هذه الصيحة فى غفلة الزمن، ورقاد الشعوب، وضلال الإنسانية؟
إنها الكلمة العربية حين صاغها الله قرآنًا معجزًا يُتلى، ونطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيًا يُروى، لقد فعلت الكلمة فِعلها فى وجدان هذه الأمة، وحولتها تحويلا خطيرًا، وكأن الله أنشأها بالكلمة إنشاءً.
إن هذا الفيض الروحى للكلمات هو الذى أحدث هذا الهدم فى داخل النفس الجاهلية، وهو أيضًا الذى أحدث هذا البناء الجديد، والتكوين النقى لهذه النفس، وما ثَمَّ أداة استخدمها الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك إلا بيانه العالى، وأسلوبه الراقى الذى طرق به الأسماع فأصغت له، ومس به أغشية القلوب فرقت له، ففعل بها فعل السحر وما هو بساحر.
ولما كانت كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه المنزلة وتلك المكانة، فقد بذل علماء الأمة منذ عصر الصحابة الكرام - وحتى يومنا هذا - جهودا ضخمة فى سماع الحديث وحفظه، وتبليغه وروايته، وتدوينه وتصنيفه، مع الحرص الكبير والعناية التامة بتحرير ألفاظه وضبط كلماته، وتمييز صحيحها من مُصَحَّفها، وما رُوى باللفظ عما رُوى بالمعنى، وهكذا تباينت الجهود حتى استوعبت كل العلوم التى تقوم على خدمة السنة إسنادًا ومتنًا، حتى قال المستشرق الغربى مرجليوث "ليفتخر المسلمون إذا شاءوا بعلم حديثهم".
وشمائلٌ شَهِدَ العدوُّ بفَضْلِها *** والفضلُ ما شَهِدَتْ به الأعداءُ
ومن ثَمَّ كان هذا البحث حول كتب الغريب واللغة وأثرها فى ضبط متون الحديث، وترجع أهمية هذا البحث إلى عدة أمور، لن أطيل فى سردها:
أولها: إبراز عناية علماء الأمة محدثين ولغويين بخدمة النص النبوى، وبذل كل الجهود من أجل سلامته من الخطإ والوهم والتصحيف والتحريف، لإدراكهم أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم دينٌ يثبت به تحليل وتحريم وحظر وإباحة، وما كان كذلك فلا بد من التثبت فيه وتحرى صحته.
الأمر الثانى: التنبيه على أهمية منهج المحدثين فى رواية الألفاظ وتقييدها وضرورة الالتزام بهذا المنهج فى واقعنا المعاصر، والذى يقف حاجزًا منيعًا بين صيانة الحديث والإخلال به.
الأمر الثالث: أن الوقوف على جهود العلماء فى علم غريب الحديث، وضبط ألفاظ السُّنة، وترك التصحيف والخطأ عنها - يبرز عناية المحدثين وحرصهم على خدمة متن الحديث كخدمة الإسناد، ومن ثَمَّ فهذا لون من ألوان نقد المتن عند المحدثين.
وقد قسَّمْتُ البحث إلى خمسة مباحث، جاءت على النحو الآتى:
- المبحث الأول: تناولت فيه التعريف الموجز بعلم غريب الحديث وأهميته، وأسباب وجوده، وأقسامه، وأهم المؤلفات فى الغريب واللغة.
- المبحث الثانى: كتب الغريب واللغة، وعنايتها بضبط كلمات الحديث.
- المبحث الثالث: كتب الغريب ودورها فى إصلاح خطإ المحدثين فى الضبط.
- المبحث الرابع: كتب الغريب ودورها فى إصلاح خطإ اللغويين فى الضبط.
- المبحث الخامس: كتب الغريب وعنايتها فى التنبيه على التصحيف.
***
الغريب
عرفه علماؤنا الأكارم الأكابر الذين ألفوا الكثير من كتب غريب الحديث بأنه: ما وقع فى متون الأحاديث من ألفاظ غامضة بعيدة عن الفهم لقلة استعمالها، أو لكونها من كلام العرب الضاربين فى البداوة والبعيدين عن المدن والأمصار.
بهذا افتتح الإمام الخطابى كتابه فى غريب الحديث وأشار إلى هذا المعنى الموجز والمختصر.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان فى القمة العليا من الفصاحة والبيان، فمن أين أتى الغريب فى الحديث النبوى الشريف؟ تساؤل ربما يطرأ على بعض العقول والأذهان، وأسباب الغريب فى الحديث ترجع إلى أمور عدة، أُوجز البعض منها فأقول:
- السبب الأول: إحاطة النبى صلى الله عليه وسلم بلغة العرب، ولغة العرب كما قرر الإمام الشافعى لغة واسعة لا يحيط بها إلا نبى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل، اصطفاه الله للنبوة الخاتمة وعلَّمه ما لم يكن يعلم، فأحاط النبى صلى الله عليه وسلم بلغة العرب، واطلع منها على ما لم يطلع عليه غيره، حيث كان يُكلم - أو يتكلم أحيانًا - العرب بلغات القبائل المختلفة بحيث لا يفهم حتى أصحابه الذين يجلسون معه، وأحيانًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم بألفاظ لم يُسبَق إليها، وإنما أنشأها إنشاءً، كقوله صلى الله عليه وسلم "حمى الوطيس".
- وثَمَّة أسباب أخرى كثيرة ربما كثرت، وبعض هذه الأسباب يعزوه البعض إلى تفشى العجمة حين دخل الأعاجم فى هذا الدين، وخشى العلماء من تأثيرها على الألفاظ النبوية، إذ لو بقيت ربما تُفهم الأحاديث على غير ما أراد النبى صلى الله عليه وسلم، ومن ثَمَّ كانت كتب غريب الحديث.
غير أنه فى هذا الصدد ينبغى التنبيه على أمر مهم، وهو أن علماء الحديث نبهوا على أنه ينبغى أن يُتثبت فى معنى الغريب، وأيضًا فى تحليل لفظ وما يستتر وراءه من معنى، فإذا كان الله تبارك وتعالى يقول [وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] (الإسراء 17)، والنبى صلى الله عليه وسلم حذَّر من الكذب عليه فى الحديث المتواتر "من كذب علىَّ مُتعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"، فهذا يدعو الباحثين والذين يكتبون فى الحديث ويعرضون للغريب أن يتثبتوا فى التعامل مع الغريب، وهذا كان ديدن السلف الصالح والعلماء الكبار.
وقد سُئِلَ الإمام أحمد عن حرف من غريب الحديث فقال "سلوا أصحاب الغريب فإنى أكره أن أتكلم فى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظن". وقال الإمام شُعبة فى لفظةٍ "خذوها عن الأصمعى فإنه أعلم بهذا منا"؛ بل إن الأصمعى نفسه - وهو من العلماء الأقحاح فى اللغة العربية - كان يتحرج أحيانًا من تفسير الغريب، فقد سُئِل عن معنى حديث [الجار أحق بسقبه] فقال "أنا لا أفسر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن العرب تزعم أن السقب (اللزيق)".
هذا أمر أشرتُ إليه وألمحت له، وهو أنه ينبغى أن نحتاط فى التعامل مع ألفاظ رسول الله الذى حين نتحدث عن الرواة وعن الأخطاء فى الكتب؛ لكن ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم دين، يثبت به حلال وحرام وحظر وإباحة، فمن ثَمَّ ينبغى أن تثبت ثبوتًا لا يتطرق إليها شك أو اختلاف.
ومن ثَمَّ كانت عنايةُ علماء الحديث أو علماء الغريب والتعاونُ فى هذا الجانب، الكل يقوم بعمله، والكل يحرص على ضبط لفظ النبى صلى الله عليه وسلم وتحرير هذا الضبط، قد يختلفون فيما بينهم فى الضبط وفى تفسير ما يترتب على هذا الضبط، وهذا الاختلاف ليس من باب التشاكس أو التنازع أو رغبة فى الاختلاف وإظهار الذات، وإنما الكل حريص على خدمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم من رسول الله ملتمس، هذه غاية علماء اللغة الذين كتبوا فى غريب الحديث، وأيضًا غاية علماء الحديث الذين قاموا على خدمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذا كان هذا الأمر فقد كثرت المؤلفات وتعددت فى غريب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنى حتى لا أطيل على مسامع حضراتكم وأحظى بما رجوته فى البداية، أذكر أن كتب الغريب اعتنت عناية كبيرة - وكذلك كتب اللغة - بضبط كلمات الحديث، وهذا الضبط تعددت أساليبه، تارة يكون بالحروف، وتارة يكون بالعبارات والكلمات، وتارة يكون بالميزان الصرفى، وتارة بالتنبيه على أخطاء النساخ؛ حرصًا من الجميع على ضبط حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا له أمثلة عديدة فى كتب غريب الحديث وفى كتب الحديث، فمثلا مما رواه الإمامان البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [إن الله تجاوز للأمة ما حدَّثت به أنفسها، ما لم يتكلموا أو يعملوا به]، قال الإمام ابن الأثير "وأنفسها بالنصب على المفعول ويجوز الرفع على الفاعل، ورجح أبو موسى المدينى النصب"، فهذا ضبط بالإعراب، إذا كانت مفتوحةً فقد نُصبت على المفعول، وإذا كانت مرفوعة فعلى الفاعل.
ولذلك أمثلة كثيرة، عرض الإمام الخطابى فى مقدمة كتابه (غريب الحديث) قال "وأما الإعراب وما يختلف من معانى الحديث باختلافه فكقوله [ذكاة الجنين ذكاة أمه]، الرواية بضم الذكاتين على مذهب الخبر" ومن ثَمَّ لا تتعدد الذكاة للإبن وإنما ذكاته ذكاة أمه فتكفى ذكاة واحدة، وقال "وقد حرَّفه بعضهم فنصب الزكاة على مذهب الأمر" على أنه مصدر ناب عن فعل، يعنى يذكى له ذكاة أمه فيحتاج إلى ذكاتين، ذكاة للأم وذكاة للابن، قال الخطابى "وهذا يؤدى إلى قلب تأويل الحديث فيستحيل به المعنى عن الإباحة إلى الحظر".
وذكر مثالا آخر ثم فقال "ومن تتبع هذا الباب فى الحديث وجد منه الكثير، وفيما أوردت دليلا على ما أردت، فواجب على من دأب فى طلب الحديث ولهج بتتبع طرقه أن يُعنى أولا بإصلاح ألفاظه وإحكام متونه لئلا يكون حظه من سعيه عناءً لا غناء معه، وتعبًا لا نصح فيه"، والعلماء عنوا بهذا الجانب عناية كبيرة.
ومن ضبط علماء الغريب لبعض الأحاديث التى ترتبت على هذا الضبط بعض اختلاف فى المعنى، أنهم عنوا ببيان ضبط المحدثين وضبط اللغويين للكلمة، فمن ذلك ما جاء فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البخارى ومسلم من حديث أنس [كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال اللهم إنى أعوذ بك من الخبث والخبائث]، فقال الإمام الخطابى "أصحاب الحديث يروونه الخُبْث ساكنة الباء، وكذلك رواه أبو عبيد فى كتابه وفسَّره فقال: أما الخُبْث فإنه يعنى الشر، وأما الخبائث فإنها الشياطين. قال الخطابى: وإنما هو الخبُث مضمومة الباء جمع خبيث، فأما الخبائث فإنه جمع خبيثة، استعاذ بالله من مردة الجن ذكورهم وإناثهم، فأما الخبْث ساكنة الباء فهو مصدر خبث الشىء يخبث خُبْثًا، وأصل الخبْث فى كلام العرب المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار، فأما الخَبَث مفتوحة الخاء والباء فهو ما تنفيه النار من ردىء الفضة والحديد ونحوهما، وأما الخِبْثة فالريبة والتهمة، يقال هو ولد خِبْثة إذا كان لغير رِشْدة".
هذا بعض ما قرروه فى هذا الباب والأمثلة كثيرة حتى تتعلق ببعض ما ذكره بعض أساتذتنا الكرام.
أما القضية الأخرى، وهى كتب الغريب ودورها فى إصلاح خطإ المحدثين فى الضبط، فعلماء الحديث لهم عناية كبيرة جدًا بألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلماء اللغة كذلك لهم عناية بألفاظ النبى صلى الله عليه وسلم، فما العمل إذا اختلفوا فى الضبط؟ هل يبقى الحديث على ما جاء عليه وإن خالف علماء اللغة على ضبط الرواية كما جاءت؟ أم تُقبل تأويلات أو ضبط علماء اللغة للنص وضرورة إصلاحه، هذه قضية أشار أساتذتى إليها؛ لكن بحثى لا يتعلق بجانب التحقيق كما ذكروا وأفادوا وأجادوا، لكن دورى فى كتب الغريب ودورها فى ضبط الحديث الشريف، هذه القضية كتب فيها الإمام الخطابى فى كتابه (غريب الحديث) وخصها فى كتابه المستقل (إصلاح خطإ المحدثين) قال فى أول الكتاب "هذه ألفاظ من الحديث يرويها أكثر الرواة والمحدثين ملحونةً ومحرَّفةً، أصلحناها لهم، وأخبرنا بصوابها"، هذا كلامه وهو عالم كبير له فى علم الحديث وله فى علم اللغة.
لكن الإمام القاضى عياض كما ذكر فضيلة أ.د. فيصل الحفيان، وكذلك أشار فضيلة أ.د. على الصياح تحفظ على ذلك ونبَّه على أن الخطابى يؤخذ من قوله ويرد عليه، فقال "وقد نبه أبو سليمان الخطابى على ألفاظ من هذا فى جزء أيضا لكن أكثر ما ذكره مما أنكره على المحدثين له وجوه صحيحة فى العربية، وعلى لغات منقولة واستمرت الرواية به، وليس الرأى فى صدرٍ واحدًا " هذا كلام القاضى عياض، ومن ثَمَّ نجد الإمام الخطابى فى كتابه يُخَطِّئ المحدثين تارةً فى الضبط، وفيما ينتهى إليه اللفظ من معنى؛ لكن يتعقبه الإمام القاضى عياض.
سأضرب أمثلة قليلة حتى انتهى فى الوقت لكن ينبغى أن ننبه إلى أمر مهم: وهو أن دواوين السنة المشهورة المتداولة من الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم وغيرها على اختلاف أنواعها وتنوع موضوعاتها لا تكاد تجد فيها تركيبًا واحدًا يُحكم عليه باللَّحن المحض، الذى يتعين فيه الخطأ، ولا يكون له وجه؛ بل وجوه من الصواب.
أذكر مثلًا وقف عنده الإمام الخطابى فى [إصلاح غلط المحدثين]، روى الإمام البخارى من حديث جرير بن مطعم فى سهم حق ذوى القربى قال (قلت يا رسول الله ما بال إخواننا بنى عبد المطلب أعطيتهم وتركتنا وقرابتُنا واحدة؟ فقال "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شىء واحد" قال الإمام الخطابى (هكذا يقول أكثر المحدثين [شىء واحد])، ورواه لنا ابن صالح عن ابن المنذر قال (إنما نحن وهم سى واحد)، الجذر مختلف (شىء وسى)، وسى واحد أى مثل واحد سواء، وقد عقَّب الإمام الخطابى فقال "وهذا أجود يقال هذا سى فلان أى مثله"، وذكر كلاما ينتهى إلى ما زوده؛ لكن القاضى عياض فى المشارق قال "والصواب عندى رواية الكافة" ما عليه جمهور المحدثين لأن الإمام الخطابى يقول أكثر المحدثين، "والصواب عندى رواية الكافة بدليل قوله [وشبك بين أصابعه]، وهذا دليل على الاختلاط والامتزاج كالشىء الواحد لا على التمثيل والتنظير".
إذا حين يختلفون فالاعتبار لمن؟ لما سجل علماء الحديث فى الروايات كما جاءت، وإن كان ثَمَّ اختلاف فى الضبط عما ارتضاه علماء اللغة، القول المعتبر فى ذلك والمعتمد عليه ما أشار إليه الفقيه البغدادى فى الكفاية قال "باب فى اتباع المحدِّث على لفظه وإن خالف اللغة العربية الفصيحة، وروى عن أبى عبيد قال: لأهل الحديث لغة، ولأهل العربية لغة، ولغة أهل العربية أقيس، ولا تجد بدا من اتباع لغة أهل الحديث لأجل السماع"، وهذا ما قرره الإمام الخطاب.
إذا فعلى الباحثين ألا يتعجلوا فى نسبة الوهم أو الخطإ لعلماء الحديث إذا جاءت الرواية على خلاف ما يرتضى علماء اللغة، فالكل يسعى إلى خدمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكل يجتهد؛ لكن علماء الحديث رائدهم فى التقيد باللفظ السماع الذى نُقل عن طريق الإسناد المتصل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله هو الذى رسَّخ لضرورة التقيد بإثبات ما سُمع حين قال فى الحديث الصحيح [نضَّر الله امرأ سمع مقالتى فأداها كما سمعها] أداها شفاهةً أو أداها كتابةً، هذا المعنى يصح وهذا المعنى يصح، فلا بد من التقيد بالكتابة أو النقل كما تم فى السماع، الأمثلة كثيرة فى هذا الباب لكنى أشرت إلى بعض منها.
أسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق والسداد لى ولكم، وأن يوفقنا جميعًا لأن نكون حراسًا للحق، وجنودًا لسُنَّة سيد الخلق
وما أُبرِّئُ نَفْسى إنَّنى بشَرٌ *** أَسْهو وأُخطئُ ما لم يَحْمِنى قَدَرُ
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد.
العودة لصفحة المؤتمر