نظراتٌ فى تَحْقِيقِ مَخْطُوطاتِ الحَدِيثِ النَّبَوِىِّ
أ.د. عامر حسن صبرى التميمى
رئيس قسم التحقيق وإحياء التراث الإسلامى بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمملكة البحرين
العودة لصفحة المؤتمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، سيِّد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه الأخيار والأبرار الطيبين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، فهذا بحث موجز عن منهج تحقيق كتب التراث المتعلقة بالحديث النبوى، للمشاركة فى فعاليات المؤتمر الثانى لخدمة السنة النبوية، وجهود جمعية المكنز الإسلامى فى ذلك، المنعقد بتاريخ 21-23 جمادى الأولى1433، الموافق 15-17 فبراير 2020، فى مركز الأزهر للمؤتمرات بالقاهرة، مقدمًا شكرى الجزيل لمن كان سببًا فى إقامة هذه الندوة العلمية المباركة التى أرجو - كما يرجو الجميع - أن تُرسى قواعد من العلم، وتكون فاتحة خير، وسُنة حسنة يكتب لأصحاب هذه الندوة أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
ويدور الحديث فيه حول تمهيد، وثلاثة محاور أساسية، وخاتمة.
التمهيد وفيه أهمية المخطوطات
إن المخطوطات تعد كنزًا مكنونًا من كنوز حضارتنا، فقد سجَّل فيها علماء الإسلام أنواعًا شتى من حقول المعرفة، يدفعهم فى ذلك حبهم لدينهم، وانتمائهم لأمتهم، ويحق لنا أن نفخر بهذا التراث العظيم، ونسير قدمًا فى مجال البحث والتنقيب عنه ثم فى خدمته، لتتم الاستفادة منه بالصورة المرجوة، ولتستعيد الأجيال اللاحقة ذاكرتها، وعبق الأصالة، ولتتعرف على ماضيها التليد، الذى هو مصدر عزها وكرامتها وقوتها، ولهذا فإن الحفاظ عليه يعد من فروض الكفايات.
لا شك أن الاشتغال بالمخطوطات وخدمتها تقرِّب الأجيال المعاصرة إلى هذا المكنون الحضارى لأمتنا، وهو خير كفيل لإبعادهم عن الأفكار الهدامة التى لا تنشئ جيلا، ولا تبنى مستقبلا.
وقد تنبه الغيورون على هذه الأمة إلى أهميتها، فأُنشت المراكز العلمية فى العالم الإسلامى، والجامعات العربية والإسلامية، والتى كان همُّ بعضها جمع المخطوطات وتصويرها من المكتبات المنتشرة فى أرجاء المعمورة، ثم حث الأساتذة المتمرسين على تحقيق المناسب منها، ودفع طلبة الدراسات العليا للاستفادة منها فى بحوثهم، وتسجيل بعضهم لتحقيقها فى رسائل الماجستير والدكتوراه.
ولا بأس أن نشير إلى بعض الفوائد، تتعلق بتعريف التحقيق لغةً واصطلاحًا، وبيان غايته:
- التحقيق لغةً: هو العلم بالشىء، ومعرفة حقيقته على وجه اليقين.
- والتحقيق اصطلاحًا: هو إخراج كتاب بخط اليد من عالم النسيان إلى عالم النور، على أسس صحيحة محكمة من التحقيق العلمى، وتحريره من التصحيف، والتحريف، والخطإ، والنقص، والزيادة، مع تعليق المحقق - وهو الذى يقوم على خدمته - عليه، وتخريج نصوصه المختلفة من الآيات الكريمة، والأحاديث والآثار، والأشعار، وتوثيق نقولات المؤلف من مصادرها الأصلية، وترجمة الأعلام المغمورين، فلا يترك نقصًا فيه من أى جانب من جوانبه إلا أكمله.
- والغاية من التحقيق: الوصول إلى الكتاب المحقق، وهو الذى صحَّ عنوانُه، واسمُ مؤلِّفِه، وصحة الكتاب إليه، وكان متنُه أقربَ ما يكون إلى الصورة التى ترَكَها مؤلفُه، بالإضافة إلى إظهار الكتاب بصورة معاصرة، مشروحًا، ومفصلا، ومفهرسًا، وخاليًا من الأخطاء.
المحور الأول
نبذة عن تأريخ التحقيق قديمًا وحديثًا، وفيه ثلاثة مطالب:
سلك أهل العلم عمومًا وأهل الحديث خصوصًا مسالك منوعة فى توثيق الكتاب وإبعاده عن العبث والتحريف والتزوير، ولهذا كانوا يحرصون على توثيقه بالسماعات والتصحيحات والمقابلات وغير ذلك[1]، وكان يتم ذلك من طريق مجالس التحديث والسماع، ووضعوا قواعد للتحمل والأداء، ذُكرت فى كتب مصطلح الحديث، وهى (السماع من لفظ الشيخ، والعرض على الشيخ، والإجازة، والمناولة، والكتابة، والإعلام، والوصية، والوِجادة)، وسلكوا فى إثباتها سبلا تطبيقية كثيرة، كانت كفيلة فى توثيق السنة وحفظها.
كما حفلت كتب علوم الحديث بذكر الضوابط والقواعد فى كتابة الحديث وآدابه وفنونه، هذا بالإضافة إلى أن بعض المحدثين وضعوا كتبًا مستقلة تؤكد هذا المعنى، منها:
- المحدِّث الفاصل بين الراوى والواعى، للرامهرمزى: الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد (ت360).
- الجامع لأخلاق الراوى وآداب السامع، للخطيب البغدادى: أحمد بن على (ت463).
- جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر: يوسف بن عمر القرطبى (ت463).
- الإلماع فى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع، للقاضى عياض بن موسى اليحصبى (ت544).
- أدب الإملاء والاستملاء، لأبى سعد السمعانى: عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمى المروزى (ت562).
- تذكرة السامع والمتكلم فى أدب العالم والمتعلم، لبدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة (ت733).
ولا بد من أن نؤكد بأن علم تحقيق النصوص قد ظهر فى ثنايا كتب المحدثين، فهم الذين سبقوا الآخرين فى وضع أسسه وأركانه، وتفوقوا فيه على غيرهم، وفى هذا المعنى يشير الدكتور محيى هلال سرحان إلى أن معرفة التحقيق وتوثيق النصوص إنما هو صنيعة علماء السلف قبل أن تتعرف إليه أوربا فيقول "إن هذا العلم لم تعرفه أوربا إلا فى وقت متأخر، وأغلب الظن أن ذلك يرجع إلى تاريخ اختراع الطباعة فى القرن الخامس عشر، حين اهتموا بإحياء الآداب اليونانية واللاتينية، فكانوا يطبعون الكتاب كما هو دون البحث عن النسخ الأخرى له، ولما تقدم علم الآداب القديمة اضطرتهم الحاجة إلى الاستفادة من النسخ الأخرى للكتب، لكن دون أن يكون هناك منهج أو ضوابط للتصحيح أو للتحقيق حتى منتصف القرن التاسع عشر حيث وضعوا أصولا علمية لنقد النصوص، ونشر الكتب القديمة"[2].
اختلف الباحثون فى تاريخ بدء التحقيق وتحديده بالمفهوم الحديث، ويغلب الظن أن تكون محاولاته الأولى قد بدأت فى القرن الثامن عشر الميلادى أو التاسع عشر.
وهناك مدارس مختلفة فى تحقيق المخطوطات، فمن هذه التجارب تجربة المستشرقين، فإنه نتيجة اتصال الغرب بالشرق وسيطرته السياسية والعسكرية والثقافية على العالم الإسلامى فقد تمت دراسة مجموعات كبيرة من المخطوطات العربية فى شتى الفنون، وقام بتحقيق بعضها عدد منهم ممن درس اللغة العربية، وكانت طريقتهم فى التحقيق منحصرة تقريبًا على إثبات النص كما كتبه مؤلفه، وذلك بحصر نسخ الكتاب، والقيام بالمقابلة، وتثبيت الاختلافات بينها، هذه هى طريقتهم، وتابعهم على ذلك بعض من المحققين فى عالمنا الإسلامى.
أما التجربة المشهورة، فهى تجربة أكثر علماء المسلمين، ومنها تجربة روّاد تحقيق المخطوطات فى عالمنا المعاصر فى مصر والشام والعراق والجزيرة العربية وغير ذلك، وطريقتهم: تثبيت طريقة المستشرقين، والإتيان بقواعد إضافية، وهو ما يسمى بخدمة النص، وهذه الطريقة هى المشهورة اليوم فى عالم التحقيق، فإن الغاية فى ذلك تقريب التراث إلى الأمة، وإبراز الجوانب المضيئة فيه، وسوف نبرز هذا الأمر لاحقا.
لا شك أنه قد اجتمعت فى زماننا عوامل مساعدة للباحثين والدارسين من أهل الحديث وغيره لم يجتمع للأجيال السابقة، فقد امتازت أدوات التحقيق فى عصرنا بمزايا طيبة، نذكرها كما يأتى:
- تقدم التقنية، وظهور ما يعرف بعصر الحاسب الآلى، مما يَسَّر الوصول إلى المعلومة واختصار الوقت فى ذلك، مع استيفاء المادة العلمية وشمولها بأيسر السبل وأقل التكاليف [3].
- اليسر فى معرفة ما طبع من الكتب وما لم يطبع وغير ذلك.
- سهولة الحصول على المخطوط فى كثير من مكتبات العالم.
- سعة الانتشار وسرعته، وذلك بتوفر وسائل الاتصال وتقدمه فى نقل المخطوطات من بلد لآخر، وساهم فى إحداث نهضة علمية تبدّت فى كثرة المشتغلين بالتحقيق عمومًا، وبتحقيق كتب السنة خصوصًا، كما أن تلك الجهود لم تُبْق المخطوطات حبيسة بلد معين، بل انتشرت فى الشرق والغرب.
- سهولة عقد المؤتمرات العلمية والندوات، وما يؤديه هذا من تواصل العلماء والمحققين، ومعرفة ما يستجد من معرفة.
- اختصار مراحل النشر والطبع الورقى.
- التنوع الكبير والخيارات المتعددة فى نوعية الخط وحجمه، وسهولة إيجاد الهوامش المناسبة.
- إمكان نسخ جملة أو صفحة أو أكثر من الحاسوب، ولصقه فى ملف البحث مباشرة، وإجراء الاختصار والتعديل والإضافة عليه وفق ما يريده المحقق.
المحور الثانى
الضوابط التى يجب أن تتوفر فى محقق كتب التراث
تمهيد:
إن تحقيق المخطوطات علم جليل، وواسع وكبير، وليس مهنة أو هواية لمن هب ودب؛ بل هو علم، وفن، وصنعة، وذوق، وهو قبل ذلك شغف دافق، وهواية طاغية، ورغبة صادقة، وتعلق بها شديد، فهو أمانة ومسؤولية ينبغى لمن يحمل لواءها أن يكون على قدر حملها.
- أما أنه علم، فلأنه يقوم على قواعد وقوانين أصيلة، استعرضها المحدثون فى كتبهم، وقد تقدم ذكر بعض هذه الكتب.
- وأما أنه فن، فلأن المحقق الماهر يبدع فى كشف كثير من اللطائف العلمية شرعية كانت أو أدبية، أو تاريخية وغيرها مما لا يتاح لغيره كشفها، ويحسن تقديمها فى دراسته، أو مقدمته للكتاب المحقق[4].
- وأما أنه صنعة، فهو عمل علمى قائم على خبرة طويلة، وممارسة لقراءة كتب التراث، ومعرفة أنواع الخطوط، وتاريخها، والاطلاع على إسناد الكتاب، وسماعات العلماء وقراءتهم للنسخة، مما يساهم فى توثيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه، وغير ذلك من الأمور العلمية الفنية.
ويستلزم فى ذلك كله توثيق كل ما يذكره فى الحاشية، وذلك بعزوه إلى مصدره والمرجع الذى أخذ منه، ويُراعى ذِكر الجزء والصفحة دون الإشارة إلى سائر المعلومات، لأن موضعها فهرس المراجع الذى يأتى الكلام عليه.
- أما أنه ذوق، وذلك أن تكون تعليقاته غير مسهبة، وإنما يراعى الدقة والاختصار قدر الإمكان.
ومن هنا كان لا بد من معرفة الشروط والمؤهلات العلمية فى المحقق، وتنقسم إلى قسمين: عامة وخاصة، على النحو الآتى:
- أن يكون المحقق متحليًّا بالأمانة والصبر، الأمانة فى أداء النص صحيحًا بلا تزيِّد أو نقصٍ تقتضى سخاءً بالجهد والوقت، وصبرًا على العمل بلا حساب[5].
- أن يكون عارفًا باللُّغة العربية - ألفاظها وأساليبها - معرفةً جيدة.
- أن يكون ذا ثقافةٍ عامة.
- أن يكون على عِلم بأنواع الخطوط العربية، وأطوارها التاريخية.
- أن يكون على دراية كافية بالمراجع والمصادر العربية (ببليوجرافيا)، وفهارس الكتب العربية، وبخاصة فى الفن الذى يعالجه الكتاب الذى يحققه.
- أن يكون مطلعا على المؤلفات التى تدله وتعلّمه كيفية تحقيق المخطوطات، والأساليب والقواعد العلمية المتبعة فى هذا المجال، وعليه أيضا أن يطّلع على المخطوطات التى سبق أن حققها كبار العلماء والأساتذة حتى يستفيد عمليًا وتطبيقيًا من أساليبهم فى التحقق.
- أن يكون ملمًا بالتقنيات الحديثة كالأقراص الإلكترونية، والإنترنت[6].
- أن يكون المحقق ملمًّا بموضوع الكتاب الذى يريد تحقيقه، عارفًا بأصوله وفروعه، مطلعًا على مصطلحاته، فمن أراد تحقيق مخطوط فى الحديث النبوى، فعليه أن يكون محدِّثًا ذا دراية بتاريخ السُّنة ونقلها ومدارسها، ومن أراد التحقيق فى التفسير، فعليه أن يكون مفسرًا مشتغلا به، وعارفًا بأنواعه وتاريخه … وهكذا.
- أن يتمرس على أسلوب المؤلف، وقراءة كتبه الأخرى.
المحور الثالث
المنهج المتبع فى تحقيق النصوص
هناك كم هائل من المخطوطات العربية فى العالم، يقال إنها تزيد على خمسة ملايين[7]، موزَّعة فى مكتبات المعمورة العامة والخاصة، وينبغى أن نشير إلى أن هذا العدد الكبير قد يوجد فيه ما هو مكرر، فيكون للكتاب نسخ كثيرة قد تصل إلى عشرات النسخ[8].
كما أن هذه المخطوطات ليست كلها على نفس درجة الأهمية، وذلك على النحو الآتى:
- بعض هذه المخطوطات ذات قيمة ضئيلة لا تضيف شيئًا جديدًا.
- وبعضها يبحث فى موضوعات محرّمة شرعًا، مثل: السحر والتنجيم.
- وبعضها ينال من ثوابت الأمة وأصولها القائم على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة، فلا تصلح للنشر والخدمة.
فنشر المخطوط إذًا ليس مرادًا لذاته؛ بل لخدمة العلم الذى أُلِّف فيه، ومدى الإضافة العلمية التى حواها، ومكانة مؤلفه.
والمحقق بحاجة إلى أن يميِّز بين الكتب التى طبعت والتى لم تطبع[9]، ويميِّز الكتب المحققة تحقيقًا علميًا من سواها، ولا ينبغى أن يقدم على تحقيق مخطوط إذا عرف أن غيره سبقه إليه وحققه تحقيقًا علميًا، حتى لا يهدر الجهد والوقت سدى، فالعمل المكرر لا يضيف جديدًا إلى المعرفة.
ولهذا فإن دوافع إعادة التحقيق كثيرة، وتنحصر فى الغالب فيما يلى:
- وجود عيوب فى الطبعة أو الطبعات السابقة.
- العثور على نسخة أو نسخ ذات قيمة علمية لم يطلع عليها المحقق السابق.
- اعتماد المحقق السابق على مخطوطة مبتورة.
بعد أن يحدد المحقق الكتاب الذى سيقوم على تحقيقه، فإن عليه أن يجمع نسخ الكتاب، وقد سهَّلت التقنية الحديثة إجراءات التعرف على المخطوطات والوصول إليها من طريق استخدام الإنترنت للتعرف على أماكن المخطوطات فى العالم، ثم بطلب تصويرها. ويفضّل أن تتم الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة فى تصوير المخطوط، وذلك بتصويرها بكاميرا تعمل بنظام الديجيتال (الرقمي)، فإن كانت بعض الكلمات غير واضحة فى التصوير العادى فيمكنهم قراءة الكلمة على هذا التصوير بطريقة واضحة.
ولا ينبغى أن يقتصر المحقق على نسخة واحدة وهناك نسخ أخرى؛ بل لا بد من جمع النسخ المختلفة، ويتم التعرف عليها من طرق كثيرة، منها:
- الرجوع إلى الكتب التى فهرست للمخطوطات، مثل كتاب بروكلمان، وكتاب فؤاد سزكين، وكتاب (الفهرس الشامل للتراث العربى الإسلامى المخطوط) الذى قام بتصنيفه مؤسسة آل البيت بالأردن، وكتاب (تراث المغاربة فى الحديث وعلومه) للشيخ محمد بن عبد الله التليدى، وغيرها.
- مراجعة قاعدة معلومات المخطوطات العربية فى العالم التى أنشأها مركز الملك فيصل، المسماة (خزانة التراث) وهو فهارس المخطوطات الإسلامية فى المكتبات والخزانات ومراكز المخطوطات فى العالم تشتمل على معلومات عن أماكن وجود المخطوطات وأرقام حفظها فى المكتبات والخزائن العالمية، وهى موجودة فى المكتبة الشاملة فى الإصدار الجديد (الإصدار الثالث) وما بعده.
- الاطلاع على بعض المراكز المتخصصة فى جمع المخطوطات، مثل معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة، ومركز جمعة الماجد بدبى، ومركز البحث العلمى بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. هذا بالإضافة إلى مكتبات بعض الجامعات العربية والإسلامية، مثل مكتبة جامعة الرياض، ومكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ومكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ودارة الملك عبد العزيز، إضافة إلى مكتبة الملك فهد الوطنية، ومكتبة الملك عبد الله بن عبد العزيز الجامعية، وجامعة الكويت … وغيرها.
- تصفح فهارس المخطوطات، وهى تعطينا فكرة عامة عن المخطوط ومكان وجوده، وصفته، وناسخه، وتاريخ النسخ، وغير ذلك مما يعطينا فكرة أولية عن الكتاب وطبيعته، وهناك أيضا كتب تتحدث عن مخطوطات لفنون معينة، مثل المؤلفات فى الحديث وعلومه فى العهد الجمهورى فى تركيا، والتصنيف فى السنة النبوية وعلومها فى القرن الخامس الهجرى، وهما مطبوعان فى مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة [10].
- الدخول إلى بعض المواقع المتميزة على شبكة الإنترنت.
- سؤال بعض المعنيين بالمخطوطات وأماكنها.
وعلى أى حال، لا يجوز أبدًا أن يُنشر كتابٌ ما عن نسخة واحدةٍ، ما دام له نسخ أخرى معروفة، لئلا يعوزه التحقيق العلمى والضبط.
وعلى المحقق أن يتذكر بأن مخطوطات الكتاب ليست سواء فى أقدارها، ففيها الكامل والناقص، وفيها القديم والمتأخر، وفيها الواضح والغامض، وفيها الموثق بسماعاته وإجازاته ومقابلاته، وغير الموثق.
أما إذا كانت النسخة فريدة ليس لها ثان، فهذا الأمر يحتاج إلى جهد مضاعف جدا لتحقيها، ودراية واسعة ويقظة ووعى فى التقويم والتصحيح، وتشترط قواعد خاصة بالمحقق الذى ينبرى لتحقيق مثل هذه المخطوطة، ولا شك أن الاستعانة بالمراجع العلمية اللازمة، والصبر على قراءة المخطوط تعد خير الوسائل فى التغلب على مثل هذا النوع من التحقيق.
المطلب الثالث: دراسة النسخ
بعد الانتهاء من جمع النسخ، فإن المرحلة التالية على المحقق هى قيامه بدراسة النسخ المختلفة، وتقوم هذه الدراسة بانتقاء النسخة المتقدمة تاريخيًا، مع ما تتميز به من جودة فى الضبط والكتابة والعناية بها لدى العلماء، وما فيها من سماعات وتملّكات وغير ذلك، ويكون اختيار النسخ على الترتيب الآتى:
- نسخة المؤلف، هى المقدَّمة والتى يمكن أن نسميها نسخة (الأم) أو نسخة (الأصل)[11].
- تليها النسخة التى قرأها المصنِّف، أو قُرأت عليه، وأثبت بخطه أنه قرأها أو قرئت عليه.
- تليها النسخة التى نقلت عن نسخة المصنف، وتمت مقابلتها بها.
- ثم نسخة كتبت فى عصر المصنف، عليها سماعات على عالم متقن ضابط.
- ثم نسخة أخرى كتبت بعد عصر المؤلف، وفى هذه النسخ يفضل النسخة المتقدمة على المتأخرة، إلا لاعتبارات أخرى، مثل أن تكون المتأخرة أكثر اتقانا، وكتبها عالم، أو قرئت عليه، أو أن تكون منسوخة من أصل صحيح وغير ذلك [12].
بعدما تم اختيار الكتاب، وجمع نسخه، ثم الموازنة بين هذه النسخ، ينتقل المحقق إلى الأعمال التى تخدم الكتاب، وتنحصر فى الأمور الآتية:
1- نَسْخ المخطوط:
يتم النَّسْخ عن النُّسخة الأم المعتمدة أصلاً، على الآلة الكاتبة (الكمبيوتر)، ويُراعى ما يأتى:
- كتابة الكلمات وفق الإملاء الحديث.
- إرجاع الاختصارات والرموز التى يجدها فى النسخة إلى أصلها.
- تنظيم مادة النص وتنسيق فقراته.
- الاعتناء بترقيم النصوص قدر الاستطاعة.
- ضبط النص بالشكل، ولا سيما الآيات القرآنية، والأحاديث الشريفة، والشعر، والأعلام المشتبهة التى يؤدِّى ترْكُها إلى التباس المعنى أو انغلاقه.
2- المقابلة:
المقابلة تعد العمود الفقرى للتحقيق، والأساس الذى يقوم عليه العمل العلمى.
وتتم وفق ما يأتى:
- بعد أن يتم النسخ على نسخة الأم يقوم المحقق بالمقابلة بين المنسوخ وبين هذه النسخة.
- ثم يقابل المنسوخ أيضًا على بقية النسخ الأخرى التى يرمز لها برموز معينة، ويضع كل ما كان زائدًا أو مصححًا على نسخة الأصل بين معقوفتين، مع ذكر الحجة فى ذلك فى الحاشية، وهذا الأمر يتم على جميع النسخ بما فيها نسخة المؤلف أو التى قرأت عليه، ويجب على المحقق أن يعلل بالدليل القطعى ما يذهب إليه من ترجيحات.
- ترميز نسخ المخطوطة برموز معينة، يشير إليها عند مقابلة النسخ.
3- معالجة السَّقَط:
كثيراً ما يعترض المحقق سقوط كلمة أو كلمات أو جمل من النسخة الأصلية، فإذا وجد المحقق ذلك وتحقق منه فإنه يملأ هذا السقط، ويحصره بين معقوفتين هكذا [ ]، ثم يشير فى الهامش إلى ما وجده فى الأصل، وإلى تعليل ما ذكره، ومستنده فى ذلك بالرجوع إلى المصادر التى اقتبست منه أو المصادر التى لها صلة بالكتاب.
4- التعليق والشرح:
لا ريب أن الكتب القديمة - بما تضمنتْ من معارفَ قديمةٍ - محتاجةٌ إلى توضيحٍ يخفِّف ما فيها من غموض، ويحمل إلى القارئ الثقة بما يقرأ، والاطمئنان إليه، ومن هنا كان من المستحسن ألاَّ يترك المحقِّقُ الكتابَ غُفْلاً من التعليقات الضرورية اللازمة لفهم النص، دون شطط أو تزيُّد يؤدِّى إلى إثقال الحواشى، وتحميل الكتاب ما لا طاقة له، وتُعزى كل معلومة من المصادر بالجزء والصفحة كما ذكرناه سابقًا.
وهناك أمور لا بد منها فى الاستعانة بالمراجع العلمية اللازمة، ويمكن تصنيفها على الوجه الآتى:
- كتب المؤلف نفسه، مخطوطها ومطبوعها.
- الكتب التى لها علاقة مباشرة بالكتاب، كالشروح، والمختصرات، والتهذيبات.
- الكتب التى اعتمدتْ فى تأليفها اعتمادًا كبيرًا على الكتاب.
- الكتب التى استقى منها المؤلف.
- المراجع اللغوية، وهى القياس الأول الذى نسبر به صحة النص، ونستوثق به من صحة قراءتنا له.
- المراجع العلمية الخاصة بكل كتاب حسب موضعه وفنه[13].
5- التخريج:
وذلك بعزو النقولات إلى مصادرها، ومن أهمها ما يأتى:
- عزو الآيات القرآنية إلى مواضعها فى المصحف، ووضعها بين قوسين مزهرين، ويستفاد من البرامج الالكترونية الحديثة، وهى موجودة على شبكة الإنترنت.
- تخريج الأحاديث والآثار تخريجًا لطيفًا، ليس بالطويل الممل، ولا الموجز المخل، بالاعتماد على كتب الحديث المختلفة، والاستفادة من البرامج الإلكترونية الحديثة.
ويحرص المحقق - فى الغالب - على ذكر مَن روى النص بإسناده إلى مؤلف الكتاب، لما فى ذلك من توثيق للكتاب، وعناية العلماء به، ثم مَن رواه عن شيخ المؤلف وهكذا، مرتبًا ذلك كله على حسب وفيات مؤلفيها، بعد تقديم أصحاب الكتب الستة أو أحدهم.
- تخريج الأشعار والأمثال المختلفة بالرجوع إلى الدواوين، وكتب الأمثال والأدب وغيرها.
- ترجمة الأعلام الذين فيهم إشكال، أو إبهام، أو إهمال، بما يرفع عنهم الالتباس والإشكال، ويتم ذلك بشكل موجز، مع الإشارة إلى مصدر أساسى لتراجمهم، وسوف يكفل فهرس الأعلام توضيح العلم باسمه ونسبه وكنيته بما يميِّزه عن غيره.
- التعريف بالأماكن وربطها بالواقع المعاصر، بالرجوع إلى كتب البلدان، وبعض المواقع على شبكة الإنترنت.
6- مناقشة المؤلف – باختصار - فيما ذهب إليه من بعض الآراء المخالفة لما تعارف عليه العلماء، مع الدليل عليه.
أولا: كتابة المقدمة (الدِّراسة)، وتتضمن الحديث عن المؤلِّف وكتابه:
- الحديث عن المؤلِّف يتم بترجمته ترجمة مفصلة، يراعى فيها: اسمه، ونسبه، وكنيته، ولقبه، ومذهبه، ومولده ونشأته، وطلبه للعلم ورحلاته، وشيوخه، وتلاميذه، ومؤلفاته، واستعراض ما طبع منها وما لم يطبع، وأقوال العلماء فيه، ووفاته، وغير ذلك.
- أما الحديث عن الكتاب: فيكون بإثبات عنوان الكتاب الذى اختاره المؤلف[14]، وصحة نسبته إلى مؤلفه، وبيان أهميته ومكانته، ومنهج المؤلف، واستعراض لمصادر المؤلف وموارده، ونقل العلماء اللاحقين منه، وغير ذلك من الفوائد. ولا بأس أن يذكر بعض سلبيات الكتاب بالأدلة القطعية، مع التحلى بالأدب العلمى. ثم يذكر المحقق وصف المخطوط الذى اعتَمَد عليه النشرُ وصفًا كاملاً، يذكر فيه عدد أوراقه، وتاريخ نسخه، ومقاسه، ونوع خطه، والإجازات والتملُّكات إن وجدت، ويذكر اسم المكتبة التى حُفِظ فيها الكتاب، ثم الحديث عن المنهج المتبَع فى التحقيق.
ثانيا: إثبات صورة من بعض صفحات المخطوط:
لا بد من وضع صورة من المخطوطة المعتمدة فى التحقيق بعد الانتهاء من الدراسة، وتكون ممثلة لصفحة العنوان، وصفحة المقدمة، والخاتمة، وصور بعض القراءات إن وجدت، والعادة أن تكون فى هذه الصفحات المصورة: اسم المؤلف، وعنوان المخطوط، واسم الناسخ، وتاريخ النسخ، وخاصة فى الصفحة الأخيرة من المخطوط.
ثالثا: الفهارس:
وهى مفتاح الكتاب، والغاية منها تيسيرُ الإفادة من كلِّ ما اشتمل عليه الكتابُ المنشور، وجعْل ما فيه فى متناول كل باحث، فإن بعض الكتب الكبيرة يجد فيها الباحث عناءً كبيرًا فى الوصول إلى مسألة معينة بسبب غياب الفهرسة الصحيحة للكتاب.
وتختلف الفهارس باختلاف موضوع الكتاب، على أن هناك فهارس تكاد تكون ثابتة فى الكتب الشرعية والتاريخية والأديبة، وهى: فهارس الآيات، والأحاديث، والآثار، والشعر، والأعلام، والأماكن والبلدان، ويرتب ذلك كله على حروف المعجم، سوى فهرس الآيات فإن الترتيب يكون على حسب السور، ثم الآيات.
ثم يضع فهرسا لمراجع التحقيق والدراسة، ويذكر فيه كل المعلومات المتعلقة بهذه المراجع على النحو الآتى: اسم الكتاب، اسم مؤلفه، اسم محققه إن وجد، الدار الناشرة، مكانها، رقم الطبعة، تاريخ الطبع.
وبهذا يكون قد أتى على جميع مراحل التحقيق.
* * *
وفى ختام هذا البحث الموجز نقول
إن العمل فى المخطوطات ليس عملا هيّنًا كما يبدو لبعض الناس، إنما هو علم يحتاج إلى دُربة طويلة، ودراسة عميقة، وثقافة واسعة، مع تذوق علمى وأدبى، بالإضافة إلى ضرورة أن يكون المحقق صبورًا، وأمينًا، وملتزمًا بالأدب مع العلماء والباحثين، وبذلك يتجنَّب كثيرًا من مواطن الزلل والخطأ، والله المستعان، وهو ولى التوفيق.
التوصيات
- إدخال كتب السنة كاملة من الجوامع والمسانيد والسنن والمعاجم والأجزاء الحديثية وغيرها وفق طبعات صحيحة، وأصول موثَّقة.
- التنسيق بين أهل العلم وبين من لهم معرفة بهذه البرامج.
- التنسيق بين المحققين لاختيار الكتب لتحقيقها وخدمتها.
وأخيرًا: أستغفر الله تعالى من الزلل، وأستعين به على سد الخلل، وأتوكل عليه طالبًا السداد والرشاد والمغفرة، والحمد لله رب العالمين بدءًا وانتهاءً.