منهجية ضبط النصوص ونشرها فى كتب السنة التى تعددت رواياتها

 

 

أ.د. عبد الله بن عبد العزيز الفالح

عميد كلية الحديث الشريف بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

العودة لصفحة المؤتمر

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

بدايةً أتقدم بالشكر لجمعية المكنز على تنظيم هذا المؤتمر الحافل النافع المفيد، الذى جمع أعلام التحقيق فى العالم الإسلامى، وحسبى أنى  بجوار فضيلة العالم الدكتور أحمد معبد شيخنا جميعا، والدكتور رفعت فوزى، وأمامى الدكتور بشار عواد، والمشايخ الكرام. وهذا مؤشر واضح على جودة هذا المؤتمر ونفعه، وأنا مسرور جدا بالمشاركة فيه.

وأسأل الله عز وجل أن يكون لدى ما يضيف وما يفيد، إن شاء الله تعالى.

إن منهج توثيق المرويات من الكتب والمصنفات مما تميز به علم الحديث الشريف، وهو منهج علمى منضبط متكامل مبتكر لا نظير له، يحقق أعلى درجات التوثيق العلمى، ويولج اليقين بصحة نقل الوحيين، وسلامتهما من التحريف والتصحيف، وفاءً بما وعد الله به من حفظ القرآن والسنة.

وعلم الرواية وقواعدها وآدابها والمصنفات التى كتبت فى محيطها تعد مفخرة من مفاخر المسلمين فى مجال توثيق النصوص وضبطها؛ بل مفخرة للعقل الإنسانى والبشرية جمعاء، وكان من معانى منهج المحدثين المتميز فى توثيق الكتب ونقلها – المقابلة، وتصحيح النسخ، وتجويد الخط، والمنهج المنضبط فى إصلاح الخطأ واستمرار النقص، ورواية الكتب، وضبط خلافاتها، بحيث صار للكتب أسانيد متصلة، ورواة عارفون، وخدمة بارعون، يقارنون بين الروايات، ويبينون الفروق والاختلافات، لتظهر الكتب ومروياتها فى أكثر صورة متقنة.

والحقيقة أن موضوع البحث هو (تعدد رواية الكتاب الواحد، والمنهجية المناسبة لنشر هذه الكتب)، وهذا البحث فى موضوعه موضوع تطبيقى أكثر منه تنظيرى، ولذلك أظن أن مشايخنا الكرام العاملين بالتحقيق أجدر بأن يكتبوا فيه، إلا أنى حاولت بالنظر فى الكتابة فيما كتب فيه أن أضيف شيئًا فيه، واخترت لذلك أمرين:

  • أمر تنظيرى، وهو المقارنة بالظواهر النظيرة فى العلوم الأخرى، وهى ظاهرة التلفيق فى علم الفقه، وظاهرة الخلط بين القراءات فى علم القراءات، وظاهرة الجمع بين الشيوخ أو جمع ألفاظ الشيوخ فى سياق واحد فى علم الحديث.

ولا شك أن هذه الظواهر مختلفة عن ظاهرتنا، إلا أنى أبحث فى القدر المشترك وكيف عالج العلماء تلك الظواهر وأستفيد منهم بالموازنة حتى أضيف لهذه المسألة.

  • وأما الجانب التطبيقى، فأخذت شيئًا من جامع الترمذى، وطبقته على ما أذكره إن شاء الله.

وقدمت لذلك بمقدمتين:

المقدمة الأولى: تتعلق بصور التأليف وكيفية التأليف عند الأئمة، وأركز على كتب الرواية المتقدمة.

والمقدمة الثانى: أسباب اختلاف رواة الكتاب الواحد.

والحقيقة أنى لا أريد أن أكرر الفوائد الجليلة التى سمعتها بالأمس من مشايخنا الكرام، وسأحاول أن أضيف ما لم يُذكر، وأكرر ما بدأت به أن البحث تطبيقى، ولعلى أذكر مسألة تتعلق بمناقشات أمس حول التدخل فى النصوص؛ فقد قابلتنى كثيرا وهى مسألة من يرى التزام النص وإثباته فى المتن ولو كان خطأ ويستثنى الآيات الكريمة، ويقول إذا وقع الخطأ فى الآيات ولم يكن ذلك فى قراءة صحيحة وهكذا، فإنه لا بد أن يُعدل، وقد مر بى فى رسالتى فى تحقيق زوائد البيهقى أنه ذكر أثرًا وفيه الآية خطأ، وفى الهامش كتب "وفى التلاوة كذا" أى أن ما فى المصحف يخالف المذكور؛ لكنه أثبت المذكور ولم يعدله، ولما نظرت فى السياق وجدت أنه لا ينبغى التعليل؛ لأنه أورد الآية ليس على سبيل القراءة - أنا لا أتذكر هل هو صحابى أم تابعى - إنما على سبيل الإشارة للآية، وهو لا يريد أن يتلوها، فحينئذٍ لا ينبغى له أن يعدل.

وانعكس ذلك أيضا فى الإشراف لما كنت مشرفا على أحد الطلاب وجدت مثل هذا المثال، فعدَّله الطالب فلم أفهم الكلام، ثم سألته فقال أنه عدله، فتبين أنه كان لا ينبغى له أن يعدل، وهذا الكلام لا أريد به تأييد من يقوم بإثبات النص تمامًا، وإنما أريد توضيح أن المسألة تطبيقية، وأنه لا بد لكل تقعيد من استثناءات وتخصيصات وتطبيقات يعرفها المحققون الذين اشتغلوا أكثر منا، جزاهم الله خيرا ونفعنا بهم.

بالنسبة لصورة التأليف، فقد ذُكِر شىء منها، لكنى أذكر بعض صور التأليف، فالمحدث القديم عندما يريد أن يؤلف فإنه يختار شيئًا من مسموعاته ومطالعاته، ثم يرويها لتلاميذه، أو يدونها ثم يرويها لتلاميذه بطريقة من طرق الرواية المعتبر، ولنأخذ مثلا الإملاء، فإذا أملى المحدث وبدأ الطلاب كتابة ما يسمعون من شيخهم، فإنهم بشر قد يخطئون فى السماع أو فى النسخ، وأيضا قد يكثر الحضور للمجلس فيتخذوا مستمليًا، والمستملى يبلغ الصوت لمن بعده، وقد يكون هناك أكثر من مستملى، وهو بشر قد يخطئ فى النقل، فهذا سبب من أسباب الاختلاف بين ما أراده الشيخ وبين ما يُنقل فى الكتب.

كذلك قد ينسخ التلاميذ من كتاب الشيخ بطريقة أو بأخرى ثم يعرضونه أو يقرأونه عليه، والشيخ أيضًا بشر فقد يفوت فى السماع وهم يعرضون عليه كلمة، وقد يكون قُرأ عليه قبل ذلك أو بعده على الصواب، وبالتالى يحصل الخلاف.

وهناك صور أوضح من ذلك وأريد بهذا أن أصل إلى أن تعيين صورة التأليف وأحواله المختلفة تساعد فى تفسير أسباب اختلاف الروايات، ولو كُتب فى ذلك كتابة دقيقة مبنية على ما يوجد من الشواهد فأظن أن ذلك سيثرى القضية بشكل أكبر وأوضح.

أما أسباب اختلاف الروايات فذُكر بالأمس ولا سيما ما يتعلق باختلاف المؤلف نفسه، كاجتهاده وإبرازاته واعتداله، فألخصه فى أنه لا يخلو من أمرين:

إما أن يكون من المؤلف نفسه، أو ممن بعده من الرواة والنساخ، ولو شئت قل المستملين أو غيرهم فى بعض الأحيان.

  • فإذا كان من المؤلف فقد يكون بسبب تغير اجتهاده ورأيه فيما يثبت ويدع، وهذا له أمثلة ذكرتها فى البحث، ولعلِّى أذكر كلام الخطابى فى (غريب الحديث) فقد ذكر أنه خرَّج نسخة انتسخها طلبة الحديث ثم قال "ولما تنفس الوقت ورزق الله التوفيق لما أحب أن يوفق منه وتصفحت ما فى تلك النسخة، تبينت فى أحرف منها خللا فغيرت وأصلحت وزدت وحذفت ورتبت كتاب على الوجه الذى استقر الآن معى"، وهذا أمر معلوم وواضح لدى المختصين؛ لكن كلام الخطابى واضح وصريح فى القضية.
  • وإذا كان من غير المؤلف، فله أحوال يعرفها المختصون، كتفاوت الرواة فى السمع، أو فى الضبط، أو فى النسخ، أو فى المقابلة، ومما يوضح ذلك الطبعات المعاصرة التى أحيانا يقوم عليها مؤسسات وأفراد كثر ومراجعون ومصححون ومع ذلك يبقى فيها الخطأ، فما بالك بالأفراد، ولا شك أن الأئمة والعلماء السابقين أكثر إتقانا وضبطا وحفظا، وكثيرا ما ينبه الحافظ ابن حجر فى فتح البارى على ذلك فيقول فى رواية ابن السكن "اللفظ خطأ يُصوب، وأشد منه خطأ رواية كذا"، وذكرت ذلك فى البحث.

وقد يكون من الأسباب إدراج بعض التعليقات والشروح والإيضاحات فى النص، وهذا أيضا له أمثلته، وكذلك قول الراوى "سمع بقراءة من لا يضبط ويتقن" ومن أوضح الأمثلة عليه قراءة حبيب بن أبى حبيب كاتب الإمام مالك الذى قالوا فيه أنه كان (يخطرف الأوراق)، فلا شك أن كل من سمع بقراءة حبيب تُكُلِّمَ فيه، هذا ما يتعلق بالمقدمة.

ثم أنتقل إلى الجانب النظرى، وهو الموازنة، فوازنته بمسألة التلفيق عمومًا، ولها أنواع بحسب المختصين، وأقرب صورها التلفيق بين المذاهب، وليس التلفيق بين الاجتهاد، لأن التلفيق بين المذاهب له تعلق بنسبة المذهب إلى صاحبه، وكذلك عندنا فى نسبة الكتاب إلى مؤلفه، مثلا مما ذكره الذين يمنعون التلفيق فى المذاهب "أن المسألة الملفقة من مذاهب لم يقل أحد بها". كذلك فى تعدد الروايات فمَن اختار التلفيق فى بعض الأحوال فإنه يقال له أنه يلزم بك أن تنشئ نصا لم يرد عند أحد، ولم يقل به المؤلف لأنك جمعت بين روايات متعددة.

أيضا مما ذكروا فى التلفيق أنه يجوز للضرورة والحاجة، قال ابن عبدين "وكان بعض أصحابنا يفتون فى قول مالك فى هذه المسألة للضرورة"، وكذلك فى التلفيق بين النسخ فقد تلجئ الحاجة والضرورة إلى ذلك كما فى السنن الكبرى مثلا حيث لا توجد نسخ كاملة برواية واحدة، فتدعو الضرورة لإخراج كتاب كامل إلى التلفيق بين النسخ.

أما فى مسألة الخلط بين القراءات فمما ذكروا فيها قول ابن الجزرى "إن كانت إحدى القراءتين مترتبةً على الأخرى، فالمنعُ من ذلك منعُ تحريم؛ كمن يقرأ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37] بالرفع فيهما – آدم وكلمات -، أو بالنصب، آخذًا رفعَ (آدَمُ) من قراءة غير ابن كثير، ورفعَ (كَلِمَاتٌ) من قراءة ابن كثير" فهذا قولا واحدا يُمنع. وكذلك نقول فيمن ألجأه الواقع إلى التلفيق فى بعض الأحوال، فينبغى أن يُمنع إذا كان يترتب على ذلك خطأ لغوى أو علمى؛ فقد يكون السياق في الرواية صحيح؛ لكن إذا ... يتركب من ذلك قول خاطئ.

وكذلك فى الجمع بين الشيوخ، اشترطوا فيمن يجمع بين الشيوخ أن يكون متقنا كالزهرى وهى مسألة معلومة، وانتقدوا من كان يجمع بين الشيوخ ولا يميز ولا يكون عارفا كالواقدى وغيره، وكذلك نقول إن أجزنا التلفيق فى بعض الأحوال للضرورة والحاجة، فإننا حينئذ لا بد أن يكون الذى يتصدى لذلك عارفا متقنا.

ثم أتجاوز ذلك إلى الدراسة التطبيقية، فهناك مسألة شائعة وهى اختلاف مطبوعات الترمذى فى عدد الأحاديث وفى إثبات الأحاديث وحذفها، فمن المعلوم لدى المختصين أن الطبعات مختلفة فى إثبات الأحاديث وزيادتها، ففى بعض الطبعات حرر محققوها أن بعض الأحاديث لا تثبت، فمثلا فى طبعة المحقق الكبير د. بشار عواد أثبت أن 32 حديثا ليست من جامع الترمذى، ونراها ذُكرت فى طبعات سابقة. وكذلك فى طبعة التأصيل الثانية كان هناك 52 حديثا قالوا أنهم ترددوا فيها فى الطبعة الأولى ثم أثبتوها فى الطبعة الثانية، هذا الأمر يمثل ظاهرة ينبغى النظر فيها، فليس المراد هنا الموازنة بين الطبعات أو أيهما أجمل، إن ما أريده أن هذه الظاهرة تحديدا لو افترضناها فى كتاب خيالى أو نقلناها مثلا إلى صحيح الإمام البخارى، ولنفرض ظهور طبعات تتفاوت فى إثبات أحاديث، هذا الحديث هو فى البخارى، ورواية أخرى تقول ليس فى البخارى، وما أبعاد ذلك؟ وهل يمكن أن يوظف ذلك مثلا لو كان فى البخارى مثلا لدى خصوم السنة فى الطعن والتشكيك فى صحة الكتاب، أو نحو ذلك؟ هذه بعض الأوجه العامة.

قد روى الترمذى عن مؤلفه جماعة معروفون مشهورون (أبو العباس المحجوبى – وأبو حمدى التاجر – وأبو ذر الترمذى) وغيرهم، ثم اتصل الإسناد كما هو معلوم، وأيضا تميز الترمذى باختلاف النسخ من القديم، وهذا الاختلاف الذى أشار إليه العلماء بيَّن بعضهم أن جزءًا منه يرجع إلى اختلاف الروايات؛ بل إن النظر العقلى يقتضى إذا كان اختلاف النسخ قديما، فإن هذا ينكر أن كثيرا منهم راجع إلى اختلاف الروايات، وله ما يدل عليه؛ لكنه لا داعى أن نضخم  الأمر، ونقول أن الاختلاف هذا كله يرجع إلى اختلاف الروايات.

أما الأحاديث، فقد اخترت حديثًا من الأحاديث التى حُذفت فوجدتُ فى حديث ابن عباس فى قوله تعالى {إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] نبه بعضهم على أن الزيلعى قال "ورواه الترمذى فى كتابه، حدثنا أسامة بن شبيب، ثنا محمد بن يوسف الفريابى .." إلى آخر الكلام ثم قال "وهو موجود فى نسخ الترمذى التى هى من رواية الصدفى دون غيرها، ولم يذكره ابن عساكر فى أطرافه"  وقال فيه الترمذى "حديث غريب". وأيضا فى رواية أبى ذر الهروى أحاديث زائدة على غيرها مما حذف من بعض الكتب.

لكن من جهة أخرى نجد أن عامة أهل العلم لم ينسبوا هذا الحديث إلى جامع الإمام الترمذى، لاعتماد أغلبهم على روايات أخرى عن المحبوبى وأشهرها طريق الكرخوى، ولذلك فالذين صنفوا فى الزوائد ذكروا هذا الحديث ضمنها، يعنى أنه ليس موجودا فى جامع الترمذى، مع أنه فى رواية الصدفى.

ويُخلص من ذلك إلى أنه لا تثريب على من عزى لكتابٍ حديثا أو نفى وجوده وهو موجود فى روايات غير مشهورة، كما هو مشهور فى مثال (إنما الأعمال بالنيات)، فأكثر الشراح قالوا بعدم وجده فى الموطأ، ومنهم الحافظ بن حجر فى فتح البارى، ثم جاء السيوطى رحمه الله وذكر أن الحديث مجود فى الموطأ من رواية الإمام ابن الحسن، ومن رواية - أظن - سويد بن السعيد.

قضية أخرى، كثيرا ما يُفرق بين الروايات والنسخ الخطية، هذه لها منهج وتلك لها منهج، باعتبار أن الروايات غالبًا يكون الاحتمال الأكبر فيها يرجع إلى المؤلف، إذا كان الاختلاف فى طبقة ما.

الحقيقة ينبغى أن نتأمل أيضا فى النسخ الخطية، فهناك احتمال أن بعض النسخ الخطية سببها اختلاف الرواية، وبالتالى لا نفرق تفريقًا تاما بين المسألتين فبينهما ارتباط، فاختلاف النسخ التى لم يتبين رواتها قد يرجع فى بعض الأحول إلى اختلاف الروايات، فحينئذ بعض من كتب يقول: يجوز التفريق مطلقا بين النسخ الخطية. وهذا ليس صوابا دائما لأن بعض النسخ الخطية نحن لم نعرف رواتها، فقد يكون راجعًا إلى اختلاف الروايات.

مسألة أخرى، إن التفاوت بين رواية أهل الشرق والغرب معتبرٌ، فهناك أحيانا نقطة تباعد علمى بينهما، فمثلا رواية الصدفى التى انتشرت فى الماضى بينها وبين رواية الكروخى اختلافات كثيرة، فينبغى العناية بهذا الجانب.

القضية قبل الأخيرة، أن الاختلاف بين روايات الكتاب الواحد فى إثبات حديث بعينه قد يرجع أحيانا ليس لعدم وجود الكتاب أو اللفظ فى هذا الرواية، وإنما يرجع إلى عدم اتصاله بالسماع، ولهذا مثالان ذكرتهما فى البحث، منها مثلا حديث جابر بن عبد الله مرفوعًا [مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ الصَّلاَةُ وَمِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الْوُضُوءُ] عزاه المزى للترمذى من طريق مجاهد عن جابر، وقال "ليس فى السماع ولم يذكره أبو القاسم"، وعزاه العراقى لأبى داود الطيالسى ثم قال "وهو عند الترمذى ولكن ليس داخلا فى الرواية"، فقد اختلفت النسخ الخطية وطبعات جامع الترمذى فى إثبات الحديث وحذفه، ثم رأيت الدكتور أحمد معبد فى تحقيقه لكتاب (النفح الشذى فى شرح سنن الترمذى) قال "وفى مقابل هذا الحديث فى الأصل حاشية نصها: هذا الحديث وقع فى رواية أبى يعلى عن السنجى وليس هو فى رواية الشارح".

ولدى مثال آخر فى هذه القضية، قال البخارى فى فهرسته "وفى كتاب الدعوات والمناقب" طبعا هو يتكلم عن إحدى الروايات "أحاديث عُلِّم عليها بقوله (لا إلى) مع كلام أبى عيسى فى آخر الكتاب لم تكن فى سماع أبى يعلى" المعروف بابن زوج الحرة "فاستظهرت لها برواية أبى القاسم الحسن بن عمر الهوزنى القاضى رحمه الله" عنى به عمر بن الحسن، فهذه القضية ربما تحتاج إلى توضيح أكثر، لا يسمح به المقام.

القضية الأخيرة هى التأمل فى التفريق عند نشر الكتب بين الاختلاف بين طبقة تلاميذ المصنف، حيث يقوى احتمال الاختلاف، فعندما ينزل الخلاف إلى طبقات متأخرة كالطبقة الرابعة أو كذا، وربما يستثنى بعض النسخ المتميزة كالكرخوى فى الترمذى أو بعض النسخ، لكن عموما ينبغى التأمل، وربما يسميها بعض المشايخ نسخًا، أى إذا نزل الخلاف عن المصنف يسميه نُسخ ولا يسميه رواية، فهل ينبغى نشره مفردا إذا كان متأخرا؟ نعم، فإن أردت مثلا أن  أنشر المحبوبى أو غيره؛ لكن إذا توسعنا فى ذلك فكم سيصدر من نسخة للكتاب الواحد؟ وكم سيصدر من نسخة للبخارى رحمه الله؟ وما أثر ذلك فى عصرنا؟

ربما كان الكتاب - فى العصور السابقة - لا يصل إلى غير المتخصصين، والهجمة الآن التى على السنة إنما هى بسبب الهوى، وبسبب عدم فهم وإدراك منهج أهل الحديث المتميز، وبالتالى إذا طُبع الكتاب طبعات كثيرة تختلف فى إثبات الأحاديث وألفاظها وكذا وكذا، هل ينبغى أن يُفرد بالنشر؟ لا بد أن تُحفظ هذه الروايات، وينبغى أن يوضع ما يحفظها إلكترونيا، أو أن تُحفظ عن طريق المقابلة وفى هوامش النسخة الأصلية وهذا لا خلاف فيه؛ لكن هل تُفرد بالنشر، فتفرد رواية كذا، ورواية كذا، فمثلا رواية الصدفى ورواية أبى العلى وإلى آخره، هل تفرد كل واحدة فى طباعة؟ أنا أدعو إلى التأمل فى ذلك، وأميل حقيقةً ألا ننزل إلى هذه الطبقات، نعم تُحفظ إلكترونيًا وتُنشر إلكترونيا، وتضاف فى الهوامش، أما أن تنشر مستقلة فليُتأمل فى ذلك، وفى المصالح والمفاسد التى تترتب عليه.

أكرر أن البحث أوسع من هذا، وأنا أنتظر التصحيح والتصويب فى المسائل التى عرضتها، والمقصود هو الإدراك والتذكير بالمسائل والاعتبارات والمخاطر ونحو ذلك، وقد ذكرتُ مسألتين تطبيقيتين ولكن لا أريد أن أطيل، أكرر أن نتائج البحث فيها إرشاد لمنهج المحدثين، وأنه ينبغى طرحه للناشئة بأسلوب واضح، فالناشئة الآن يتعرضون لتشويه حول طريقة نقل السنة وطريقة مصادرها وطريقة منهج المحدثين فى نقلها، بينما منهج المحدثين قد انبهر به الخصوم قبل المؤيدين، وكذلك مناهجنا فى الحكم على الحديث، فانظر إلى الكتب نفسها تسلسلت أسانيدها وصارت سارية تشبه بالوجه أسانيد الحديث، وصار فيها مقابلة ومقارنة وإلى آخره وتوجيه، فوالله إن هذا المنهج العظيم ينبغى طرحه بأسلوب ميسر للعوام وللناشئة، حتى يدركوا حجم وجهد العلماء، ويدركوا ذلك اليقين بصدق وحفظ السنة.

كذلك أهمية معرفة طرائق العلماء فى الهدى فى الكتب ونهجهم فى روايتها، وأثر ذلك فى بيان أسباب الخلاف الرواة والنسخ، وذكرت أسباب اختلاف روايات الكتاب.

وأكرر الشكر للجميع ولجمعية المكنز وللمشاركين الكرام وللحضور وطلبة العلم، وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أنصار سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يوفقنا جميعا للقيام بحقوقه علينا، وأن يجعلنا من خدَّام السنة ورجالها.

وأختم بالأبيات المنسوبة لابن حجر حيث قال:

"هنيئا لأصحابِ خيرِ الورى *** وطُوبى لأصحابِ أخبارهِ

أولئك فازوا بِتَذْكِيرِهِ *** ونحن سَعِدْنا بِتِذْكارِهِ

وهم سبقونا إلى نَصْرِهِ *** وها نحن أتباع أنْصَارِهِ

ولمَّا حُرِمْنا لِقَى عَيْنِهِ *** عَكَفْنا على حِفْظِ آثارِهِ"

أسأل الله أن يجمعنا كلنا برحمته معا فى داره، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد.

 

العودة لصفحة المؤتمر