المقارنة بين جهود المستشرقين والمسلمين فى تحقيق النص الحديثى
د/سامى محمد يوسف
مدرس الحديث وعلومه بجامعة الأزهر
العودة لصفحة المؤتمر
المقدمة
الحمد لله الذى جعل اللسان عنوان عقل الإنسان، وآلة تظهر سر الجنان بفصيح العبارة وصريح البيان، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد المجتبى من آل عدنان، المبعوث بجوامع الكلم الشاملة لأنواع البيان، الباهرة بفصاحتها عقول ذوى الفطن والأذهان، والمخصوص بمحاسن الشيم المتممة لمكارم الأخلاق ومزايا الإحسان، والحائز فى حلبات الاصطفاء قصبات الرهان، وعلى آله وصحبه فروع شجرته الباسقة الأفنان، وفراقد سماء رسالته، أعيان السادات وسادات الأعيان، صلاة وسلامًا دائمين ما دام طرف القلم مقادًا بعنان البنان [1].
وبعد، فقد شرف الله سبحانه وتعالى أهل العلم والعلماء، وجعلهم أفضل من تحت أديم السماء وأثنى سبحانه على العلماء فى الآيات الزاهرة، ورفع منازلهم وجعلها بينة ظاهرة، وأعلى مراتبهم فى الدنيا والآخرة.
وقد ثبت فى العقول أن البناء لا يقوم على غير أساس، والفرع لا ينبت إلا على أصل، والثمر لا يجتنى من غير غرس.
وقد شرع الله تعالى لنا هذه الدين وتكفل بحفظه، فقيض له علماء أفذاذ فى كل زمن يحملون رايته، ويذبون عن حياضه.
ولم يقتصر الأمر على العلماء فقط، بل قيض الله مؤسسات وهيئات ومجامع علمية أخذت على عاتقها رفع راية هذا الدين، وكان من بينها جمعية المكنز الإسلامى، التى أصدرت العديد من كتب السنة، وهى الآن بصدد عقد مؤتمرها الثانى المتعلق بتحقيق التراث.
فحدانى غرض اختلج فى سرى، وأمل اعتلج فى صدرى أن أكتب بحثا أشارك به فى هذا المؤتمر، يتعلق بمحور " المقارنة بين جهود المستشرقين والمسلمين فى تحقيق النص الحديثى" فحسرت عن ساعد الكد، وعمدت إلى حسان الكتب المجموعة فى ضروب البحث، فتصفحت مضمونها وتلمحت فنونها واستفتحت عيونها واستبحت أبكارها، فاستخلصت غرر فوائدها، وقيدت أوابد شواردها، بأسلوب محكم وعبارة رصينة. وجعلته فى مقدمة وأربعة مباحث وخاتمة وفهارس.
هذا؛ وغاية عملى فى هذا الشأن كما قال الإمام البغوى (ت516ه) رحمه الله تعالى: وإنى فى أكثر ما أوردته بل فى عامته متبع، إلا القليل الذى لاح لى بنوع من الدليل، فى تأويل كلام محتمل، أو إيضاح مشكل، أو ترجيح قول على آخر، إذ لعلماء السلف رحمهم الله تعالى سعى كامل فى تأليف ما جمعوه، ونظر صادق للخلف فى أداء ما سمعوه. والقصد بهذا الجمع، مع وقوع الكفاية بما عملوه، وحصول الغنية فيما فعلوه، الاقتداء بأفعالهم، والانتظام فى سلكٍ أحد طرفيه متصل بصدر النبوة، والدخول فى غمار قوم جدوا فى إقامة الدين، واجتهدوا فى إحياء السنة، شفعا بهم، وحبا لطريقتهم، وإن قصرت فى العمل عن مبلغ سعيهم، طمعا فى موعود الله سبحانه وتعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن " المرء مع من أحب" [2].
وكما قال أبو بكر ابن دريد (ت321ه): ولم أجر فى إنشاء هذا الكتاب إلى الإزراء بعلمائنا، ولا الطعن على أسلافنا، وأنى يكون ذلك؟، وإنما على مثالهم نحتذى، وبسبلهم نقتدى، وعلى ما أصلوا نبتنى[3].
وحسبى من هذا قول ابن القيم رحمه الله تعالى: ولولا أن الحق لله ورسوله، وأن كل ما عدا الله ورسوله، فمأخوذ من قوله ومتروك، وهو عرضة الوهم والخطإ، لما اعترضنا على من لا نلحق غبارهم، ولا نجرى معهم فى مضمارهم، ونراهم فوقنا فى مقامات الإيمان، ومنازل السائرين، كالنجوم الدرارى، ومن كان عنده علم فليرشدنا إليه، ومن رأى فى كلامنا زيغا، أو نقصا وخطأ، فليهد إلينا الصواب، نشكر له سعيه. ونقابله بالقبول والإذعان والانقياد والتسليم[4].
ولا أدعى أن حزت قصب السبق، أو بلغت درجة الكمال، فإن عمل الإنسان مهما بلغ من الجودة والإتقان يعتريه الخطأ والنقصان، ولقد صدق عبد الرحيم البيسانى حين قال: " إنى رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابًا فى يوم إلا قال فى غده أو بعد غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر"[5].
والله أسأل أن يجعل هذه الورقات درة مفيدة للمتدرب الكاتب، وخريدة منجية للمتعلم عن المتاعب، ودفينة رزينة لمن يريد اقتناء الدر من أصوب المناهج، إنه ولى كل خير، والهادى إلى سبيل الرشاد، وهو حسبى ونعم الوكيل، عليه توكلت وإليه أنيب
۞۞۞
المبحث الأول: معنى التحقيق
قبل أن نتعرض لتعريف علم التحقيق، نعرف التحقيق أولا .
* تعريف التحقيق لغة:
قال ابن فارس: (حَقَّ) الْحَاءُ وَالْقَافُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى إِحْكَامِ الشَّىْءِ وَصِحَّتِهِ، فَالْحَقُّ نَقِيضُ الْبَاطِلِ، ثُمَّ يَرْجِعُ كُلُّ فَرْعٍ إِلَيْهِ بِجَوْدَةِ الِاسْتِخْرَاجِ وَحُسْنِ التَّلْفِيقِ وَيُقَالُ حَقَّ الشَّىْءُ وَجَبَ[6].
وقَالَ ابْن المظفر: أحَقَّ الرجلُ إِذا قَالَ حَقًّا، أَو ادَّعى حقًّا فَوَجَبَ لَهُ، وحقَّق الرجل إِذا قَالَ: هَذَا الشَّىْء هُوَ الحقّ كَقَوْلِك: صدّق، وقال أَبُو عبيد عَن الْكسَائى: حَقَقْت الرجل وأحققته إِذا غلبته على الْحق وأثبتَّه عَلَيْهِ، وَقَالَ شمر: حققت الْأَمر وأحققته إِذا كنت على يَقِين مِنْهُ[7].
وقال الجوهرى: قال أبو عبيد: حَقَقْتُ الأمر وأَحْقَقْتُهُ أيضًا، إذا تَحَقَّقْتُهُ وصرت منه على يقين. قال الكسائى: يقال حُقَّ لك أن تفعل هذا، وحُقِقْتَ أن تفعل هذا، بمعنًى. وحُقَّ له أن يفعل كذا، وهو حَقيقٌ أن يفعل كذا، وهو حَقيقٌ به، ومَحْقوقٌ به، أى خليقٌ له، والجمع أَحِقَّاءُ ومحقوقون، وحق الشىء يحق بالكسر، أى وجب، وأحققت الشىء، أى أوجبته، واسْتَحْقَقْتُهُ، أى استوجبته، وتَحَقَّقَ عنده الخبر، أى صحَّ، وحَقَّقَتُ قولَه وظنَّه تَحْقيقًا، أى صدَّقت، وكلام محقق، أى رصينٌ[8].
وقال ابن سيده: حَقَّ الأمْرُ يحِقُّ ويَحُقُّ حَقًّا وحُقُوقا: صارَ حَقًا وثبتَ، وحَقَّه يَحُقُّهُ حَقًا وأحَقَّه كِلَاهُمَا أثْبَتَهُ. وَصَارَ عِنْده حَقًا لَا يَشُكُّ فِيهِ، وأحَقّه: صَيرَه حَقّا، وحَقَّهُ وحَقّقَهُ: صَدَّقَه. وَقَالَ ابنُ دُرَيْد: صَدَّقَ قائلَه، وحَقَّ الأمْرَ يَحُقُّهُ حَقّا وأحَقَّه: كانَ مِنْهُ على يَقينٍ[9].
وقال الزمخشرى: حققت الأمر وأحققته: كنت على يقين منه. وحققت الخبر فأنا أحقه: وقفت على حقيقته. ويقول الرجل لأصحابه إذا بلغهم خبر فلم يستيقنوه: أنا أحق لكم هذا الخبر، أى أعلمه لكم وأعرف حقيقته[10].
وقال الفيومى: الْحَقُّ خِلَافُ الْبَاطِلِ، وَهُوَ مَصْدَرُ حَقَّ الشَّىْءُ، مِنْ بَابَى ضَرَبَ وَقَتَلَ ،إذَا وَجَبَ وَثَبَتَ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِمَرَافِقِ الدَّارِ: حُقُوقُهَا، وَحَقَّتْ الْقِيَامَةُ تَحُقُّ مِنْ بَابِ قَتَلَ: أَحَاطَتْ بِالْخَلَائِقِ، فَهِى حَاقَّةٌ، وَمِنْ هُنَا قِيلَ حَقَّتْ الْحَاجَةُ: إذَا نَزَلَتْ وَاشْتَدَّتْ، فَهِى حَاقَّةٌ أَيْضًا، وَحَقَقْتُ الْأَمْرَ أَحُقُّهُ إذَا تَيَقَّنْتُهُ أَوْ جَعَلْتُهُ ثَابِتًا لَازِمًا[11].
مما سبق يتبين أن معنى التحقيق فى اللغة يدور حول إحكام الشىء أو التيقن من صحته أو ثبوته ولزومه، أو معرفة وجه الصواب فيه.
ورأى أحد الباحثين أن كلمة (تحقيق) تقابل كلمة Edi by، وتعنى: تحرير أو تهذيب وتصحيح وتحقيق أو تعليق أو عناية وتصحيح[12].
* وفى الاصطلاح:
قال الجرجانى: التحقيق: إثبات المسألة بدليلها[13].
وهذا التحقيق بصفة عامة أما التحقيق الذى يهمنا هنا فهو المضاف للنصوص أو التراث أو المخطوطات، فالتحقيق المرتبط بهذه المصطلحات عرفه أهل العلم بتعريفات شتى.
قال الدكتور رمضان عبد التواب: تحقيق النص معناه قراءته على الوجه الذى أراده عليه مؤلفه، أو على وجه يقرب من أصله الذى كتبه به هذا المؤلف[14].
وجاء فى " المعجم العربى الأساسى" : تحقيق الكتب والمخطوطات والنصوص: فرع من فروع البحث العلمى، يراد به التثبت من سلامة النص عن طريق جمع النسخ المختلفة له، ومعرفة تاريخها ومقابلة بعضها ببعض، وذكر الاختلافات بينها، واختيار الأقرب منها للصواب[15].
ويقول الدكتور مصطفى جواد: ويراد بتحقيق النصوص، الاجتهاد فى جعلها ونشرها مطابقة لحقيقتها كما وضعها صاحبها ومؤلفها من حيث الخط واللفظ والمعنى؛ وذلك بسلوك الطريقة العلمية الخاصة بالتحقيق[16].
وقال الدكتور الصادق عبد الرحمن الغريانى: تحقيق المخطوطات والكتب، هو إخراجها ونشرها، وتيسيرها للاستفادة منها فى الصورة التى أرادها لها مؤلفوها، أو أقرب ما تكون إلى ذلك[17].
ويقول الدكتور جورج ميخائيل كرباج: إن التحقيق علم وفن يراد بهما إخراج النص المراد نشره كما وضعه مؤلفه تمامًا وارتضاه لنفسه نهائيًا، دون التعليقات والشروح المثبتة على هوامش النص.
والكتاب المحقق: هو الذى صح عنوانه، واسم مؤلفه، ونسبة الكتاب إليه، وكان متنه مطابقًا للصورة التى تركها مؤلفه أو أقرب ما يكون إليها (Constitus textus)[18].
ويقول العلامة عبد السلام هارون: التحقيق، هذا هو الاصطلاح المعاصر الذى يقصد به بذل عناية خاصة بالمخطوطات حتى يمكن التثبت من استيفائها لشرائط معينة، فالكتاب المحقق هو الذى صح عنوانه، واسم مؤلفه، ونسبة الكتاب إليه، وكان متنه أقرب ما يكون إلى الصورة التى تركها مؤلفه[19].
وقال الأستاذ بوطاهر بوسد: التحقيق، هو اتباع وسائل معينة للوصول بالنص المخطوط إلى الصورة التى يغلب على الظن أنها كلام المؤلف الذى نسب إليه هذا النص[20].
ويقول الدكتور هادى نهر: تحقيق المخطوط يعنى: قراءته قراءة صحيحة، وإحكام تحريره وضبطه، وإخراجه على الوجه الصحيح الذى وضعه عليه مؤلفه أو على أقرب وجه يطابق الوضع الأصيل الذى تم على يد مصنفه، كل ذلك بالاعتماد على منهج علمى يحكم سير عملية التحقيق[21].
وقال الدكتور عبد الهادى الفضلى: تحقيق التراث، هو العلم الذى يبحث فيه عن قواعد نشر المخطوطات، أو هو دراسة قواعد نشر المخطوطات[22].
وجل هذه التعريفات – باستثناء ما قله الدكتور عبد الهادى الفضلى - يدور حول إخراج النص المخطوط على الوجه الصحيح الذى وضعه عليه مؤلفه أو أقرب ما يكون إلى ذلك، وفق منهج علمى محدد.
أما ما ذكره الدكتور عبد الهادى الفضلى فإنه أقرب إلى تعريف علم التحقيق.
فقد عرفه بعض أهل العلم بأنه : العلم الذى يبحث فى قواعد ومناهج التحقيق وكيفية إخراج الكتب وإعدادها للطبع والنشر[23].
۞۞۞
المبحث الثانى: التحقيق فن عربى أصيل
يعد التأليف فى علم التحقيق، باعتباره علما مستقلا له مناهجه وأصوله، علما حديثا نسبيا ظهر بعد ظهور وانتشار الطباعة فى القرن الخامس عشر الميلادى، ولكن هذا الأمر لا يعنى أن العرب لم يعرفوا أى شكل من أشكال التحقيق ووسائله بل على العكس من ذلك عرفت الحضارة العربية مجموعة من العمليات التى تعد من صميم التحقيق، ومنها الضبط، وجمع النسخ، والمقابلة بينها، وصنع الفهارس ...إلخ، إلا أن ظهور آلات الطباعة فى الغرب قد ساعد على تقدم المستشرقين فى تحقيق ونشر العديد من تراث المسلمين.
وقد اغتر بعض المعاصرين بهذا وغيره فظنوا أن علم التحقيق إنما هو علم نشأ وترعرع على أيدى المستشرقين، وأن العرب تتلمذوا على هؤلاء المستشرقين فى هذا الفن.
يقول الدكتور موفق بن عبد الله بن عبد القادر: وبما أن المستشرقين الأوربيين كانوا من أوائل من اعتنى بنشر كتب تراثنا الخالد، فقد ظهر الزعم القائل : إن علم التحقيق وتثبيت النصوص إنما هو علم نشأ فى أوروبا وترعرع ونما على يد المستشرقين، وأن المسلمين عالة على هؤلاء الغربيين وأنهم مدينون بالفضل لجهود المستشرقين فى هذا المجال، يقول مقدم كتاب " أصول نقد النصوص ونشر الكتب": إن نقد النصوص القديمة من شعر وغيره، علم من جهة وصناعة واصطلاح من جهة أخرى، وقد نشأ هذا العلم، وترعرعت هذه الصناعة فى أوربا منذ القرن الخامس عشر بعد الميلاد... وهكذا أصبح لدى العديد من الباحثين والمحققين قناعة تامة أن فن توثيق النصوص وضبطها هو فن أوروبى المنشأ، وأضحى الحديث عن أخطاء المستشرقين فى أساليب التحقيق يعد جريمة نكراء، أو أن الحديث عن منهج التحقيق وتوثيق النصوص عند المحدثين إنما هو :{ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} (النور الآية: 39)، لذا كان لزاما علينا أن نكتب هذا البحث الموجز فى " توثيق النصوص وضبطها عند المحدثين " ؛ ليطلع القاريء الكريم على جهود علماء الحديث فى توثيق النصوص وضبطها، وليعرف دورهم الكبير فى وضع قواعد التحقيق وأنهم هم السابقون فى هذا المضمار، وأن قواعدهم التى وضعوها فى تحقيق النصوص وتوثيقها هى القواعد التى سار عليها المؤلفون فى كافة الفنون، والتزم بها النساخ للكتب قديما وحديثا[24].
ويقول الدكتور عباس هانى الجراخ بعد أن ذكر جماعة من المحققين العرب، وأشار إلى جهودهم فى هذا الفن: وثمة أعمال هى تكرار واجترار للكتب التى سبقتها، وكان الأولى أن لا تظهر، وهو ما كتبه د/ أسعد النجار، الذى ألف هذا الكتاب من عدد قليل جدا من تلك الكتب، ولم يعرف غيرها، وفيه أخطاء وهفوات ونواقص كثيرة، ويضاف إليه بدرجة أقل ما كتبه على جهاد حسانى، الذى أكد أن التحقيق لم يمارسه العرب، ثم ذكر بعد ذلك أن العرب مارسوه، ثم خلا كتابه حتى فى طبعته الثانية المنقحة من الهوامش التى تبين المصادر التى نقل منها[25].
ويقول الدكتور رمضان عبد التواب: يظن بعض الباحثين من العرب أن فن تحقيق النصوص فن حديث ابتدعه المعاصرون من المحققين من العرب أو استقوه من المستشرقين الذين سبقونا فى العصر الحاضر بعض الوقت فى تحقيق شيء من تراثنا ونشره بين الناس، ولكن الحقيقة بخلاف ذلك، فقد قام فن تحقيق النصوص عند العرب مع فجر التاريخ الإسلامى، وكان لعلماء الحديث اليد الطولى فى إرساء قواعد هذا الفن فى تراثنا العربى، وتأثر بمنهجهم هذا أصحاب العلوم المختلفة، وإن كثيرا مما نقوم به اليوم من خطوات فى فن تحقيق النصوص ونشرها، بدءًا من جمع المخطوطات والمقابلة بينها، ومرورا بضبط عباراتها وتخريج نصوصها، وانتهاءً بفهرسة محتوياتها لمما سبقنا به أسلافنا العظام من علماء العربية الخالدة[26].
ويقول فى موضع آخر: لقد سبق العرب علماء أوربا إلى الاهتداء للقواعد التى يقابلون بها بين النصوص المختلفة لتحقيق الرواية والوصول بتلك النصوص إلى الدرجة القصوى من الصحة[27].
ويقول الدكتور هانى عباس الجراخ: إن سبق المستشرقين إلى الاهتمام بالتراث العربى، وانصرافهم إلى تحقيقه ودراسته، يعود إلى أهميته عندهم، ولو لم يكن فيه نفع وغناء لحضارة الغرب ما صرفوا إليه كل هذه العناية، ولكننا لا نريد أن نبخسهم حقهم، إلا لنؤكد أن التحقيق فن عربى أصيل، وضع قواعده علماء العرب بدقة كبيرة سواء فى معالجتهم الأحاديث النبوية الشريفة أو النصوص الأخرى، وحتى الفهارس التى صنعها الغربيون كان العرب قد سبقوهم إليه، ومنها الفهارس التى صنعها ابن الأثير، لكن المستشرقين تبنوا إحياء هذا الفن فى هذه العصور الغربية، فلهم نسلم بفضل تنبيه المسلمين إلى أهمية إخراج تراثهم الذى كانوا قد غفلوا عنه، مع إبراز قواعد التحقيق التى كانت مبثوثة مسطورة فى تراثنا الدفين، وكانت المطبعة قد ساعدتهم على نشر ما حققوه، وما أضافوه فى علم تحقيق النصوص يمكن أن يصنف فى حيز ما يسمى بـــــــــــ: الخواص التنظيمية التى تزين علما ولا تضعه وضعا جديدا، ويبقى لهم الفضل على ما نبهوا وأعانوا وقدموا[28].
ويقول الدكتور محمود الطناحى: وما يقال عن قيام المستشرقين بأعمال تراثية جليلة، يقال مثله عن علمائنا العرب، ولست هنا بسبيل التمثيل بكتاب، أو عالم، فهو شيء معروف مشهور، ولسنا مسئولين عن غفلة الغافلين، أو نوم النائمين! على أنه لا ينبغى فى مجال المقارنة بين جهود المستشرفين فى نشر التراث، وجهود العلماء العرب، أن لا نغفل أمرا هاما يتصل بحال القوم وحالنا نحن فيما يعملون وفيما نعمل، وهو أمر نذكره كارهين له مضطرين إليه، ونرجو أن يصرفه الله عنا،
ذلك أن المستشرق الذى يقوم على نشر التراث يعمل داخل نظام عام يحترم عمله ويعرف له جلاله وخطره ويهيىء له ما يعينه على المضى فيه وإتمامه هادئا مطمئنا، وكنت أيام عملى بمعهد المخطوطات أرى أحدهم يأتى إلى القاهرة ليقيم شهرا يطلع فيه على مخطوطات القاهرة، ثم يذهب إلى استانبول ليطلع على مخطوطاتها، فيقيم شهرا آخر، كل ذلك من أجل إعداد مادة لتحقيق جزء واحد من " الوافى بالوفيات " للصفدى، وهو بعد كل ذلك إذا أراد مخطوطا من أى مكان فى العالم، جاءه يسعى دون جهد منه أو عناء.
أما عندنا، وإلى الله المشتكى، فمحقق التراث يتحمل عناء باهظا فى جمع نسخ الكتاب المخطوطة، وهو بعد ذلك يلاقى المصاعب والمتاعب فى تحصيل المادة المعينة على تحقيق الكتاب، فإذا فرغ من كل ذلك، جاء البحث عن الناشر الذى يقوم على طبع الكتاب، وإقناعه بجدوى الكتاب، ورواجه فى السوق التجارى، ثم يأتى أجر المحقق بعد هذه الرحلة المضنية زهيدا بخسا، وضن عليه الناشر بما يناسب جهده وعرقه.
وحين اتجهت بعض البلدان العربية الغنية على المحققين وأجزلت لهم الأجر، ولكن وهذه حقيقة نرجو ألا تغضب أحدا، اقترن الأمر بشيء من المن، وبين الضن والمن فترت همم وخبت جهود وأحجم رجال.
فإذا أنت قايست ما أنتجه المستشرقون فى ظروفهم المعينة المساعدة وما أنتجناه نحن فى ظروفنا الضيقة الحرجة كانت الكفة أرجح وأوزن.
هذا أمر، وأمر خطير ينبغى أن يؤخذ فى مجال المقارنة، وهو موقف الجامعات العربية من نشر التراث أو استلهامه فى أعمال أدبية كبيرة.
لقد ذكرت من قبل أن نشاط المستشرقين فى نشر التراث العربى ارتبط ارتباطا وثيقا بالجامعات عندهم، وكان ذلك ضروريا لقيام دراساتهم العربية على أساس متين، فلا دراسة صحيحة مع غياب النص الصحيح المحرر، ومعنى هذا أن كل جهد يبذله المستشرق فى نشر مخطوط أو فهرسة كتاب محسوب فى موازينه العلمية، مدخر له عن تفاضل الرجال والأقدار.
أما فى جامعاتنا العربية؛ فقد غاب نشر النصوص عندها غيابا يوشك أن يكون تاما، ولا يغرنك ما تراه هنا وهناك، من تحقيق نص للحصول على الماجستير أو الدكتوراه، فهو برق خُلَّب، وسراب خادع[29].
۞۞۞
المبحث الثالث:
أسبقية العرب للمسشترقين فى تطبيق قواعد التحقيق
إن من يطالع تراث أئمتنا وعلمائنا، سيدرك أنهم عرفوا أصول التحقيق وقواعده وطبقوها قبل المستشرقين بأزمان متطاولة، وكانت للمحدثين اليد الطولى فى ذلك.
يقول الدكتور عبد الله بن عبد الرحيم عسيلان: لابد من الإشارة إلى أن علماءنا الأوائل من المحدثين وعلماء أصول الحديث والجرح والتعديل قد وضعوا قواعد دقيقة، من أسمى أهدافها إيصال أحاديث الرسول ‘ إلى أمته صحيحة مبرأة من أية شائبة تنال منها مع بيان درجاتها والطرق التى تؤدى بها، وأصول التحقيق فى كل ما ينسب إلى الرسول ‘ من أحاديث وآثار، وفى إطار ذلك كله تناولوا القواعد التى ينبغى اتباعها فى التثبت من صحة النص، وتحقيق الروايات والمتون وجمع النسخ والمقابلة بينها، وطرق التصحيح، وبذلك كان لهم قصب السبق فى وضع قواعد وأسس قيمة فى تحقيق المخطوطات بخلاف ما يشيع عند بعض الدارسين من أن المستشرقين هم أول من وضع أسس تحقيق النصوص حينما اتجهوا إلى تحقيق النصوص اليونانية واللاتينية بقصد التثبت من صحة نسبة النص إلى صاحبه، والحث على جمع مخطوطاته، والمقابلة بينها فى الهامش، ووضع رموز مختلفة يشار بها إلى تلك المخطوطات، وغير ذلك من الأسس، والواقع أن الكثير من الجهود التى نراها فى عصرنا باسم " منهج تحقيق المخطوطات"، و " منهج البحث "، قد اعتمد فيها واضعوها من مستشرقين وغيرهم على ما جاء عند العلماء المسلمين الأوائل من تجليات، وإبداعات فى هذا المجال، وكنت أود أن استرسل وأطيل فى بيان ذلك غير أن هذا الأمر قد بات واضحا وجليا من خلال البحوث والدراسات العديدة التى صدرت لكبار المستشرقين وغيرهم مؤكدة تألق العلماء المسلمين فى وضع قواعد وأسس التحقيق، ومنهج البحث العلمى [30].
ومن الأمثلة على ذلك:
قال الخطيب البغدادى (ت463ه): أخبرنا أبو الوليد الحسن بن محمد البلخى، ثنا محمد بن أحمد بن محمد بن سليمان الحافظ ببخارى، ثنا خلف بن محمد , قال: حدثنا محمد بن صخاب بن خزيمة , قال: سمعت أبا محمد أفلح بن بسام يقول " كنت عند القعنبى، وكتبت عنه، فقال لى: كتبت؟ قلت: نعم، قال: عارضت؟ قلت: لا، قال: لم تصنع شيئا "[31].
وقال الإمام الحميدى (ت488ه): أخبرنى أبو محمد على بن أحمد، قال: أخبرنى أبو الحسن على بن محمد بن أبى الحسين، قال: وجدت بخط أبى، قال: أمرنا الحكم المستنصر بالله رحمه الله، بمقابلة كتاب " العين " للخليل بن أحمد مع أبى على إسماعيل بن القاسم البغدادى، وابنى سعيد فى دار الملك التى بقصر قرطبة: وأحضر من الكتاب نسخًا كثيرة فى جملتها نسخة القاضى منذر بن سعيد التى رواها بمصر عن ابن ولاد، فمر لنا صدر من الكتاب بالمقابلة، فدخل علينا الحكم فى بعض الأيام، فسألنا عن النسخ، فقلنا نحن: أما نسخة القاضى التى كتبها بخطه فهى أشد النسخ تصحيفا، وخطأ، وتبديلا، فسألنا عما نذكره من ذلك، فأنشدناه أبياتًا مكسورة، وأسمعناه ألفاظًا مصحفة، ولغات مبدلة، فعجب من ذلك، وسأل أبا على فقال له نحو ذلك[32].
وقال القاضى عياض (ت544ه): وأما مقابلة النسخة بأصل السماع ومعارضتها به فمتعينة لا بد منها، ولا يحل للمسلم التقى الرواية ما لم يقابل بأصل شيخه، أو نسخة تحقق ووثق بمقابلتها بالأصل، وتكون مقابلته لذلك مع الثقة المأمون ما ينظر فيه، فإذا جاء حرف مشكل نظر معه حتى يحقق ذلك[33].
وقال الإمام السخاوى (ت902ه): ويحصل العرض إما بالأصل الذى أخذه عن شيخه بسائر وجوه الأخذ الصحيحة، ولو كان الأخذ إجازة، أو بأصل أصل الشيخ الذى أخذ الطالب عنه المقابل به أصله، أوبفرع مقابل بالأصل مقابلة معتبرة موثوقا بها، أو بفرع قوبل كذلك على فرع، ولو كثر العدد بينهما إذ الغرض المطلوب أن يكون كتاب الطالب مطابقا لأصل مرويه وكتاب شيخه، فسواء حصل بواسطة فأكثر أو بدونها، ثم إن التقييد فى أصل الأصل بكونه قد قوبل الأصل عليه بدلا منه، وإلا فلو كان لشيخ شيخه عدة أصول قوبل أصل شيخه بأحدها، لا تكفى المقابلة بغيره لاحتمال أن يكون فيه زيادة أو نقص، فيكون قد أتى بما لم يروه شيخه له، أو حذف شيئا مما رواه له شيخه[34].
ومن الأمثلة العملية على ذلك :
جَمعُ القرآن الكريم فى عهد سيدنا أبى بكر الصديق وفى عهد سيدنا عثمان رضى الله عنهما، ولعل هذا أول كتاب مقدس يحقق فى التاريخ الإسلامى بأن تجمع نسخه المتفرقة وتقابل وتحرر أصوله المكتوبة والمسموعة، وهذا من أهم قواعد التحقيق.
و" صحيح البخارى” الذى هو أصح كتاب بعد القرآن، ألفه الإمام البخارى قبل وفاته تقريبا بأكثر من عشرين عاما، وقرأه البخارى أو قريء عليه فى مجالس متعددة، وسمعه عليه خلق لا يحصون، وربما كان لكل واحد ممن سمعه نسخة كما كانت عادة المحدثين فى هذه الأزمان، ومن أشهر الرواة الذين سمعوا صحيح البخارى كله أو بعضه على مؤلفه حماد بن شاكر النسوى (ت290ه)، وإبراهيم بن معقل النسفى (ت 295ه)، ومحمد بن يوسف الفربرى (ت320ه)، وأبو طلحة منصور بن محمد البزدوى (ت329ه)، وأبو عبد الله الحسن بن إسماعيل المحاملى (330ه).
وتختلف هذه الروايات فيما بينها اختلافا كبيرا، وإن ما صنعه على بن محمد بن عبد الله اليونينى (المتوفى سنة 701ه) فى تحقيق روايات " صحيح البخارى " للإمام البخارى ( المتوفى سنة 256ه) وإخراج النص الذى بين أيدينا الآن من هذا الكتاب ليعد مفخرة لعلمائنا القدامى، فى التحقيق والضبط، وتحرى الصواب، وسلوك الطرق المختلفة للوصول إليه[35].
وقد قدم اليونينى لعمله بمقدمة نفيسة أبان فيها عن منهجه والنسخ التى اعتمد عليها ورمز لكل واحدة منها برمز، وهذا من أهم أصول التحقيق.
ففى الوقت الذى كان العرب يتضلعون بأصول التحقيق وقواعده ويطبقونها فى مؤلفاتهم، نجد الطليعة الأولى من المستشرقين الذين اهتموا بالتراث الإسلامى ينشرونه فى الغالب معتمدين على نسخة واحدة بدون مقابلة ولا تصحيح ولا فهرسة.
يقول الدكتور محمد حمدى البكرى فى مقدمة ترجمته لكتاب " أصول نقد النصوص ونشر الكتب لبرجستراسر": إن نقد النصوص القديمة من شعر وغيره، علم من جهة وصناعة واصطلاح من جهة أخرى، وقد نشأ هذا العلم، وترعرعت هذه الصناعة فى أوربا منذ القرن الخامس عشر بعد الميلاد، وذلك حينما اهتم القوم هناك بإحياء الآداب اليونانية واللاتينية، فكانوا يومئذ إذا وجدوا كتابًا من كتب القدماء قاموا بطبعه، لا يبحثون عن النسخ الأخرى لهذا الكتاب، ولا يصححون إلا أخطاءه البسيطة، فلما ارتقى علم الآداب القديمة (Philology) عمدوا إلى جمع النسخ المتعددة لكتاب من كتب القدماء، وإلى المقابلة بين النسخ المتعددة، وكانوا كلما تخالفت النسخ فى موضع من المواضع اختاروا إحدى الروايات المحتلفة، ووضعوها فى نص الكتاب، وقيدوا ما بقى من الروايات فى الهوامش، ولكنهم مع ذلك تعمدوا انتقاء المهم منها، واستنتجوا اصطلاحات حدسية، يخالفون بها ما هو مروى فى النسخ إلا أنهم فى كل ذلك لم يكن لهم منهج معلوم ولا قواعد متبعة ؛ لأنهم لم يكونوا قد فكروا تفكيرا نظريا فى تصحيح الكتب، وأى الطرق تؤدى إليه، وأيها لا تؤدى بل قد تؤدى إلى غرض باطل فاسد، وما زال الأمر كذلك إلى أواسط القرن التاسع عشر حين وضعوا أصولا علمية لنقد النصوص، ونشر الكتب القديمة، وكان أول ما وصلوا إليه من هذه القواعد مستنبطا من الآداب اليونانية واللاتينية، ثم من آداب القرون الوسطى الغربية، فألفت المقالات والكتب فى نقد النصوص، هذا ما انتهى إليه علم الآداب القديمة فى ناحية الآداب الغربية، أما المستشرقون فقد استعملوا، بعد زملائهم بمدة، تلك الأصول، وتلك القواعد فى نقد الكتب العربية والشرقية غير أنهم لم يؤلفوا فى ذلك تأليفا خاصا، ولذالك يصعب دراسة علم نقد النصوص ونشر الكتب القديمة على من لا يعرف آداب اللغات القديمة، اليونانية واللاتينية؛ فإنه إذا راجع الكتب المؤلفة فيه لم يفهمها مع أن النصوص الواردة فيه من اللاتينية واليونانية[36].
وهذا، وإن كان فيه إجحاف للعرب إلا أنه يظهر الفارق بين ما كان عليه العلماء العرب فى تصحيح الكتب ومقابلتها ونظرائهم من علماء الغرب فى هذه الحقبة من التاريخ.
هذا؛ ومن أوائل هذه الكتب التى نشرها المستشرقون بدون مقابلة ولا تصحيح
- النجاة لابن سيناء (ت428هـ) نشر فى روما سنة 1001هـ-1593م.
- تحديد أصول الهندسة لإقليدس، تأليف الخواجه نصير الدين الطوسى (ت672ه)، نشر فى روما سنة 1002ه – 1594م.
- التصريف العذى لإبراهيم بن عبد الوهاب الزنجانى (ت655هـ) نشر فى روما 1019ه - 1610م.
- عجائب المقدور فى أخبار تيمور لأحمد بن محمد الدمشقى المعروف بابن عربشاه (ت854ه) نشر فى ليدن سنة 1046ه – 1636م.
- مختصر تاريخ الدول لغريغوريوس بن هارون اليعقوبى، المعروف بابن العبرى ت685ه) نشر فى اكسفورد سنة 1073ه – 1663م.
- الفوائد الشافية على إعراب الكافية لابن الحاجب، تأليف حسين بن أحمد الشهير بذينى زاده ، من علماء القرن الثانى عشر الهجرى، نشر فى القسطنطينة سنة 1200ه – 1786م.
- المختصر فى أخبار البشر لأبى الفدا (ت732هـ)، طبع بتصحيح آرلر، صدر فى خمسة أجزاء فى لاهاى سنة 1023هـ-1789/1794م.
- الإلمام بأخبار من بأرض الحبش من ملوك الإسلام لتقى الدين المقريزى (ت845ه)، نشر فى ليدن سنة 1204ه – 1790م.
- شذور العقود فى ذكر النقود لتقى الدين المقريزى أيضا، نشر فى روستك سنة 1212هـ-1797م.
10. الأوزان والأكيال الشرعية لتقى الدين المقريزى، نشر فى روستك سنة 1215هـ-1800م[37].
وفى القرن التاسع عشر زاد اهتمام المستشرقين بالتراث العربى اهتماما بالغا، وتمثل ذلك فى عدة أمور منها:
1- جمع المخطوطات من مختلف أقطار العالم العربى والإسلامى:
اهتم المستشرقون منذ زمن طويل بجمع المخطوطات العربية من كل مكان فى بلاد الشرق الإسلامى، وكان هذا العمل مبنيًا على وعى تام بقيمة هذه المخطوطات التى تحمل تراثًا غنيًا فى شتى مجالات العلوم.
فقد اهتم ملوك وأمراء ونبلاء أوروبا باللغة العربية اهتمامًا كبيرًا منذ أوائل القرن العاشر الميلادى، فحرصوا على نقل المخطوطات العربية من بلاد الشرق سواء إبان الحروب الصليبية، أو عن طريق وسطاء لهم لجمع ما ندر من المخطوطات، وشاعت اللغة العربية فى القرون الوسطى لكثرة المتكلمين بها، ولشهرة فلاسفة الإسلام آنذاك، ولم يقف هذا الاهتمام عند حد جمع الكتب فقط، بل حرص ملوك وقساوسة وعلماء أوروبا على إنشاء المكتبات العربية فى قلب أوروبا، وعيِّنوا لها مديرًا عربيًّا لتنظيم شئونها. وكان ملوك فرنسا وإنجلترا يتنافسون فى جمع المخطوطات العربية من مكتبات الشام، فى شتى العلوم والمعارف الإنسانية.
وكان بعض الحكام فى أوروبا يفرضون على كل سفينة تجارية تتعامل مع الشرق أن تحضر معها بعض المخطوطات.
وكان البابا نيقولا الثانى مهتما بجمع الكتب الإسلامية، وهو الذى بعث رجاله لجمع الكتب من كل مكان فى الشرق، ورجع جان غرورتر من الأندلس، وهو يحمل حمل حصان من الكتب الإسلامية، ونجد المستشرق ويد ماترنز قد باع ما جمعه من مخطوطات وكتب بلغت أحد عشر مجلدا لدوق بروسيا عام 1558م ، واشترت مكتبة برلين من البروفسور هايزش بترمان حوالى ألف مخطوط، وجلب القنصل ألبروس فى دمشق لتلك المكتبة ألفى مخطوط[38].
يقول الدكتور محمد كرد على: من المصائب التى أصيبت بها الكتب أن بعض دول أوروبا، ومنها فرنسا وحكومات جرمانيا وبريطانيا العظمى وهولاندة وروسيا، أخذت تجمع منذ القرن السابع عشر كتبًا تبتاعها من الشام بواسطة وكلائها وقناصلها والأساقفة والمبشرين من رجال الدين، وكان القوم، ولا سيما بعض من اتَّسموا بشعار الدين ومن كان يرجع إليهم أمر المدارس والجوامع، بلغ بهم الجهل والزهد فى الفضائل أن يفضلوا درهمًا على أنفس كتاب، فخانوا الأمانة واستحلوا بيع ما تحت أيديهم أو سرقة ما عند غيرهم، والتصرف فيه كأنه ملكهم، حدثنى الثقة أن أحد سماسرة الكتب فى القرن الماضى كان يغشى منازل بعض أرباب العمائم فى دمشق، ويختلف إلى متولى خزائن الكتب فى المدارس والجوامع، فيبتاع منها ما طاب له من الكتب المخطوطة بأثمان زهيدة، وكان يبيعها على الأغلب، وأكثرها فى غير علوم الفقه والحديث من قنصل بروسيا إذ ذاك بما يساوى ثمن ورقها أبيض، وبقى هذا سنين يبتاع الأسفار المخطوطة من أطراف الشام، فاجتمع له منها خزانة مهمة رحل بها إلى بلاده، فأخذتها حكومته منه وكافأته عليها، والغالب أن معظم الكتب العربية المحفوظة فى خزانة الأمة فى برلين هى من بلاد الشام. وفهرس هذه الخزانة من الكتب العربية فقط فى عشرة مجلدات ضخمة ما عدا الملحق. وتكون فهارس الكتب العربية فى خزائن الغرب اليوم خزانة برأسها[39].
وأيضا فقد بذل سفراء وقناصل الدول الغربية فى العالم الإسلامى جهودا مضنية فى جمع المخطوطوات العربية ونقلها إلى دولهم.
ويقول الدكتور محمود الطناحى: اهتم المستشرقون بجمع واستقصاء مخطوطات الكتاب المراد تحقيقه، وبذل أقصى الوسع فى ذلك، وقد أعانهم على ذلك قناصلهم وسفراؤهم فى بلدان العالم، وهؤلاء القناصل والسفراء لم يكونوا يقبعون فى مكاتبهم للأعمال السياسية فقط، بل كانوا يقومون بنشاط ثقافى واسع، تداخلت فيه النوايا والمقاصد، كما اعانهم على ذلك المعاهد العلمية التى أقاموها فى بلدان العالم الإسلامى والعربى، مثل المعهد الفرنسى بالقاهرة ودمشق، والمعهد اللمان لللآثار باستانبول، والقاهرة، وبيروت، ثم الجامعهة الأمريكية فى القاهرة وبيروت.
وأيضا، فقد كان لرحلاتهم المتكررة إلى بلاد العرب، وتولى بعضهم إدارة دار الكتب المصرية، والتدريس فى الجامعات المصرية آنذاك، كان لذلك كله أثر ظاهر فى جمع المخطوطات، والإفادة من علماء تلك البلاد، إضافة إلى ما كان يسثمرونه من عقد مؤتمرات الاستشراق، التى كانوا يدعون إليها كبار العلماء العرب والمسلمين[40].
يقول الدكتور محمد كرد على: ومنذ القرن الخامس عشر، وربما من قرن قبله، أخذت أكثر الأمم الأوربية تبتاع بواسطة وكلائها وقناصلها وتجارها فى الشرق مخطوطات عربية تزين بها قصور ملوكها وديرتها وبيعها ودور العلم فيها، وكان سان لوى أو لويز التاسع أحد ملوك فرنسا أول الشارعين بتأسيس خزائن الكتب؛ وذلك أنه بلغه لما كان فى الشرق على عهد الحروب الصليبية أن بعض أمراء المسملين جعلوا لأنفسهم خزائن كتب يطالعونها ساعات فراغهم، فجرى هو على مثالهم، كان هذا فى القرن الثالث عشر، أما لويز الرابع عشر فى القرن الثامن عشر فقد أرسل أحد علماء النمسا إلى بلاد الإسلام ليبتاع له الكتب العربية والعبرية والسريانية واليونانية، وهكذا لم ينتصف القرن التاسع عشر حتى قدر عدد المخطوطات العربية فى أوربا بنحو مائتين وخمسين ألف مجلد، وأهم الخزائن العربية فى أوربا وأمريكا ولينينغراد وبرلين وباريز ولندرا وغوتنغن وليبسيك ومونيخ وفينا واكسفورد واديمبرج ودبلين وكمبردج وخزانة ريلندس فى منشستر والجمعية الأسياوية فى لندرا وفى باريز والاسكوريال وميلانو ورومية وبرنستون، وفى كل من هلسنغفور وموسكو واوبسالا وكونهاغن وفرنكفورت وصونك وبوفه ودرسدن وجيسين وغوتا وتوبنغ وغربسوالد وستراسبورغ وكراكو وبراغ ومجريط وفلورنسه وتورينو وبلرم وخزانة وزارة الهند فى لندرا ونيويورك وشيكاغو ويال وكليفورنيا وغيرها، خزائن عربية تختلف بعددها ونفاستها باختلاف غنى الأمة التى نشأت بينها وبزمان نهوضها لاقتناء كتبنا[41].
كما استغل المستشرقون بعض الظروف التى لحقت ببلاد المسلمين كالمجاعة التى حدثت فى القرن الثالث عشر الهجرى، فعملوا على شراء المخطوطات بأسعار زهيدة من المحتاجين للمال ، حتى أنهم كانوا يحملونها سفنا بأكملها مليئة بتلك بالمخطوطات والكتب، وأصبح هناك أسواق فى أوروبا متخصصة فى بيع المخطوطات والكتب العربية[42].
وساعدت الحملات الاستعمارية المتتابعة على العالم الإسلامى والعربى على تزايد النفوذ الغربى فى الشرق وتم نقل العديد من المخطوطات العربية إلى الدول الغربية.
وكانت حملة نابليون بونابرت على مصر ( 1798م – 1801م) أولى الحملات الغربية فى التاريخ الحديث، وكانت مجهزة ببعثة علمية قوامها علماء أعلام فى كل ضرب من ضروب ثقافة ذلك العصر، منهم: الأثريون، والمهندسون، والأطباء، والمؤرخون، والمستشرقون، والمترجمون اللبنانيون والمصريون والسوريون، من أمثال: ميخائيل صباغ (1780م -1816م) الذى اتصل بالمستشرق دى ساسى، والمستشرق كاترمير Quatremere، وعمل فى المكتبة الوطنية فى باريس، وإلياس بقطر من مصر (1748م – 1821م) أستاذ العربية فى مدرسة اللغات الشرقية بباريس، وساعد ذلك على جلب الكثير من المخطوطات.
وفى القرن العاشر الميلادى بلغت المكتبات العامة فقط فى الأندلس ما يزيد عن سبعين مكتبة حتى بلغت فهارس مكتبة قرطبة الرئيسة أربعة وأربعين مجلدا، وإذا كانت طليطلة وغيرها من المدن الأندلسية قد نقل إليها آلاف المجلدات من الشرق، فإنها قد تميزت بأمهات الكتب التى نقلت إليها من مكتبة الحكم، وباستيلاء ألفونسو السادس على طليطلة فى القرن الحادى عشر الميلادى حصل الغرب على نواة العقل التاريخى المكتوب حتى وصلت المخطوطات العربية التى تعج بها دور العلم الأوروبية، ومكتباتها إلى يومنا هذا إلى ما يزيد على مائة وخمسين ألف ألف مخطوطة، والتى لا تزال تغذى العقل اللامتناهى ناهيك عن المخطوطات العربية التى أحرقت بأمر مطران طليطلة كسيمنس كسيسنيروسximens de cisnoros، والتى تقدر بحوالى مائة ألف مخطوط عربى، وما تزال الغارات المتوالية والاستيلاء عليها إلى يومنا هذا بهذه الطريقة، وما حصل للمخطوطات العراقية اليوم خير شاهد على هذا الأمر[43].
وقد ساعد الفيض الهائل من المخطوطات المجلوبة من الشرق على تسهيل مهمة الدراسات العربية فى أوروبا وتنشيطها.
2- فهرسة المخطوطات العربية:
منذ أن جمعت المخطوطات من الشرق بطرق مشروعة وغير مشروعة، لقيت هذه المخطوطات فى أوروبا اهتمامًا عظيمًا، وتم العمل على حفظها وصيانتها من التلف والعناية بها عناية فائقة وفهرستها فهرسة علمية نافعة تصف المخطوط وصفًا دقيقًا، وتشير إلى ما يتضمنه من موضوعات وتذكر اسم المؤلف وتاريخ ميلاده ووفاته وتاريخ تأليف الكتاب ونسخه .. إلخ .
ووضعت تحت تصرف الباحثين الراغبين فى الاطلاع عليها فى مقر وجودها .
وتجدر الإشارة إلى أن أول من اهتم بفهرسة الأرصدة العربية المحفوظة فى الخزائن الأوربية هم العرب المشارقة، ويعد بطرس دياب الحلبى، وباروت السورى ويوسف العسكرى أول من فهرس مخطوطات المكتبة الوطنية الفرنسية بباريس، وكان بعض أفراد أسرة السماعنة المارونية: يوسف شمعون السمعانى وشقيقه عواد أول من تصدى لفهرسة التراث العربى فى مكتبات إيطاليا، وكذلك كان الأمر فى إسبانيا، فإن ميخائيل الغزيرى Miguel casiri (1701م – 1791م) الذى استدعته الحكومة الإسبانية كان قد وضع أول فهرسة للمخطوطات العربية بخزانة الإسكوريال، وفى العصر الحديث فى بداية الخزانة المنظمة فى المجتمع المغربى حيث وضع أول فهرس من هذا الصنف على يد المستشرق الفرنسى ألفرد بل Alfred Bel لمجموعة خزانة القرويين فى مطلع هذا القرن، وفهرس مجموعات أخرى بعد ليفى بروفنسال Levi Provencal كل من ر . ل. بلاشيرR . L. Blacher ، وغيره كما أن المستشرقين اهتموا بالتحقيق فى نسبة الكتاب، وأول من اهتم بذلك المستشرق دى جاينجوس Gayangos فى كتابه " تاريخ الحكم الإسلامى فى أسبانيا، وألف فهرس المخطوطات الإسبانية فى المتحف البريطانى[44].
وقام الأب آسين بلاثيوس (ت1944م) بوضع فهرس المخطوطات العربية فى غرناطة 1912م، ووضع الأركون إى سانتون (ت 1932م) بمعاونة جونثاليث بالنثية، وأويثى فهرس المخطوطات العربية والعجمية فى مكتبة جمعية الأبحاث العلمية بمدريد 1912، ووضع ألورد فيلهلم (ت1909م) Ahlwardt فهرس للمخطوطات العربية فى مكتبة برلين الوطنية فى عشرة مجلدات جسيمة، وصف ما يربو على عشرة آلاف مخطوط عربى تحوى كنوز الثقافة العربية، وصفا علميًا دقيقًا، وقد صدر هذا الفهرس فى نهاية القرن الماضى، ووضع أوتنج جوليوس (ت 1913م) فهرس المخطوطات العربية فى جامعة ستراسبورج القيصرية (1977)، ووضع أومير جوزيف (ت 1922م) فهرس المخطوطات العربية فى مكتبة جامعة ميونيخ1886م، والمخطوطات العربية والفارسية فى المكتبة الملكية والعالمية الرسمية فى ميونخ 1888م، ووضع إدواردز إى كشف وصفى للمخطوطات العربية التى اقتناها المتحف البريطانى منذ 1894م، وفهرس الكتب الفارسية لندن 1922م، وفهرس المخطوطات الفارسية فى مكتبة ديوان الهند المجلد الثانى أكسفورد 1937م، ووضضع كراتشكوفسكى أغناطيوس (ت1951م) فهرس مخطوطات البارون فون روزين فى المتحف الآسيوى (1918م)، وفهرس المخطوطات العربية التى أهداها البطريرك غريغوريس الرابع إلى القيصر نقولا الثانى، ثم نقلت إلى المتحف الآسيوى (1917م) وفهرس لمخطوطات النصارى العربية فى مكتبات ليننجراد[45].
وقام المستشرقون فى معظم الجامعات والمكتبات الأوروبية بفهرسة المخطوطات العربية فهرسة دقيقة.
ولم يقتصر الأمر على مجرد فهرسة المخطوطات، بل كانت هناك دراسات للمستشرقين عن هذه المخطوطات فى مجالات عديدة.
فعلى سبيل المثال قامت الباحثة كراتشكو فسكايا بإعداد بحث عن نوادر مخطوطات القرآن الكريم فى القرن السادس عشر[46]، قال عنه الشيخ أمين الخولى بعد أن سمعه أثناء حضوره لمؤتمر المستشرقين الدولى الخامس والعشرين : لقد قدمت السيدة كراتشكو فسكى بحثًا عن نوادر مخطوطات القرآن فى القرن السادس عشر الميلادى، وإنى أشك فى أن الكثيرين من أئمة المسلمين يعرفون شيئًا عن هذه المخطوطات.
وكان لهؤلاء المستشرقين عدة طرائق فى فهرسة المخطوطات العربية.
يقول الدكتور صلاح الدين المنجد: أما الطريقة التى اتبعها المستشرقون فى فهرسة المخطوطات سواء كانت اللغة التى استعملوها اللاتينية أو الألمانية أو الفرنسية أو الانكليزية أو غيرها، فليست واحدة ولا نستطيع أن نحلل هنا كل فهرس صدر إنما نرد هذه الفهارس إلى الأنواع التالية:
النوع الأول: فهارس هى أشبه بدليل أو قائمة يذكر فيها المفهرس اسم الكتاب واسم المؤلف، ورقم المخطوط فى المكتبة، وعدد ورقاته، والفن الذى يرجع الكتاب إليه، مثال ذلك: دليل مخطوطات المكتبة الوطنية فى باريز، لفاجدا، وقائمة المخطوطات العربية فى مكتبة جامعة ليدن لفورهوف.
وقد يضاف إلى ذلك اسم الناسخ، وتاريخ النسخ، وإشارة إلى موضوع الكتاب كقائمة مخطوطات مكتبة شستربتى فى دبلن لأربرى.
النوع الثانى: فهارس مفصلة يذكر فيها اسم المؤلف، والكتاب، وعدد الورقات، وعدد السطور ، ونوع الخط، وفاتحة المخطوط ونهايته، وتاريخ النسخ، ومصدر شرائه، مثال ذلك فهرس مجموعة غاريت فى جامهة برنستن لفليب حتى ونبيه أمين فارس وبطرس عبد الملك.
النوع الثالث: فهارس أكثر تفصيلا حتى لتكاد تكون دراسة للمخطوط، فيذكر فيها اسم الكتاب والمؤلف، وابواب الكتاب بالتفصيل مع نقل مطالع هذه الفصول، بالإضافة إلى المعلومات السابقة فى النوع الثانى، ومثال ذلك: فهرس مخطوطات برلين لألورد.
وإذا كنا نوافق فى فهرسة المخطوطات على النوع الأول والثانى حسب ظروف المكتبة أو المفهرس؛ فإنه لا بد أن نفصل بين فهرسة المخطوط ودراسته، وعلى هذا فالنوع الثالث لا يمكن أن نسميه فهرسا، فهو فهرس ودراسة معا، وهذا يتطلب جهدا كبيرا ووقتا واسعا، ثم إن العالم أو الباحث عند دراسته المخطوط قد ينتبه أو يهتم بأمور لم يذكرها المفهرس فى هذا النوع من الفهارس[47].
ويقول الشيخ أحمد شاكر: ومما امتازت به مطبوعات المستشرقين أن عنوا بوضع الفهارس المرشدة للقاريء أتم عناية، فى أغلب أحيانهم وتفننوا فى أنواعها، مرتبة على حروف المعجم، فمن فهرس للأعلام، ومن فهرس للشعراء، ومن فهرس للقبائل، ومن فهرس للأسانيد، ومن فهرس للىيات القرآنية، ومن فهرس للألفاظ النبوية، ومن فهرس للمسائل العلمية، على اختلاف مناحى الكتب التى تعمل لهما الفهارس، واختلاف علومها، وهذا عمل قيم جليل، لا يدرك خطره وفائدته، إلا من ابتلى بالعناء فى البحث والمراجعة، وعجز أو وصل إلى ما يريد البحث عنه.
وقد تبعهم فى ذلك كثير من المصححين المحدثين عندنا، تقليدا لهم على اضطراب فيما يصنعون وتقلقل، فمنهم من يتقن، ومنهم من يعجز، ومنهم من يوفق، ومنهم من يفشل، ومرد ذلك إلى إسناد العمل لغير أهله أحيانا، وإلى ضن الناشرين بالنفقة والأجر غالبا.
وأما دور الطباعة القديمة عندنا، وفى مقدمتها مطبعة بولاق، فلم يُعن مصححوها بهذا النوع من الفهارس أصلا، وما أظنهم فكروا فى شيء منه، مع أن مطبوعات المستشرقين كانت موجودة معروفة، ومن أمثلة ذلك: "سيرة ابن هشام " نشرها المستشرق وستنفلد فى سنتى 1859م- 1960م، ومعها فهارس مفصلة، ثم طبعت فى بولاق سنة 1295ه ( توافق سنة 1878م) بدون فهارس، وأنا أستبعد جدا أن لا تكون طبعة وستنفلد فى مصححى مطبعة بولاق عند طبع الكتاب.
وصنع الفهارس على هذا النحو ابتكار طريف، والفهارس من مفاتيح الكتب، وللمستشرقين الفضل الأول فى تطبيقه على المطبوعات العربية، أعانهم على ذلك وجود المطابع.
وكما اغتر الناس بصناعة المستشرقين فى التصحيح اغتروا بصناعتهم فى الفهارس، بل كانوا أشد بهم اغترارا، وأكثر لهم خنوعا وخضوعا، ووقع فى وهمهم اليقين بأن هذه الفهارس شيء لم يعرفه علماء الإسلام والعربية، بل ظنوا أن أنواع المعاجم كلها من ابتكار الإفرنج، وأن ما عندنا منها تقليد لهم واقتباس منهم.
وأول من علمناه نفى هذه الأسطورة وأكذب هذا الوهم صديقنا الأخ العلامة الأستاذ محمد أحمد الغمراوى، المدرس بكلية الطب المصرية فى كتاب" مرشد المتعلم " الذى ترجمه عن اللغة الإنكليزية، وألحق به فصلا بقلمه فى " كتب المراجعة فى اللغة العربية" وصف فيه كثيرا من المعاجم العربية، وذكر تاريخ مؤلفيها، ثم قال (ص275- 277): ولعلك لاحظت فى وصف هذه القواميس أنها هجائية، أى مرتبة ترتيبا هجائيا على حروف المعجم: اللف فالباء فالفاء وهلم جرا، فى جميع حروف الكلمة، على نسق المعاجم الإفرنجية، لكن المعاجم الإفرنجية فى هذا تابعة لا متبوعة، فهى فى ذاتها متأخرة النشوء، نشأت بعد عهد النهضة، أى بعد القرن الخامس عشر، والترتيب الهجائى جاء بعد ذلك، كخطوة فى تاريخ نشوئها، حتى أن أول قاموس هجائى إنجليزى لم يظهر إلى فى القرن السابع عشر، ولم يكن قاموسا بالمعنى المعروف، إنما كان مجموعة كلمات صعبة دراسية، وإنما تنزلنا فى استعمال كلمة " قاموس" وأطلقناها على مثل هذه المجموعة؛ فإن مولد القواميس الهجائية فى اللغة العربية قديم جدا، لكن استعمال " قاموس" بهذا المعنى فيه تجوز كبير، ولا داعى فيما نحن بصدده، من أى الإثنين أسبق إلى الترتيب الهجائى، الشرق أم الغرب؟؛ فإن أقدم القواميس العربية التى ذكرنا لك ظهر فى القرن الخامس الهجرى، أو الحادى عشر الميلادى، ثم قال: فتاريخ القواميس العربية الهجائية يرجع على الأقل إلى القرن العاشر، أى نحو سبعة قرون قبل تاريخ أول مجموعة كلمات انجليزية هجائية، واكثر من ثلاثة قرون قبل أول قاموس هجائى لاتينى ظهر فى أوربا حين كانت اللاتينية لغة الدب فى أوربا، قبل أن يكون لأوربا لغات أدبية، فالعرب هم أسبق الأمم الحديثة قاطبة إلى القواميس تأليفا واستعمالا للترتيب الهجائى، ومع ذلك فإن أكثر المتأدبين يعتقدون أن الترتيب الهجائى شيء ابتدعه الإفرنج واختصت به القواميس الإفرنجية.
فإذن أول معجم لطينى – لاتينى – ظهر فى أوربة كان فى القرن الثالث عشر الميلادى أو بعده، وأول مجموعة هجائية للكلمات الإنجليزية ظهرت فى القرن السابع عشر أو بعده.
فالشرق شرق، والغرب غرب، الشرق دائما ابتكار وإنشاء، والغرب دائما تلقيد ثم تنظيم. انتهى[48].
3- التحقيق والنشر:
لم يقتصر عمل المستشرقين على جمع المخطوطات وفهرستها، بل تجاوز ذلك إلى التحقيق والنشر، فقد قاموا بتحقيق الكثير من كتب التراث وقابلوا بين النسخ المختلفة ولاحظوا الفروق وأثبتوها ورجحوا منها ما حسبوه أصحها وأعدلها، وأضافوا إلى ذلك فهارس أبجدية للموضوعات والأعلام، أثبتوها فى أواخر الكتب التى نشروها، وقاموا فى بعض الأحيان بشــرح بعض الكتب شرحًا مفيدًا.
يقول الدكتور محمد كرد على: ومعظم من عنوا بلغتنا من علماء المشرقيات نشروا كتبا ورسائل مهمة من آثار السلف الصالح، ويكفى أن يقال فى هذه الهمم الشماء أن الطبع باللغة العربية الذى انتشر منذ القرن الخامس عشر فى إيطاليا ومنذ أوائل القرن السابع عشر فى هولاندة، ثم شاع بعد حين فى سائر عواصم الغرب لم يصل الأستانة إلا فى القرن الثامن عشر، ولم يهبط مصر إلا فى أوائل القرن التاسع عشر، وكان على ضعف فى الشام فى القرن الثامن عشر، وهذا أكبر دليل على انتباه الغربيين وتفوقهم علينا فى ورود مناهل العلم والتذرع بأسباب نشره وتحبيبه إلى الناس.
سادتى: يحتاج الوقوف على ما نتج للغرب من تلك النهضة فى الأخذ من علوم العرب إلى بحث مستفيض خاص، ويهمنا الآن معرفة تلك النهضة فينا وفى لغتنا، أى أن نعرض للجهة التى تخصنا من ذاك الجهاد العظيم الذى جهدوه فى إحياء العربية فقط، وذلك للتنويه بمن نشروا كتبنا فأسدوا إلى لغتنا المحبوبة أياديهم البيضاء، وعلمونا بما أحيوه دروسا فى تاريخ أمتنا ومدنية أجدادنا كنا نجهلها مع أن أعمالهم هذه وصلتنا بالعرض إذ لم يكن علماء المشرقيات أو جمعياتهم ومجامعهم يقصدون خدمتنا، بل خدمة العلم أو الأفكار التى يريدون بثها ليتخذ بعضهم من كتب أسلافنا مادة تنفعهم فى موضوع قد يرون غير رأينا فيه أو غير ذلك من المقاصد، ولكن مهما كانت النيات فقد استفادت العرب والعربية من هذه الهمة التى انبعثت من ديار الغرب ولذلك تقضى علينا أخلاقنا أن نعرف الفضل لصاحبه[49].
ثم ذكر جملة وافرة من الكتب والرسائل التى حققها المستشرقون على اختلاف موطنهم، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ـ
نشرهم لسيرة ابن هشام، والإتقان للسيوطى، والمغازى للواقدى، والكشاف للزمخشرى، وتاريخ الطبرى ، وكتاب سيبويه والاشتقاق لابن دريد ، والأنساب للسمعانى، ومعجم الأدباء لياقوت، وتجارب الأمم لابن مسكويه ، وفتوح مصر والمغرب والأندلس لا بن عبد الحكم، واللمع لأبى نصر السراح، والبديع لا بن المعتز، وحى بن يقظان لا بن طفيل ، والمختصر فى حساب الجبر والمقابلة للخوارزمى، والملل والنحل للشهرستانى، وعمدة عقيدة أهل السنة والجماعة للحافظ النسفى، وفتوح الشام للأزدى البصرى، وفتوح الشام للواقدى، والكامل للمبرد، والجمهرة لا بن دريد، وأخبار النحويين البصريين للسيرافى، وكتاب المناظر لا بن الهيثم، والإصابة فى تمييز الصحابة لا بن حجر العسقلانى ، والأحكام السلطانية للما وردى، وفضائح الباطنية للغزالى، وتاريخ اليعقوبى، والفهرست لا بن النديم، وكشف الظنون لحاجى خليفة، والتعريفات للجرجانى، وطبقات الحفاظ للذهبى، ووفيات الأعيان لا بن خلكان، وتهذيب الأسماء للنووى، وصحيح البخارى، والمقتضب لا بن جنى، ومقالات الإسلاميين للأشعرى، والوافى بالوفيات للصفدى، والتيسير فى القراءات السبع لأبى عمرو عثمان الدانى، والرد الجميل على مدعى ألوهية المسيح بصريح الإنجيل للغزالى، وعيون الأنباء فى طبقات الأطباء لا بن أبى أصيبعة، والأغانى للأصفهانى، والأوائل للسيوطى، والطبقات لا بن سعد، وعيون الأخبار لا بن قتيبة، والفقه الأكبر لأبى حنيفة، وعدد هائل من دواوين الشعر العربى فى عصور الترجمة.
وعلى أية حال، فقد اعتنى المستشرقون باللغة العربية، وحرصوا على دراسة كل ما يتصل بها من قريب أو بعيد، فبحثوا فى فقهها، وأصولها، ولهجاتها، ونحوها، وصرفها، وأصواتها، ومعاجمها، وأطوارها، ومادتها، وفلسفتها، وعلاقاتها باللغات الأخرى – خاصة السامية – ومميزاتها، وعناصرها، وتاريخها، ونقوشها.
وكان ثمرة ذلك: العديد من المؤلفات القيمة، منها: أصول نقد النصوص ونشر الكتب: لبرجستراسر، والعربية ... دراسات فى اللغة واللهجات والأساليب: ليوهان فك، واللغة: لفندريس، وتاريخ الأدب العربى: لكارل بروكلمان، وتخطيط للمعجم التاريخى المنشود للغة العربية: لفيشر.. إلخ.
ونظرًا لمكانة أمثال هؤلاء المستشرقين ودورهم المهم والمتميز فى إثراء الدراسات اللغوية، فقد صدر مرسوم فى 6 من أكتوبر 1933م، بتعيين خمسة من المستشرقين كأعضاء عاملين فى مجمع الخالدين، (مجمع اللغة العربية بالقاهرة)، وهم: (أوجست فيشر من ألمانيا، وهاملتون جب من إنجلترا، ولويس ماسينون من فرنسا، وكارلو ألفونسو نيلنو من إيطاليا، وفنسنك من هولندا).
حتى وصل الأمر أن خصص مجمع الخالدين للمستعرب الألمانى (فيشر) مكتبًا خاصًا به، - استجابة لمطلبه- حين أراد عمل معجم تاريخى للغة العربية، بل وأمده بكافة وسائل العون المختلفة، وبعد عمل متصل فى الجمع والتنسيق طوال أربع سنوات، تمهيدًا للطبع والنشر، بدأت الحرب العالمية الثانية فأوقفت كل شىء، وباعدت بين (فيشر) ومصر، وحالت دونه والإشراف على معجمه. وما إن وضعت الحرب أوزارها، حتى قعد به المرض على أن يعود إلينا، وفقدناه عام 1949م قبل أن يخرج معجمه إلى النور!.
۞۞۞
المبحث الرابع:
مقارنة بين جهود المستشرقين والعرب فى تحقيق النص الحديثى
قبل أن نتكلم على جهود المستشرقين فى تحقيق النص الحديثى ينبغى أن نشير إلى أن جهود المستشرقين فى تحقيق المخطوطات الحديثية أقل بكثير إذا ما قورنت بجهودهم فى تحقيق مخطوطات العلوم الأخرى كالتاريخ والأدب والفلسفة والعلوم الطبيعية وغيرها.
يقول الدكتور محمود الطناحى: لم تحظ فنون التراث بقدر متساو فى النشر عندهم، وقد دارت معظم النصوص التى نشروها حول التاريخ، والبلدان والجغرافيا وكتب التراجم والطبقات والأدب وداووين الشعر، وبخاصة الجاهلى، والمجموعات الشعرية الخاصة مثل شعر هذيل، والنقائض.
ومن النصوص التى حظيت باهتمامهم أيضا: نصوص الفلسفة، وعلم الكلام، والفرق، والمذاهب الفكرية، وتراث العرب العلمى التطبيقى، مثل الطب، والكيمياء، والفلاحة، والحساب والجبر، والهندسة، والفلك، والبصريات.
وهناك فنون قل إنتاجهم فيها، مثل: النحو والصرف، والبلاغة، والعروض، وإن نشروا فى ذلك نصوصا أصلية، كذلك قل إنتاجهم فى تحقيق المذاهب الأربعة، وأصول الفقه، إلا ما تراه من اهتمامهم بمختصر خليل فى فقه المالكية، وشرح البزدوى على الفقه الأكبر، والهداية فى فقه الحنفية للمرغينانى، وإرشاد الفحول إلى علم الأصول للنسفى، والحدود فى مذهب الإمام أحمد بن حنبل.
أما تفاسير القرآن الكريم، ومتون الأحاديث وشروحها، فإن نشاطهم فى تحقيق نصوصهما لا يكاد يذكر، ولم أعرف من ذلك إلا تفسير البيضاوى، المسمى أنوار التنزيل وأسرار التأويل، الذى نشره فلايشر الألمانى فى ليبزج سنة 1844م.
أما الدراسات والفهارس لهذين العلمين الجليلين، فقد مد المستشرقون فيهما يدا، ولا سبيل إلى حصر جهودهم فى هذا المضمار، فإنها كثيرة، وحسبنا أن نذكر هنا: فهرس ألفاظ القرآن الكريم، الذى وضعه المستشرق الألمانى فلوجل، وسماه:" نجوم الفرقان فى أطراف القرآن"، ونشر فى ليبسك عام 1842م، وقد كان هذا الفهرس أساسا بنى عليه الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقى رحمه الله كتابه العظيم:" المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم"، الذى طبع لأول مرة بدار الكتب المصرية عام 1364ه/1945م، و" مفتاح كنوز السنة " الذى وضعه المستشرق الهولندى فتستك، نشره عام 1936م، بمطبعة بريل بمدينة ليدن، بمعاونة بعض المستشرقين، وقد توفى قبل إتمامه، فأتمه من بعده تلاميذه، وانتهوا منه سنة 1969م.
ومن أبرز جهودهم فى الحديث النبوى الشريف: " ترجمة صحيح البخارى " للمستشرق النمساوى ليوبولد فايس، الذى نشره عام 1935م.
وهذا المستشرق أعلن إسلامه، وتسمى بمحمد أسد وايس، والله أعلم بحقيقة حاله، وأنشأ بمعاونة وليم بكتول، الذى أسلم هو الآخر، مجلة الثقافة الإسلامية فى حيدر آباد بالهند سنة 1927م، وكتب فيها دراسات وفيرة، معظمها فى تصحيح أخطاء المستشرقين عن الإسلام[50].
أما عن منهج المستشرقين فى تحقيق التراث عموما فقد أشرنا إلى جانب منه فيما سبق، وأنه فى مراحله الأولى كان تحقيقًا بدائيا يعوزه شيء من الدقة، حيث كانوا يعتمدون على نسخة واحدة غالبا، وقد تكون غير مصححة ولا معتنى بها فنيا.
وفى عصر النهضة الأوربية أصبح التحقيق عندهم مبنيا على أصول وقواعد دقيقة.
يقول الدكتور عبد الله بن عبد الرحيم عسيلان: وقد درج المستشرقون فيما نشروه من الكتب العربية على العناية بجمع النسخ المخطوطة للكتاب، ودراسة هذه النسخ واختيار المعتمد منها فى التحقيق، ثم المقابلة بينها، وإثبات فروق النسخ فى الهوامش، وتبدو لديهم المغالاة فى هذا الجانب بإثبات كل ما يعن لهم من فروق دون تمييز بين ما يستدعى المقام الإشارة إليه، أو لا يدعيه، مما لا فائدة من الإشارة إليه، أو مما قد يكون من أخطاء النساخ وتصحيفاتهم، ومن ملامح نهجهم فى التحقيق ما نجده عندهم من العناية بوصف نسخ الكتاب المعتمدة فى التحقيق وصفا يبرز أهم ملامح المخطوطة، ويعرِّف بواقعها، مما يكسب القاريء ثقة بالنص المنشور كما يحرصون على الفهرسة التفصيلية للكتاب، من واقع الكتاب، وما يحتاجه من الفهارس المتنوعة، وعملوا على إيجاد الصلة بين الكتاب الذى يعملون على تحقيقه، وبين المصادر الأخرى ذات الصلة بموضوعه سابقة ولاحقة وأفادوا من ذلك فى تحرير مادة الكتاب، وتوثيق نصوصه وشواهده.
وهذا النهج وإن بدا فى نظر البعض للوهلة الأولى أنه نهج جديد، ولم يكن مألوفا عند سواهم غير أن المتأمل فى تراثنا الإسلامى، يجد أن علماءنا الأوائل من المحدثين وغيرهم سبقوا إلى التنبيه على الشىء الكثير مما يدخل فى منهج التحقيق[51].
ومن خلال نظرة سريعة فيما أبرزه علماء العرب من مخطوطات حديثية يتبين لنا بجلاء الأسس والقواعد التى انتهجها المحدثون فى مجال تحقيق النصوص ونشرها، ويمكن تلخيص ذلك فى عدة نقاط منها:
1- جمع النسخ والمقابلة بينها.
قال القاضى عياض فى كتاب " الإلماع" باب ضبط اختلاف الروايات والعمل فى ذلك (ص189): هذا مما يضطر إلى إتقانه ومعرفته وتمييزه وإلا تسودت الصحف واختلطت الروايات ولم يحل صاحبها بطائل، وأولى ذلك أن يكون الأم على رواية مختصة ثم ما كانت من زيادة الأخرى ألحقت، أو من نقص أعلم عليها ،أو من خلاف خرج فى الحواشى، وأعلم على ذلك كله بعلامة صاحبه من اسمه أو حرف منه للاختصار لا سيما مع كثرة الخلاف والعلامات وإن اقتصر على أن تكون الرواية الملحقة بالحمرة فقد عمل ذلك كثير من الأشياخ وأهل الضبط كأبى ذر الهروى وأبى الحسن القابسى وغيرهما فما أثبت لهذه الرواية كتبته بالحمرة وما نقص منهما مما ثبت للأخرى حوق بها عليه، وقد يقتصر بعض المشايخ على مجرد التخريج والتحويق والشق لإحدى الروايتين ويكل الأمر إلى ذكره وما عقده مع نفسه من ذلك وقد رأيت أبا محمد الأصيلى التزم ذلك فى كثير من كتابه فى صحيح البخارى الذى بخطه وما وقع فيه على أبى زيد المروزى وقيد فيه روايته ورواية أبى أحمد الجرجانى الذى عليها أصل كتابه فما سقط لأبى زيد ولم يروه عنه شق عليه بخطه أو حوق عليه، وما سقط لهما معا شق عليه بخطين ليظهر سقوطه لهما وما اختلفا فيه أثبت عليه اسم صاحبه.
وفصل الإمام السخاوى فى " فتح المغيث " أحوال المقابلة والعرض[52]. وقد طبق المحدثون هذا الأصل .
روى ابن عساكر فى ترجمة أبى ثعلبة الخشنى رضى الله عنه، بسنده عن حنبل بن إسحاق، قال: حدثنى أبو عبد الله، قال: أبو ثعلبة الخشنى، جرهم بن ياشم، قال: بلغنى عن سعيد بن عبد العزيز، قال: أبو ثعلبة جرثوم، وفى رواية ابن بشران ناشم بالنون والشين، وكان فى الأصل العتيق باشم، بالباء والشين، وكذلك هو فى نسخة بخط أبى عمر بن حيوية، كتبها عن ابن السماك، والله أعلم[53].
2- الاعتماد على نسخة المؤلف عند اختلاف النسخ
قال المعلمى اليمانى: واعلم أن المتقدمين كان يعتمدون على الحفظ فكان النقاد
يعتمدون فى النقد عدالة الراوى واستقامة حديثه، فمن ظهرت عدالته وكان حديث مستقيمًا وثقوه، ثم صاروا يعتمدون الكتابة عند السماع فكان النقاد إذا استنكروا شيئًا من حديث الراوى طالبوه بالأصل، ثم بالغوا فى الاعتماد على الكتابة وتقييد السماع فشدد النقاد فكان أكثرهم لا يسمعون من الشيخ حتى يشاهدوا أصله القديم الموثوق به المقيد سماعه فيه، فإذا لم يكن للشيخ أصلاً لم يعتمدوا عليه وربما صرح بعضهم بتضعيفه، فإذا ادعى السماع ممن يستبعدون سماعه منه كان الأمر أشد، ولا ريب أن فى هذا الحالة الثالثة احتياطًا بالغا[54].
ومن الأمثلة على ذلك:
أ- ما فعله إمام هذه الصنعة يحيى بن معين مع أبى سلمة التبوذكى.
روى ابن عساكر بسنده عن الحسن بن القاسم دحيم بن اليتيم الدمشقى، نا محمد بن سليمان – المنقري- قال قدم علينا يحيى بن معين البصرة وكتب عن أبى سلمة أكثر من عشرين ألف حديث فلما أراد أن يخرج جاء إلى أبى سلمة، فقال: يا أبا سلمة إنى أريد أن أذكر لك شيئا فلا تغضب، قال: هات، قال: حديث همام عن ثابت عن أنس عن أبى بكر الصديق حديث الغار، لم يروه أحد من أصحابك وإنما رواه بهز وحيان وعفان ولم أجده فى صدر كتابك وإنما وجدته على ظهره، قال: فتقول ماذا؟ قال: تحلف لى أنك سمعته من هشام ، قال: ذكرت أنك كتبت عشرين ألفا، فإن كنت عندك صادقا فما ينبغى أن تكذبنى فى حديث، وإن كنت عندك كاذبا فى حديث فما ينبغى أن تصدقنى فيها ولا تكتب منها وترمى فيها ، برة بنت أبى عاصم طالق ثلاثا أن لم أكن سمعته من همام، والله لا كلمتك أبدا[55].
ب - وكذلك ما فعله البخارى مع إسماعيل بن أبى أويس، وهو متكلم فيه، حيث طلب منه أن يخرج له أصوله وأن يعلم له على ما سمعه ليحدث به عنه[56].
ج- ما فعله أبو زرعة الرازى مع سويد بن سعيد.
قال البرذعى: ورأيت أبا زرعة يسيء القول فى سويد بن سعيد، وقال: رأيت منه شيئا لم يعجبنى، قلت: ما هو؟ قال: لما قدمت مصر مررت به فأقمت عنده، فقلت: إن عندى أحاديث لابن وهب، عن ضمام ليست عندك؟ فقال: ذاكرنى بها، فأخرجت الكتب، وأقبلت أذاكره فكلما كنت أذاكره كان يقول: حدثنا بها ضمام، وكان يدلس حديث حريز بن عثمان، وحديث نيار بن مكرم ، وحديث عبد الله بن عمرو:" زر غبا"، فقلت: أبو محمدلم يسمع هذه الثلاثة الأحاديث من هؤلاء فغضب، فقلت لأبى زرعة: فأيش حاله؟ قال: أما كتبه فصحاح، وكنت أتتبع أصوله، وأكتب منها فأما إذا حدث من حفظه فلا[57].
ه- ما فعله الليث بن سعد مع أبى الزبير محمد بن مسلم بن تدرس.
قال ابن عدى: حدثنا على بن أحمد بن سليمان، حدثنا ابن أبى مريم سمعت عمى، يعنى سعيد بن أبى مريم يقول: سمعت الليث يقول أتيت أبا الزبير المكى فدفع إلى كتابين، قال: فلما سرت إلى منزلى، قلت لا أكتبهما حتى أسأله قال فرجعت إليه فقلت هذا كله سمعته من جابر؟ قال: لا قلت فأعلم لى على ما سمعت، قال: فأعلم لى على هذا الذى كتبته عنه[58].
3- اهتمام المحدثين بنسخ الكتاب
اهتم كثير من المحدثين بذكر وصف دقيق للنسخة التى يتملكونها من المخطوط، كما هو الحال عند المحققين المعاصرين من المسلمين والمستشرقين أنهم يذكرون بيانات وافية عن المخطوط الذى يعنون بنشره.
قال ابن الصلاح فى مقدمة " صيانة صحيح مسلم ": تنبيهات، الأول اختلفت النسخ فى رواية الجلودى عن إبراهيم، هل هى بحدثنا إبراهيم أو أخبرنا؟ والتردد واقع فى أنه سمع من لفظ إبراهيم أو قراءة عليه، فالأحوط إذن أن يقال: أخبرنا إبراهيم، حدثنا إبراهيم، فيلفظ القارىء بهما على البدل وجائز لنا الاقتصار على أخبرنا؛ فإنه كذلك فيما نقلته من ثبت الفراوى من خط صاحبه عبد الرازق الطبسى، وفيما انتخبته بنيسابور من الكتاب من أصل فيه سماع شيخنا المؤيد، وسمعته عليه عند تربة مسلم رحمه الله، وهو كذلك بخط الحافظ أبى القاسم الدمشقى العساكرى عن الفراوى، وفى ذلك أيضا، فحكم المتردد فى ذلك المصير إلى أخبرنا؛ لأن كل تحديث من حيث الحقيقة إخبار، وليس كل إخبار تحديثا، والله أعلم.
الثانى: اعلم أن لإبراهيم بن سفيان فى الكتاب فائتا لم يسمعه من مسلم، يقال فيه أخبرنا إبراهيم عن مسلم، ولا يقال فيهك قال أخبرنا، أو حدثنا مسلم، وروايته لذلك عن مسلم إما بطريق الإجازة وإما بطريق الوجادة، وقد غفل أكثر الرواة عن تبيين ذلك وتحقيقه فى فهارسهم وبرنامجاتهم وفى تسميعاتهم وإجازاتهم وغيرها، بل يقولون فى جميع الكتاب أخبرنا إبراهيم، قالك أخبرنا مسلم، وهذا الفوت فى ثلاثة مواضع محققة فى أصول معتمدة ... [59].
وقال السخاوى: وجمعت كتابًا حافلا على حروف المعجم أصلته من " تاريخ الإسلام" للذهبى، وزدت عليه خلقا أغفلهم أو تجددوا بعده، ولكن لم أستوف فيه غرضى إلى الآن، فاستوفيت عليه " التهذيب"، و" تهذيبه"، و" الميزان"، و" لسانه"، والإصابة "، و" الدرر" وكثيرا من الزائد منها على الأصل، كتبته تجريدا محيلا على أماكنه ... واليسير من " تاريخ بغداد " للخطيب، والمجلد الثانى والثالث من " الذيل عليه" لابن النجار، وأولهما محمد بن حمزة بن على بن طلحة بن على، وآخرهما انتهاء المحمدين، والكتاب كله فى خمسة عشر مجلدا من الموقوف بجامع الحاكم، والموجود منه الأربعة الأول، وانتهت إلى أحمد بن على بن موسى، وبعض السادس، وأوله ... والمفقود منه من جعفر بن يحيى بن إبراهيم بن يحيى إلى الحسين بن أحمد بن ميمون، والسابع والثامن، وانتهيا إلى عبد الله بن محمد بن على بن أحمد، والتاسع وأظنه الذى كان عند التقى القلقشندى، وجحده ابن أخيه، وفيه الشيخ عبد القادر، وبعض الحادى عشر، والمفقود منه كراريس، من أوله إلى الهاء، وآخرها، والأربعة الأخيرة وأولها، فالحاصل أن المفقود الخامس، وبعض السادس، وجميع العاشر، وبعض الحادى عشر، وكنت لمحت منه أجزاء فى أوقاف الجمالية ثم لم أرها، وكذا استوفيت عليه مطالعة مسودة الذيل الذى للتقى ين رافع على بن النجار من خطه، وهى فى مجلد، ولكن حصل فيها محو لكثير من تراجمه، وكذا بعض المقول فى بعضها، مع أنه كتب عليها ما نصه " فيه نقص كثير عن المبيضة، وفيه زيادات قليلة، قال: والمبيضة فى ثلاثة مجلدات... [60].
مما سبق يتبين أن المحدثين أصلوا قواعد توثيق النصوص وطبقوها فى مصنفاتهم، وأنهم عرفوا هذه القواعد قبل المستشرقين بأزمان متطاولة، ويرجع الفضل للمستشرقين فى جمع هذه القواعد وتنبيه المسلمين على ضرورة الاهتمام بإحياء تراثهم.
۞۞۞
الخاتمة
بعد هذه التطوافة السريعة فى كتب المحدثين والعلماء المعاصرين ممن كتب فى هذا الشأن توصلت لعدة أمور، منها:
1- أن العرب هم من وضعوا أصول التحقيق وقواعده.
2- أن الأصول التى بنى عليها المستشرقون مناهجهم فى التحقيق إنما هى مأخذوة من مصنفات العرب.
3- أن نتاج المستشرقين فى علم الحديث قليل بالمقارنة بالعلوم الأخرى.
4- أن المستشرقين لهم الفضل فى نشر العديد من تراث المسلمين، وقد ساعدهم على ذلك ظهور آلات الطباعة فى بلادهم منذ أزمان متطاولة.
5- أن التحقيق عمل شاق يحتاج إلى جهد وصبر واطلاع واسع على المخطوط والمطبوع من تراث المسلمين.
هذا والله أعلى وأعلم
العودة لصفحة المؤتمر