المنهج الأمثل لتحقيق كتب الشروح الحديثية

 

دراسة تطبيقية على كتاب«التلقيح لفهم قارئ الصحيح» لبرهان الدين الحلبى (ت 841)

 

أ.م.  بكر بن محمد البخارى

أستاذ السنة المشارك فى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

كلية أصول الدين ـ قسم السنة وعلومها

 

 

 العودة لصفحة المؤتمر

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،

فإن العلوم المرتبطة بالمخطوطات قد اتّسعت وأضحت علومًا لا علمًا، وقد أحسن القائمون على «تحقيق النصّ الحديثى وجهود جمعية المكنز الإسلامى فى ذلك» فى الانتقال من عوم تلك العلوم إلى خصوص «المخطوط الحديثى»، بل والبعد عن خلاف المصطلحات والمفاهيم إلى صميم الموضوع وهو «تحقيق النصّ الحديثى» ليستطرف من كلِّ علمٍ ما يمسّ المخطوط الحديثى.

وإن مما يسعدنى ويشرفنى أن أشارك فى هذا المؤتمر ببحث سمّيته:

المنهج الأمثل لتحقيق كتب الشروح الحديثية، دراسة تطبيقية على كتاب «التلقيح لفهم قارئ الصحيح» لبرهان الدين الحلبى (ت 841)

ليكون الكلام عن المنهج الأمثل لتحقيق كتب الشروح الحديثية دائرًا فى فلك مثال تطبيقى على كتاب جمع عدة جوانب ميّزته عن غيره، منها:

  • منزلة مؤلفه العلمية واقتصاره فى التأليف على علم الحديث، وقد أخذ عن كثير من الأئمة، من أشهرهم الحافظ العراقى، وشيخ الإسلام البُلقينى.
  • اعتماده فى الشرح على نسخ نفيسة من «صحيح البخارى» عليها إجازات وسماعات لأئمة كبار.
  • شرحه حديثى صرفٌ، وفيه كثير من جونب الصناعة الحديثية.
  • اجتمع فى مخطوطات الكتاب وأصليه من صحيح البخارى معالم كثيرة تتعلق بالنِّساخة وخوارج النصّ.

وكلُّ هذه المعطيات أهّلته ليكون مثالًا تطبيقيًّا متميّزًا لما ينبغى أن يكون عليه المنهج الأمثل لتحقيق كتب الشروح الحديثية.

ولكون البحث تطبيقيًّا، فقد تجاوزت الكثير من قضايا التَّحقيق العامّة أو النظريّة، وخصّصت الحديث فى المسائل التى أرى أنّها مؤثرة فى تحقيق الكتاب؛ ليكون أنموذجًا يقاس عليه ما عداه من كتب الشروح الحديثية.

هذا، وأسأل الله تعالى أن أوفق فى عرض ما أردته، وأن يجعله نافعًا، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

۞۞۞۞۞

  مدخل: روافد تحقيق كتب الشروح الحديثية: (مدخل نظرى)

إنّ من أقوى التَّحقيقات التى يعجب لها القارئ ما كانت من خبير بمؤلفات صاحب الكتاب، وما كان بعد صحبة طويلة مع الكتاب، حتى لكأنَّ المحقِّق كان رفيقًا للمؤلف وهو يكتب الكتاب، وربّما حاوره فى بعض قضاياه!

وهذه التَّحقيقات التى قام بها روّاد التَّحقيق فى مجالهم كانت مدرسة ومثالًا يحتذى، وهى وإن كانت دون ما جاء بعدها فى جمال الحرف ورونق الطباعة إلا أنها بقيت على علوّ منزلتها، فالعبرة بالحق لا بزخرف القول. وأحسب أنّ منهج التَّحقيق الأمثل ينبغى أن يُكتب بعد صداقة وأُلْفَة مع الكتاب ومصنّفه، يضع المحقِّق بعدها منهجه الذى سيسلكه فى تحقيق الكتاب وإخراجه، ليكون مُعَبِّرًا عن مراد المؤلف فى أتمّ صورة.

وهذه الصداقة تقوم على أساسين: فهم شخصيّة المؤلف وفهم الكتاب، وكلّ ما عداهما فهو تبع لهما إما باللزوم أو التضمّن.

فهم شخصيّة المؤلف: وأعنى به معرفة نشأته العلمية، وسماته الشخصية المؤثرة فى تكوينه العلمى، ورحلاته، واستمداده من شيوخه، ومن تأثر به منهم خاصّة فى العلم الذى يؤلّف فيه؛ فإن للعلوم أنسابًا، ومنزلته فى العلم الذى يؤلّف فيه، ليتحدّد موقف المحقِّق الكتاب ومؤلفه، فمنشئ الشرح ابتداء ليس كالناقل، والمحرر ليس كالجامع، فإذا كان المؤلف صاحب عناية واختصاص بالكتاب الذى يؤلف فيه، وانتقاء ما ينقله مع التحرير والتدقيق؛ فإن على المحقِّق أن يكون على تأهّبٍ وتهيّبٍ دائمين.

فهم الكتاب: وأعنى به معرفة المنهج المعرفى فيه، والشكلى، مثل: الترتيب، والاستمداد، وطريقة النقل، والرواية التى اعتمدها، ومقاصد تأليفه، وهل هو مختصر أو جمع أو تحقيق للمسائل؟ وهل يعتمد طريقة نقل الأقوال أو يسبك المعانى فى قوالب من إنشائه؟ وهل هو شرح مزجى أو شرحٌ بالقول؟ وما المراحل التى مرّ بها تأليف الكتاب؟ وهل لذلك علاقة بما استجدّ له من لقاءات علمية أو مصادر وقف عليها لم يكن قد وقف عليها من قبل؟ وهل له إبرازات؟ وما الفرق بينها؟ هل هى زيادات أو تراجعات أو تغيير فى سبك العبارة؟ وكلّ هذه المسائل وغيرها لها دلالاتها، وهى علم غير مسطور يضاف إلى العلم الذى سطّره المؤلف فى الكتاب، يمكن أن تكون مؤثرة فى تحقيق الكتاب وفى دراسة شخصية المؤلف.

 

۞۞۞۞۞

 

الفصل الأول: شخصية برهان الدين الحلبى، وعنايته بصحيح البخارى

 

المبحث الأول: شخصية برهان الدين الحلبى

اسمه ونسبه:[1]

العلّامة المحدّث برهانُ الدين أبو الوفاء إبراهيمُ بنُ محمَّدِ بنِ خليلٍ الحلبى الشافعى، يعرف بالمحدِّث، وببرهان الدين الحلبى، وبسبط ابن العَجَمى لكون أمًه من أسرة تعرف بابن العَجَمى.

ويعود نسبه من جهة أمّه إلى شرف الدين أبى طالب عبد الرحمن بن الحسن بن عبد الرحمن ابن العَجَمى (ت 561) مؤسِّس المدرسة «الزَّجّاجِيّة» بحلب سنة (516)، وقد نبغ من ذريته الكثير من أهل العلم والفقه والحديث.[2]  

ولادته ونشأته وطلبه للعم:

ولد سنة (753)، ومات أبوه وهو صغيرٌ، فكفلتْه أُمُّه وسافرت به إلى دمشق، فأقام معها، وقرأ بعضَ القرآن، ثم ردَّته إلى حلب فنشأ بها، وحفظ القرآن وصلّى به فى رمضان، ثم توجّه إلى علم القراءات، وأخذ النَّحْوَ والصرف والبيان، وأخذ اللغةَ عن مجد الدين محمَّد بن يعقوب الشيرازى الفيروز آبادى صاحب «القاموس»، وأخذ الفِقهَ عن جماعة بحلب والقاهرة.

وأمّا الحديث فهو العلم الذى صرف همّته إليه ورحل فى طلبه، واشتُهر به بعد ذلك حتى لُقّب بالمحدّث ورُحل إليه فيه. وابتدأت عنايته به فى شبابه، وأقدم سماعٍ له فى سنة (769)، وأخذ عن نحو من سبعين من أهل بلده، وارتحل إلى مصر مرَّتين سنة (780) وسنة (786)، وإلى بيت المقدس والخليل وغزَّة والرَّملة ونابلس وطرابلس وبعلبكَّ وحماة وحمص ودمشق.

شيوخه:

قال الحافظ السخاوى: (قرأت بخطه: مشايخى فى الحديث نحو المئتين، ومن رويت عنه شيئًا من الشعر دون الحديث بضع وثلاثون، وفى العلوم غير الحديث نحو الثلاثين).

ولعل أبرز من استفاد منهم فى علم الحديث الأربعة الذين قال فيهم: (حُفَّاظُ مصر أربعةُ أشخاص، وهم من مشايخى: البُلقينى وهو أحفظُهم لأحاديث الأحكام، والعراقى وهو أعلمهم بالصنْعةِ، والهيثمى وهو أحفظُهم للأحاديث مِن حيثُ هِى، وابنُ الملقِّن وهو أكثرُهم فوائدَ فى الكتابةِ على الحديث)[3].

1 ـ فالبُلقينى هو: شيخُ الإسلام أبو حفص عمرُ بن رسلان البُلقينى الكِنانى الشافعى (ت 805).

قال البرهان فيه: (اجتمعتُ به فى رحلتى الأولى إلى القاهرة فى سنة ثمانين، فرأيتُه إمامًا لا يُجارى، أكثرَ النَّاسِ استحضارًا لكلِّ ما يُلقى من العلوم، وقد حضرتُ عندَه عدَّةَ دروسٍ مع جماعةٍ من أرباب المذاهب، فيتكلم على الحديث الواحد من بعد طلوع الشمس، وربَّما أذَّن الظهر فى الغالب وهو لم يفرغ من الكلام عليه، ويُفيد فوائدَ جليلةً لأرباب كلِّ مذهبٍ، ... واستفدتُ منه فوائدَ جمَّةً فى التفسير والحديث والفِقه والأصول، وعلَّقتُ من فوائده أشياء، وهو أجلُّ مَن أخذتُ عنه العلم وسمعتُ عليه الحديث، وكان بى حفيًّا)، وقال: (رأيتُ رجلًا فريدَ دهره، لم ترَ عيناى أحفظَ للفِقه وأحاديث الأحكام منه) [4].

2 ـ وأمَّا العراقى فهو: الحافظ زين الدين أبو الفضل عبدُ الرحيم بن الحسين العراقى الكردى المصرى الشافعى (ت 806).

الإمام المشهور، لازمه البرهان نحوًا من عشر سنين، وبه تخرّج فى الحديث، وقرأ عليه جملة من كتبه مع البحث، ومن جملة ما سمع عليه صحيح البخارى، واعتمد الأصل الذى سمع فيه عليه أصلا فى شرحه للصحيح.

3 ـ والحافظ سراج الدين أبو حفص عمرُ بن على بن أحمد الأنصارى المصرى الشافعى، المعروف بابن الملقِّن وابن النَّحْوى (ت 804).

قال عنه البرهان: (كان فريد وقته فى التصنيف، وعبارتُه فيه جليَّة جيِّدة، وغرائبُه كثيرة، وشكالته حسنة، وكذا خُلُقه، مع التواضع والإحسان، لازمتُه مدَّةً فلم أره منحرفًا قطُّ)[5].

4 ـ الحافظ نور الدين أبو الحسن على بنُ أبى بكر الهيثمى (ت 807).

وأكثر الأربعة ذكرًا فى كتابه سراج الدين ابن الملقّن لكونه شرح الصحيح كاملا، وكتابه من الأصول التى اعتمدها برهان الدين فى شرحه، يليه الحافظ العراقى وتأثره به من حيث الصناعة الحديثية وعلوم الحديث، يليه سراج الدين البُلقينى، ولعل سبب ذلك أن استفادته كانت من حضور دروسه وليس من مؤلفاته، فإنّ غالب مؤلفاته لم تتمّ، ولذا فإنه ينقل مما سمعه منهما أو باحثهما فيه [6]، وأقل الأربعة أثرًا فى كتابه الحافظ الهيثمى لكون عنايته كانت منصرفة إلى متون الأحاديث وزوائدها، وهى بعيدة عن غرض الكتاب.

تلامذته:

كثر الآخذون عنه طبقة بعد طبقة، وكان يُرحل إليه للسماع منه لعلوّ إسناده، وممن رحل إليه:

1 ـ الحافظ ابن حجر العسقلانى. قال السخاوى: (وترجمه شيخنا حينئذٍ بقوله: وله الآن بضع وستُّون سنة، يُسمع الحديث ويقرؤه، مع الدين والتواضع، واطِّراح التكلُّف، وعدم الالتفات إلى بنى الدنيا. قال: ومصنَّفاته ممتعةٌ محررَّةٌ دالَّة على تتبُّعٍ زائدٍ وإتقان)، وحينما قدم حلب سنة (836) قال لمحب الدين ابن الشِّحنة: (لم أشدَّ الرَّحْلَ ولا استبحتُ القصرَ إلَّا للُقِيِّه) [7]، وقرأ عليه مشيخة الفخر ابن البخارى فى أربعة مجالس، وسمع عليه بقراءة غيره أشياء. وقال: (وأحببتُ أن أُخرِّجَ له مشيخةً أذكرُ فيها أحوالَ الشيوخ المذكورين ومروياتِهم؛ ليستفيدَها الرحَّالةُ، فإنَّه اليومَ أحقُّ النَّاس بالرحلة إليه؛ لعلوِّ سندِهِ حِسًّا ومعنًى، ومعرفتِه بالعلومِ فنًّا فنًّا، أثابه الحُسنى آمين) [8]، وسئل عنه وعن حافظ دمشق ابن ناصر الدين، فقال: البرهان نظره قاصر على كتبه، والشمس يحوش [9]. هذا وقد لقيه الحافظ بعدما فُلج وأُنسِى كلَّ شيءٍ حتى الفاتحة، قال: «ثم عُوفيتُ وصار يتراجعُ إلى حِفظى كالطِّفل شيئًا فشيئًا».

2 ـ ورحل إليه سنة (837) الحافظ شمسُ الدين محمَّد بن عبد الله القيسى الدمشقى، المشهور بابن ناصر الدين (ت 842).

وممن أخذ عنه:

3 ـ ابنه موفَّقُ الدين أبو ذرٍّ أحمدُ بن إبراهيم الحلبى (ت 884).

4 ـ والحافظُ الرُّحلة تقى الدين أبو الفضل محمَّد بن محمَّد بن أبى الخير محمَّد ابن فهد القرشى الهاشمى المكِّى (ت 871)، لقيه بمكة فى الحج سنة (813)، وقال فى ذيله على تذكرة الحفاظ: (وهو الآن شيخُ البلاد الحلبيَّة والمشارُ إليه فيها بلا نزاع، وبقيَّةُ حفَّاظ الإسلام بالإجماع).

مؤلَّفاتُه:

اقتصر برهان الدين الحلبى فى التأليف على الحديث وما يتصل به، حتى قال الحافظ السخاوى: (واجتهد الشيخ رحمه الله فى هذا الفن اجتهادًا كبيرًا، وكتب بخطِّه الحسن الكثير ... واشتغل بالتصنيف)، وبلغت مصنفاته ثلاثة وعشرين كتابًا.

وقد حفظ الله تعالى له مؤلفاته حينما طرق تمرلنك بلاد الشام ـ ومنها حماة ـ ونهبها وخرّبها وأهلك الحرث والنسل (سنة 803)[10]، وحفظها حتى وصل إلينا أكثرها بخطّه الدقيق دون أن تؤثر فيها عوادى المخطوطات.

والنظرة السريعة فى مؤلفاته تدلّنا على عنايته بهذا العلم، ومؤلفاته منها ما كان فى أصله حاشية ثم جمعها وزاد عليها، ومنها ما يكون مسوّدات ثم بيضها، ثم ألحق بها زيادات، وهذه السّمة تدلّ على عنايته بكتبه وتحريره لها، وقد اطلع الحافظ ابن حجر على أكثر مصنّفاته ولحظ هذه السّمة فيها، وقال: (ومصنَّفاتُه ممتعةٌ محرَّرةٌ دالَّة على تتبُّعٍ زائدٍ وإتقان)، قال: (وهو قليلُ المباحث فيها كثيرُ النقل) [11].

ومن جملة مؤلفاته:

  • «إملاءات» على صحيح البخارى: قال السخاوى: (له على «البخارى عدَّة إملاءات كتبها عنه جماعة من الطلبة)[12]، و«حواشٍ» على صحيح مسلم، وسنن أبى داود، وسنن ابن ماجه.
  • التلقيح لفهم قارئ الصحيح.
  • «حواشٍ» على «الكاشف»، وأخرى على نسخته من «ميزان الاعتدال»، وله: «نثل الهميان فى معيار الميزان».
  •  «نهاية السول فى رواة الستة الأصول».
  • «نور النبراس على سيرة ابن سيِّد النَّاس»، وهو شرح لعيون الأثر فى فنون المغازى والسير لأبى الفتح اليعمرى المشهور بابن سيّد الناس.

وفاته:

مات فى الطاعون الذى أصاب حلب ضحى يوم الاثنين، السادس والعشرين من شوَّالٍ سنةَ (841) بحلب، وله ثمانٌ وثمانون سنة، وهو حاضر الذهن، يتلو القرآن، رحمه الله تعالى.

 

۞۞۞۞۞

 

المبحث الثانى: عنايته بصحيح البخارى

بدأت عناية البرهان الحلبى بصحيح البخارى بسماعه على الشيوخ، وحضور مجالس المحدثين فى قراءة كتب الحديث وشرحها والتعليق عليها، وقد سمع الصحيح على الحافظ العراقى كاملا بقراءة رفيقه فى الرحلة المصرية العلامة محمد بن خليل الحاضرى، كما كانت له عناية بنسخ الصحيح العتيقة فى بلده، فكثيرًا ما كان يرجع فى شرحه إلى أكثر من أصل عتيق للصحيح فى المواضع المشكلة، وكان له فيه أصلان مسموعان: الأصل القاهرى، والأصل الدمشقى.

وامتدت عنايته بالصحيح فى العكوف على قراءته على الطلبة بنفسه، كما قال: (وقرأت صحيح البخارى على الناس فى الجوامع والمساجد وغير ذلك ــ غير ما قرأته فى حال الطلب وما قرئ على ــ إلى آخر سنة ست وثلاثين وثمانمائة ثمانيًا وخمسين مرة، وقرأت صحيح مسلم مرارًا كثيرة دون ذلك بكثير)[13]، وكانت له تقييدات على الصحيح منها ما كان على هامش الصحيح، ومنها ما قيّده عنه الطلبة، ووضع على الصحيح تعليقًا سماه «التلويح» قال عنه فى مقدمة «التلقيح»: (وقد كنتُ قديمًا سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة كتبتُ عليه تعليقًا سمَّيته بـ «التلويح» لأهل ذلك الزمان)، ثم زاد فيه، وكتب «التلقيح لفهم قارئ الصحيح».

 

۞۞۞۞۞

 

الفصل الثانى: التعريف بـ «التلقيح لفهم قارئ الصحيح»  [14]  

لمؤلفات البرهان الحلبى سمة عامّة نوّه بها الحافظ ابن حجر حينما قال بأنّ نظره قاصر على كتبه، ومن هنا كانت: (مصنَّفاتُه ممتعةٌ محرَّرةٌ دالَّة على تتبُّعٍ زائدٍ وإتقان)، وهذا السّمة إذا ضُمّت لما ذكرته آنفًا من عنايته بصحيح البخارى وإقرائه، أمكن أن نخلص إلى أنّ المقصد العامّ الذى أدار عليه كتابه «التلقيح لفهم قارئ الصحيح» ما يحتاجه مَن يقرئ الصحيح أو يقرؤه، كما قال: (ليكون له عند قراءته عمدة، ويُفزع إليه عند الهيعة كالعُدّة)، وعلى ما سيأتى تفصيله إن شاء الله تعالى.

وسأقتصر فى التعريف بها على المعالم التى تعلّق بما ذكرته قبلُ فى المدخل النظرى لينحصر الكلام فى ما يمسّ صنعة التَّحقيق.

 

المبحث الأول: وقت تأليف الكتاب

إن معرفة زمن تأليف الكتاب، والمراحل التى مرّ بها، لها دلالتها العلمية، ومما قد عرفناه:

1. أنه بنى شرحه على نسخة صحيح البخارى التى سمع فيها بقراءة العلامة محمد بن خليل الحاضرى، وكان سماعه سنة (785)، وتوفى الحاضرى سنة (824).

2. استفاد من شرح شيخه سراج الدين ابن الملقِّن، وقد أرّخ لتمام نسخ نصفه الثانى سنة (821). [15]

3. من مصادره فى الشرح «هُدى السارى» مقدمة فتح البارى للحافظ ابن حجر، وقد أرخ للانتهاء من تأليفها سنة (813) إلا أنّنا لا نعلم متى اطّلع عليه البرهان، والذى أجزم به أنّه اطَلع عليه متأخّرًا بعد انتهائه من تبييض الكتاب لما سيأتى فى دراسة موارده.

وعلى هذا فيغلب على الظنّ أنه شرع فى تأليف الكتاب سنة (824) أو بعدها، ثم استمر فى تنقيح الكتاب والزيادة عليه جدًا، لكثرة اللّحَق على النسخة حتى إنّه ليخيّل لمن يراها أنّها المسوّدة.

وهذه النتيجة هى ما نصّ عليه فى المقدمة وخاتمة الشرح حيث قال فى المقدمة: (وقد كنت قديما سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة كتبت عليه تعليقًا سمّيته بـ «التلويح» لأهل ذلك الزمان، وما كنتُ وقفت من شرح شيخنا الآتى ذكره إلّا من أوّله إلى أوّل (كتاب الجهاد)، ثم وقفت على الباقى بعد سنين متطاولة، وأعصار متوالية. والآن قد زدته تراجم، وفوائد، وإيضاحًا... وقد سمّيت هذا الثانى بـ «التلقيح لفهم قارئ الصحيح»)، وقال فى آخر الجزء الأول: (فرغ من تعليقه من المسودة، وهذه المبيضة فيها زيادات لم تكن بالمسودة، فى شهور سنة أربع وعشرين وثمانمائة)، وقال خاتمة الجزء الثانى: (هذا آخر ما تيسر جمعه من المسوّدة التى كتبتها فى سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، ثم نقلتها إلى هنا مع زيادات، وابتدأت بهذه المبيضة فى غالب ظنّى فى ربيع الآخر من سنة أربع وعشرين وثمانمائة، وكان الختم فى عاشر جمادى الآخرة من سنة خمس وعشرين وثمانمائة).

ومع أنّ المؤلّف نصّ على زمن تأليف الكتاب؛ إلا أنّنى أردت بجمع هذه القرائن وحصها أن أقرّر أهمية دراسة كافّة ما يحيط بالكتاب ومؤلفه، ومعرفة ما احتف بزمن تأليفه، ليُفهم الكتاب من جهة مقصده، ومؤلفه، وزمانه الذى كُتب فيه، والذى كُتب له، ثم أثر ذلك فى المؤلَّف شكلا ومضمونًا.

 

۞۞۞۞۞

 

المبحث الثانى: مقاصد المؤلف فى الكتاب

للتأليف مقاصد، وكثيرٌ من الأئمة كانت مؤلّفاتهم استجابةً لحاجةٍ أرادوا سدّها، ومعرفة المحقِّق لمقاصد الكتاب الذى يشتغل به هامّة، ليركّز عليها، ويبرزها فى خدمته للكتاب، وعدم إدراكه لها يؤدى إلى هضمها، أو الإطالة فى ما أراد المؤلف اختصاره تحت دعوى سدّ ما تركه المؤلف، فيكون عمله خروجًا عن مقاصد الكتاب.

ومن فوائد معرفة مقاصد التأليف أن يوضع الكتاب فى منزلته التى أرادها المؤلف؛ فلا يعاب من أراد الإيجاز بكون غيره أوسع منه، أو يعاب بأنه لم يستوعب الكتاب بالشرح، وهو إنما أراد بحث المشكلات مثلا.

ومن فوائدها أن يقاس الكتاب إلى زمان تأليفه والظروف التى ألمّت به، وهذا ما نبّه عليه الشارح حينما ذكر أنّه ألّف «التلقيح» لأهل زمان غير الذين ألّف لهم «التلويح»، وأنه توفّرت له مصادر لم تكن توفرت له فى المرّة الأولى.

ويمكن أن نستخلص مقاصد برهان الدين الحلبى من خلال مقدمته، حيث ذكر أن «صحيح البخارى» يقرأ ببلدته كثيرًا، ويتصدّر لإقرائه من لا علم له بالعربية ولا بالغريب ولا بعلم الرجال وأنواع علوم الحديث، ولا يفرّق بينها، ولما كان هذا هو الغالب، وكان قد وضع تعليقًا على الصحيح، ثم اطّلع على شرح شيخه ابن الملقِّن «التوضيح»، قال: (والآنَ قد زِدْتُهُ تراجمَ، وفوائدَ، وإيضاحًا، وإعرابًا لقُرَّاء هذا الأوان، لا لأبناء ذلك الزمان، ولم أضعْه للحَبْرِ الكامل، ولا للعالِم الفاضل؛ وذلك لأنَّ كُتُبَ هذا العِلْم ببلدتنا قليلة، وأنفُسَ أهله عنِ التطويل كَلِيلة، ولا يُعانونَ الفَتْشَ عن مكان الوقفِ والإرسال، ولا عدمَ اللُّقِى وذلك عندَهم فى البخارى ومسلمٍ كالمُحال، ولا يعرفونَ زياداتِ الثقات، وقد يظنُّونَ أنَّ زيادَتَها أو تركَها كالهفوات، وإنَّما يُعانونَ كلامَ بعضِ الأعاجم، على «المصابيح» و«المشارق»، ولا يعتنون بالتراجِم، مع أنَّ بضاعتَنا فى العِلم والكُتُبِ مُزجاة، والاعترافَ بالتقصيرِ لصاحبه نِعمةٌ مُهداة، وفى المَثَل: (تسمع بالمعيدى خيرٌ من أنْ تَراه)، وإنَّما وضعتُه للمتوسِّط الناقِل، أو لمَن لزمَه العِى كباقِل، وقد سمَّيتُ هذا الثانى بـ: »التَّلْقيح لِفَهْمِ قارِئِ الصحيح«؛ ليكونَ له عندَ قراءتِه عُمدة، ويَفزَعَ إليه عندَ الهَيْعَة كالعُدَّة).

ويمكن أن نستخلص من الكلام السابق جملة من المقاصد خلاصتها ما يلى:

  1. ألّفه ليكون مرجعًا عند قراءة الصحيح وإقرائه.
  2. أراد أن يكون متوسطًا.
  3. اعتنى بلغة ألفاظ الصحيح وإعرابها.
  4. العناية بالصناعة الإسنادية فى الصحيح كالإرسال، واللقى وزيادة الثقة.
  5. العناية بمناسبة الحديث للترجمة.
  6. توضيح المعانى وذكر الفوائد.

وإرادته أن يكون مرجعًا لمن يقرئ الصحيح اقتضت أن يركّز على أربع قضايا تتعلق بالصحيح:

● الأولى: ضبط ألفاظ الرواية، ولذا اعتمد على أصلين نفيسين للصحيح له فيهما سماع، ولم يلتفت إلى أوهام الرواة قبل الوصول إلى الصحيح اكتفاء بمن تتبع ذلك من الأئمة.

● الثانية: الصناعة الإسنادية من حيث تمييز رواة الأسانيد والتعريف بهم حيثما تكرّروا، والتنبيه على مواضع الإرسال والمتابعات وتمييز المعلق من الموصول، ولذا لم يعتن بوصل المعلقات إلا لفائدة؛ اكتفاء بوصل الحافظ ابن الملقِّن لها فى شرحه، وعزا المتابعات إلى من أخرجها من أصحاب الكتب الستّة.

● الثالثة: بيان غريب الألفاظ، ومعنى الحديث على قدر الحاجة، وقد قال: (ولم أذكر فى هذا إلَّا نزرًا من الأحكام، وقد ذكر منها شيخنا شيئًا، وجُملتَها مِن قبلِه الأئمَّةُ الأعلام)، وقال: (ولم أقصد فى هذا التعليق جمْعَ الأقوال والروايات، وما يُقال فيه من الإعراب؛ لأنَّ به يطولُ الكتاب، ويَخرجُ عنِ الاستحضار إذا لم يدأب فيه باللَّيل والنهار).

● الرابعة: المناسبة بين الترجمة والحديث.

ولو أجملنا ما سبق فى كلمة، وهى أن مقصده فى الكتاب: ضبط الرواية إسنادًا ومتنًا، وبيان الصناعة الحديثيّة فى الصحيح، مع شيء من الأحكام والفوائد؛ لم نبعد عن الحقيقة، ولهذا فإنّ منهجه فى الضبط والتعريف برواة الأسانيد مطّرد، ويعيد التعريف بالراوى حيثما ورد إلا إن سبق قريبًا أو تكرر قبلُ كثيرًا، ولمّا لم يكن التوسّع فى ذكر الروايات واستنباط الأحكام من مقاصد الكتاب أهمله وإن كان موجودًا فى المسوّدة، ففى شرح حديث (107) قال: (وقد ذكرت من روى حديث: «من كذب علىَّ» على حروف المعجم فى المسوَّدة التى لهذا الكتاب)، وقال فى شرح حديث (4150) فى عدّة أصحاب بيعة الرضوان: (وحاصلُ الروايات - وقد ذكرتها معزوَّة فى المسوَّدة -: أنَّهم كانوا ألفًا وخمس مئة)، وفى شرح حديث (4681) أحال على المسوّدة فى ذكر القراءات فى كلمة وتوجيهها، فقال: (وقد ذكرت ذلك فى المسوَّدة فى ورقة أجنبيَّة، فإن أردت ذلك؛ فانظره من المسوَّدة).

وأوّل شيء فعله برهان الدين الحلبى لتحقيق هذا المقصد أنّه اعتمد فى شرحه على النسخة التى سمع فيها على الحافظ العراقى، فيكون قد اجتمع فيها الضبط والمقابل مع السماع والرواية، ولكونها الأساس الذى بُنى عليه الشرح سأبدأ بالتعريف بها قبل الكلام على «التلقيح».

 

۞۞۞۞۞

 

المبحث الثالث: نسخة صحيح البخارى التى بنى عليها شرحه

معرفة النسخة التى اعتمدها الشارح جزء من فهم الكتاب نفسه، ومن لم يعرف النسخة أو الرواية الحديثية التى تعود إليها سيستغلق عليه فهم بعض المواضع وربما بقى فيها متحيّرًا، بل وربما وقع فى التلفيق بين الروايات أو كتابة متن لا ينطبق عليه الشرح، مما يوقع القارئ فى الاستشكال.

ومن المعلوم أن ليست جميع كتب الشروح اعتمدت نسخًا متصلة بالرواية، أو أن الأصل الذى انتسخت عنه وضبطت عليه معروف؛ إلا أن من الشرّاح من اعتمد رواية بعينها كما اعتمد الخطابى فى «أعلام الحديث» على رواية إبراهيم بن معقل النسفى ثم على رواية الفربرى حيث قال فى أول «كتاب التفسير»: («ومن كتاب التفسير» قلت: إلى ههنا انتهت رواية إبراهيم بن معقل، وحدثنا بما بعده من الكتاب محمد بن خالد بن الحسن قال: حدثنا محمد بن يوسف الفربرى...) [16]، وكما اعتمد الحافظ ابن حجر فى «فتح البارى» على رواية أبى ذرٍّ عن شيوخه الثلاثة عن الفربرى عن الإمام البخارى، وذكر إسناده إليها من طريق أبى مكتوم عيسى بن أبى ذرّ عن أبيه.

وأمّا البرهان الحلبى فلم يذكر فى المقدمة الرواية التى اعتمدها إلا أنّه يتكرر فى الشرح كثيرًا إشارات تدلّ على اعتماده أصولًا بعينها، كقوله: (أصلنا الذى سمعنا فيه على العراقى)، و(الأصل الذى سمعت فيه على العراقى)، و (الأصل القاهرى)، و (الأصل الدمشقى)، ويقارن بين أصوله، ويثبت بعض فروق الروايات، وبالتتبع فإنّه إذا أطلق «الأصل» فإنه ينصرف إلى «الأصل القاهرى» الذى سمع فيه على الحافظ العراقى، وكان يقارن بينه وبين الأصل الدمشقى مع أصول أخرى عتيقة. ومع اعتماده على الأصل القاهرى فإنه قد يقدم عليه غيره إذا كان هو الصواب، مع إشارته لذلك [17]، ومنه قوله: (كذا فى أصلنا، وفى أصل آخر لنا دمشقى صحيح دخل فيه المزِّى، والذَّهبى، وغيرهما: «عن الزُّهرى، عنِ امرأة، عن أمِّ سلمة»، وكذا طرَّفه المزِّى فى «أطرافه» أنَّ الطَّريق الثَّانى فيه: «الزُّهرى عنِ امرأة»، فما وقع فى أصلنا الذى سمعنا فيه على شيخنا العراقى فى صحَّته نظرٌ، والله أعلم) [18].

ومعرفة هذين الأصلين أفادتنا فهم مراد الشارح فى مواضع كثيرة، كما كشفت موردًا هامًّا من موارده فى الشرح. ومع اعتماده على هذين الأصلين، فقد رجع أيضًا إلى أصول أخرى فى مواضع عدّة، كقوله فى شرح حديث (1753): ورأيت فى حاشية نسخةٍ عتيقةٍ: أنَّ أبا ذرٍّ قال: إنَّه مُحَمَّد بن يحيى الذُّهلى.

أولًا: وصف الأصل القاهرى:

ويقع فى مجلد واحد من (390) ورقة، من محفوظات مكتبة فيض الله أفندى رقم (475)، ومكتوب فى آخرها أنه كتبها يوسف بن عمر بن محمد بن محمد القرشى الأصفهانى، عُرف بالعماد الكاتب [19]، وانتهى منها فى سادس عشر رجب سنة 746، وقرئت على الحافظ عبد الرحيم بن الحسين العراقى، وعليها إجازته بخطّه، بقراءة شمس الدين محمد بن المبارك بن عثمان البسقاقى الحلبى الحنفى[20] ومحمد بن خليل الحاضرى [21]، وسماع سبط ابن العَجَمى سنة (785)، وكان ابتداء القراءة ــ حسب ما دلّت عليه بلاغات القراءة ــ سنة (779) [22]، أو قبلها بيسير.

وإسناد رواية الحافظ العراقى عن الشيخ جمال الدين أبى على عبد الرحيم بن عبد الله بن يوسف الأنصارى المعروف بابن شاهد الجيش، عن شيوخه الثلاثة وإجازة الرشيد العطار، بإسنادهم إلى كريمة المروزية، عن أبى الهيثم الكشميهنى، عن الفربرى، عن الإمام البخارى [23].

ويلاحظ على خوارج النسخة أن قيود القراءة (البلاغات) بخط محمد بن خليل الحاضرى، ومنها ما هو بخط الحافظ العراقى، وبعد إجازته إجازة من شمس الدين البسقاقى، وإجازة أخرى على قراءة كانت بحلب.

001

ولأهمية هذه النسخة، وما عليها من قيود، فسأفصّل القول قليلًا فى وصف ما عليها من القيود، وذكر أصحابها.

معرفة أصحاب القيود على النسخة:

نلاحظ على هامش النسخة عدة قيود منها قيود المقابلة على أصلها، وفروقٌ لنسخ أخرى، وفروق روايات أخرى للصحيح توافق ما فى نسخة الحافظ اليونينى، مكتوب فوقها بالحمرة (ش)، وعليها حواشٍ من نسخة الحافظ الدِّمْيَاطى، وحواشٍ للحافظ اليونينى، وحواشٍ أخرى مُيّز بعضها فى آخرها بحرف يرمز لكاتبها، ومنها ما هو بخط برهان الدين الحلبى.

وقد استدللت على معرفة أصحاب هذه القيود عن طريق دلائلَ من النسخة نفسها، ومن المقابلة بين ما فيها وما نثره برهان الدّين من معلومات حول النسخة فى المواضع التى نقل فيها عنها، فكان من فوائد استصحاب الأصل مع الشرح أن وضّح كلٌ منهما ما استبهم فى الآخر، ومن ذلك معرفة أصحاب القيود على حاشية النسخة.

قيود محمد بن خليل الحاضرى:

ومنها قيود بلاغات السماع، حيث كان يذكر اسمه ويقول: «كتب محمد بن خليل الحاضرى»، ومنها فوائد عرفنا مصدرها من قول البرهان فى شرح الحديث (3248): قوله: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِى بَكْرٍ الْمُقَدَّمِى): هو مُحَمَّد بن أبى بكر بن على بن عطاء بن مقدَّم، أبو عبد الله، مشهور الترجمة، وبخطِّ بعض الفضلاء فى هامش أصلنا مكتوبٌ تحت (أبى بكر): (على بن عطاء بن مقدَّم)؛ كالصّريح فى أنَّ أبا بكر اسمه على، والظاهر أنَّه أخذه من اليونينى أو الدِّمْيَاطى، فإنَّ الحواشى التى بخطِّه غالبُها من الدِّمْيَاطى، وبعضها من اليونينى).

002

 

وقال فى شرح الحديث (4551) فى ضبط كلمة (أعطى) من قوله: (لَقَدْ أَعْطَى بِهَا مَا لَمْ يُعْطِهِ)، قال: ورأيت بخطِّ بعض فضلاء الحنفيَّة حاشية منقولة من خطِّ اليونينى لفظها: «يتَّجه فتح الهمزة وضمُّها، وفتح الطاء مع ضمِّ الهمزة، وكسرها مع فتح الهمزة، قاله بعض الحفَّاظ»، انتهى، كذا قال، والذى أعرفه ما ضبطتُ به أوَّلًا، والله أعلم.

003

 

وقال فى موضع آخر فى شرح الحديث (1551): قوله: (قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا عَنْ أيُّوبَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَنَسٍt): (فى أصلنا بخطِّ بعض الفضلاء تحت (رجل): (هو مُحَمَّد بن سيرين)، وكأنَّه أخذه إمَّا من خط الدِّمْيَاطى، أو من نسخة اليونينى، أو من فم شيخنا العراقى).

004

 

فعرفنا مما سبق مصدر الحواشى التى يكتبها، وأين يكتبها، وأنه صاحب له حنفى، ويأخذ من فم الحافظ العراقى، وبقى أن نعرفه على التعيين، وهذا ما دلّنا عليه المقارنة بين خط هذه الحواشى وخط الحاضرى فى كتابة بلاغات القراءة.

005

 

ويرد سؤال عن موارد الحاضرى، وهو: هل وقف على نسخة الحافظ اليونينى ونقل عنها ؟

وسبب السؤال أن الحاضرى ربما كتب «حاشية بخط اليونينى»، ووقع فى كلام البرهان تعبيره عنها بقوله: «من نسخة اليونينى»، ومن ذلك فى ل 154 أ، وربما ذكر أنّ كاتبها نقلها من خط اليونينى، ولعله أخذ هذا من قوله: (حاشية بخط اليونينى)، ففهم أن النقل عن خطّه مباشرة. وأستبعد أن يكون الأمر كذلك؛ لما سيأتى من أن هذه النسخة قابلها ابن الحاضرى على فرع مصرى مقابل على نسخة قوبلت على نسخة الحافظ اليونينى، ولو كانت نسخة الحافظ اليونينى حاضرةً بين يدى والده؛ لما احتاج إلى هذا النزول فى النسخة التى قابل عليها، وأيضًا فإنّ هذه الحواشى مكتوبة بهذا النصّ فى فرع النويرى الذى انتسخه من نسخة اليونينى سنة (725)؛ أى قبل كتابة نسخة القرشى بإحدى وعشرين سنة، بل وجدت فى ل 172 أ حاشية طويلة أوّلها: (قال الحافظ أبو ذر)، ولا يَرِدُ احتمال أنّه نقل عن خطّه، وهذه الحاشية بحروفها فى نسخة النويرى المشار إليها. ومجموع ما سبق يؤكد أن مثل هذه الحواشى على نسخة القرشى منقولة على هيئتها فى الفرع الذى قوبلت عليه، لا أنّها منقولة مِن نسخة الحافظين أبى ذر واليونينى، والله أعلم.

قيود محمد بن محمد بن خليل الحاضرى [24]:

وقيوده غالبها فروق لروايات الصحيح، حيث كتب فى آخر النسخة:

006

 

وفوائد أخرى تتعلق بالضبط، وقد عرفنا أنه صاحب الخطّ من إشارته إلى ما كتبه محمد الحاضرى بقوله: «بخطّ الوالد»، ومن ذلك:

007

 

وشرف الدين هو الدِّمْيَاطى، والذى كان ينتسخ منها هو محمد بن خليل الحاضرى كما تقدّم فى كلام البرهان الحلبى.

حاشية شرف الدين الدِّمْيَاطى [25]:

ولعلّ أكثر ما على النسخة من الحواشى منقول عنها، وتعرف بأحد شيئين: إما التصريح بنسبتها إليها فى ابتداء الكلام، أو بكتابة حرف (د) فى آخرها، يعلوه خطّ دلالة على الإهمال. ومثالها ما تقدم آنفًا من النقل عن الزجاج، كما أنّ هذه الحواشى نقل كثيرًا منها البرهان فى شرحه ونسبها إليه، وقد تطابق ما ينقله عنها مع ما فى النسخة، فعرفنا أنها عمدته فى النقل عن الدِّمْيَاطى، مع تصريحه بأنه أحد مصادر الحاضرى فى حواشيه.

قال فى شرح باب الزيارة يوم النحر قبل حديث (1732): قوله: (وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عبَّاس) إلى آخره. قال الدِّمْيَاطى: (هو أبو الزُّبير مُحَمَّد بن مسلم المكِّى، روى عن عائشة، وابن عبَّاس: «أنَّ النَّبى صلى الله عليه وسلم أخَّر طواف يوم النَّحر إلى اللَّيل»، رواه أبو داود، والتِّرمذى، والنَّسائى، وابن ماجه من حديث سفيان الثَّورى عن أبى الزُّبير عنهما، قال التِّرمذى: حديث حسن). انتهى). وهذه الحاشية بعينها فى حاشية النسخة وعليها علامة الدِّمْيَاطى (د):

 008

 

حاشية برهان الدين الحلبى:

وهى متميزة بخطّه الدقيق المعروف، وبكتابته الدائرة فى نهاية الكلام أحيانًا.

ووجود حواشيه على النسخة، ومنها ما هو تعقّب على حاشية لغيره يجعلنى أستظهر أن هذه النسخة آلت إليه بعد وفاة رفيق رحلته الحاضرى سنة (824)، ولكونهما اشتركا فى القراءة والسماع من هذه النسخة على الحافظ العراقى، ومن هنا اعتمد عليها فى شرحه واستفاد من حواشيها فى شرحه كثيرًا، وقد ذكر أنه ابتدأ تبييض الشرح سنة (824)، وهى السنة التى توفى فيها الحاضرى، والله تعالى أعلم.

● ثانيًا: وصف الأصل الدمشقى:

ويقع فى أربعة أجزاء، وعرفنا أنه «الأصل الدمشقى» بعدّة دلائل منها القيود التى على النسخة، ومنها المقارنة بينها وبين ما ينقله عن شرحه عنها، فأما الإجازات فيوجد عليها طباق بخط المزى، وفيها إجازة له، وإجازة بخط الحافظ عمر ابن العَجَمى، وقد أشار البرهان الحلبى أن له تقييدًا على حديث (1350) حيث قال: وقد كتب شيخنا الإمام كمال الدين عمر بن إبراهيم بن العَجَمى الحلبى: (هارون)، وعمل عليها: (صح).

009

 

010

 

ومن الأمثلة على تطابق ما ينقله البرهان الحلبى مع ما فى النسخة:

قال فى شرح الحديث (5868): وتعليق ابن مسافر: لم أره فى «أطراف المِزِّى»، وهو يلزمه إلَّا أنَّى رأيت فى أصلنا الدِّمَشْقى مكتوبًا عليه: (لا)، (إلى)؛ يعنى: أنَّه ليس فى الأصل المُقابَل عليه، وهو أصل فى الضِّيائيَّة، وأصل فى السُّمَيْسَاطيَّة، فعليه؛ لا يلزمه.

011

 

وهذا النصّ أفادنا منزلة هذا الأصل حيث قوبل على أصلين: أحدهما أصل المدرسة الضيائية، وقد وصفه فى مواضع أخرى منها قوله فى شرح الحديث (1498): (ولا فى أصلنا الدِّمشقى المقابل على نسخة السُّميساطيَّة والضِّيائيَّة الذى هو من رواية أبى الوقت؛ فاعلمه)، وقال فى «بَابُ وَقْتِ الْعَصْرِ»: (وهذا الباب هو فى بعض أصولنا الدِّمشقيَّة ثابتٌ ... وقد قابل بعض المُحَدِّثين هذا الأصل الدِّمشقى على نسخة الضِّيائيَّة، والسُّمَيْساطِيَّة)، وقال فى موضع آخر: (وفى أصلنا الدِّمشقى بعد (أبى زُرعة) فى الثانى: (أبو هريرة)، وهى مُخرَّجة فى الهامش، وعليه تصحيح؛ وهى بخطِّ المقَابِل ابن المقريزى)، وهذه الصفات تنطبق على النسخة كما هو مقيد فى آخر كلّ جزء منها:.

012

 

كما كانت هذه النسخة بين يدى برهان الدين الحلبى، وقرئت عليه مرات، وعليها إجازاته، كما قرأها ابنه أبو ذر، وقرئت عليه أيضًا.

013

 

ثم تبيّن لى أن هذه الأصل النفيس أصبح أصل الحافظ برهان الدين الحلبى بما وجدته على فرع منسوخ عنها، ومقابل عليها مرتين، وعليه صورة ما على الأصل من السماعات، وهى النسخة التى انتسخها محمد بن إبراهيم السَّلّامى [26] سنة (850)، وهذه صورة ما كُتب فى آخرها:

014

 

أثر الرجوع إلى هذين الأصلين فى تحقيق الكتاب:

وبيان الأثر هو الذى اقتضى الإفاضة ــ شيئًا ما ــ فى التعريف بهما، وهو ما سيجنيه المحقِّق لأحد الشروح الحديثية حينما يرجع إلى الأصل ــ أو الرواية ــ التى اعتمدها الشارح، خاصة إذا كانت أصلًا يعتمد عليه.

وبالرجوع إلى هاتين النسختين واستصحابهما فى العديد من المواضع فى الشرح؛ فُهم وصفه لضبط كثير من الألفاظ التى وقف مع ضبطها، وتبيّن مراده مما ينقله من الحواشى، وهل هى من أصل الرواية أو مما ألحق بها عند المقابلة على النسخ الأخرى؟ وعُرف أصحاب الحواشى على النسخة، ومن صاحب النسخة، ثم أفادتا كثيرًا فى تقويم النصّ لكونها أحد مصادر المؤلف فى شرحه. وفى الجهة المقابلة صار «التلقيح» شرحًا «كوديكولوجيا» لهما ولخوارج النصّ عليهما.

نماذج من المقارنات بين الأصلين، والتنبيه على فوائدها:

قال فى شرح الحديث (4628): تنبيهٌ: وقع فى أصلنا الدِّمَشْقى فى أصله: (حدثنا أبو نعيم)، وفى الهامش: (أبو النُّعمان)، وكتب عليه: (خ صح)، ولم يطرِّفه المِزِّى إلَّا عن أبى النُّعمان فى (التفسير)، وقتيبة فى (التوحيد).

015

 

وقال فى شرح حديث (2063): (حدَّثنى عبد الله بن صالح: حدَّثنى اللَّيث بهذا)، وأنَّه ثابت فى عدَّة أصول، وهو أيضًا ثابت فى أصلنا الذى سمعنا فيه على العراقى هنا، ولكن فيه: (عبد الرَّحمن)، وكان قبل ذلك (عبد الله)، فأصلح، وضرب على الجلالة، وخرَّج (الرَّحمن)، وصحَّح عليه، وهو خطأ محض، وصوابه: عبد الله، وقد ذكرته مُطَوَّلًا فى (الزَّكاة)، وتكلَّمت على عبد الله بن صالح؛ فانظره، والله أعلم، وفى أصلنا الدِّمشقى أيضًا هنا لم يسنده.

016

 

وقال فى شرح الحديث (2070): قوله: (وَيَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ)، قال: (وفى أصلنا كانت: (ويُحترَف): مبنى لما لم يُسَمَّ فاعلُه، ثمَّ إنَّها أُصلِحت الآن على البناء للفاعل، وهذه هى الصَّحيحة).

017

 

إلا أن «أحترف» فوقها (ش) فهى ليست إصلاحًا، كما بيّنه ابن الحاضرى فى آخر النسخة.

وقال فى شرح حديث (2264) قوله: (حَتَّى يُحْزَرَ ): قال ابن قرقول: («حتَّى يحزر»: كذا للجرجانى، والقابسى، وعبدوس، وعند الأَصيلى للمروزى: «حتَّى يُحرَز»؛ بتأخير الزَّاى، وهو أصوب، وعند النَّسفى: «حتَّى يحزر أو يحرز» على الشَّكِّ، ... وقد طرأ على أصلنا: (يحرَّر)؛ براءين مهملتين هنا، وفيما يأتى بعد، وفى الهامش نسختان، وهما اللَّتان قالهما ابن قرقول، وكذا عمل فى الثَّانية، ولم أر لأحد: (يحرَّر)؛ بمهملتين إلَّا ما عُمِل فى أصلنا.

018

 

وقال فى شرح حديث (1350): قوله: (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ): كذا فى أصلنا، وفى نسخةٍ هى فى هامش أصلنا: (أبو هارون)، وكذا هو عند الحُمَيدى، وفى أصلنا الدِّمشقى فى الأصل: (وقال أبو هريرة)، وقد كتب شيخُنا الإمامُ كمالُ الدِّين عمرُ بن إبراهيم بن العَجَمى الحلبى: (هارون)، وعَمِلَ عليها: (صح).

 019

 

وما فى هامش الأصل عليه رمز (5) وهو رمز رواية أبى ذر، فهى رواية وليست نسخة.

وأما الأصل الدمشقى فلم أقف على الجزء الأول منه إلا أنّ السّلّامى فى فرعه المنتسخ منه أصلحها على الصواب، وألحق فى الهامش ما كان فى الأصل، وعلّق عليها بأنه خطأ ونقل عن برهان الدين الحلبى بيان ذلك:

020

 

وقال فى شرح حديث (7139): (واعلم أنَّ هذه المتابعة كُتِب عليها فى أصلنا الدِّمَشْقى: (لا... إلى) فى أوَّلها وفى آخرها؛ يعنى: أنَّها ساقطةٌ فى الأصل زائدةٌ).

وهى فى الأصل الدمشقى ل 2209 ب:

021

 

ومما اختلف فيه الأصلان اختلافا مؤثرا ما جاء فى حديث (112)، قال: (تنبيه: فى أصلنا القاهرى: قال أَبُو عَبْد الله: كذا قال أَبُو نعيم، واجعلوا عَلَى الشَّكَّ، فـ(على): جار ومجرور، و (الشَّكَّ): منصوب مفعول. وفى أصلنا أيضًا: (وغيره يقول: الفيل)؛ يعنى: غير أبى نعيم يقول: الفيل؛ يعنى: بالفاء وبالمثنَّاة تحت؛ يعنى: ولم يشكَّ، وفى أصلنا الدمشقى: (شكَّ أَبُو عَبْد الله)، فالشَّاكُّ فى هذه النُّسخة هو البخارى، والله أعلم).

وهذه المسألة لم يتعرض لها الحافظ ابن حجر عند شرح الحديث، والنصّ فيه شيء من الإبهام يتّضح بمراجعة الأصلين.

022

 

ومع اعتماده على الأصل القاهرى إلا أنّه لم يجعله أصلًا مطلقًا، بل ربّما أخّره وقدّم عليه غيره، إذا تبيّن خطأه، ولهذا أمثلة كثيرة منها [27]:

قال فى شرح حديث (3064): (وَسَهْلُ بْنُ يُوسُفَ): كذا صوابه، ووقع فى أصلنا: (سهل بن سعد) وهو خطأ، وقد ضبَّبتُ عليه، وكتبت فى الهامش: صوابه (ابن يوسف).

023

 

وبعض هذه المواضع كان يضبّب عليها فى الأصل، ويبين وجه الصواب مما يمكن أن يستفاد منه أيضا فى تحقيق الشرح، ومن ذلك:

قال فى شرح حديث (1137): قوله: (أَخْبَرَنِى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ): هو سالم بن عبد الله بن عمر، أحد فقهاء التَّابعين، ووقع فى أصلنا: (ابن عبيد الله)، وهو خطأ، وقد ضببت أنا عليه، وصوَّبت التَّكبير.

024

 

وقال فى شرح حديث (2370): (وَأَنَّ عُمَرَ حَمَى السَّرَفَ وَالرَّبَذَةَ): أمَّا (السَّرَف)؛ ففى أصلنا: بالسين المهملة والراء المفتوحتين، وبالفاء، وفى هامش أصلنا: (الشَّرَف)؛ بالشين المعجمة والراء المفتوحتين، وعليها (صح) وعلامة نسخة، وفى نسخة فى هامش أصلنا وعليها علامة نسخة الدِّمْيَاطى: (السَّرِف)؛ بفتح السِّين المهملة، وكسر الرَّاء، (قال الدِّمْيَاطى: كذا عند البخارى بالسِّين المهملة، وهو خطأ، والصَّواب: بالشِّين المعجمة، وفتح الرَّاء، وكذا رواه ابن وهب فى «مُوَطَّأيه» [28]، وهو من عمل المدينة، وأمَّا سَرِف؛ فمِن عمل مكَّة على ستَّة أميال منها، وقيل: سبعة، وقيل: تسعة، وقيل: اثنا عشر، ولا تدخله الألف واللَّام، والشَّرِف من جهات المدينة) انتهى، وكذا قال غير الدِّمْيَاطى ممَّن تقدَّمَه، وكأنَّه أخذه الدِّمْيَاطى من كلام ابن قرقول أو من القاضى عياض، وكانتِ الرِّواية كما قال الدِّمْيَاطى ومَن تقدَّمَه، ولكنَّ الناس عملوا الإهمال نسخة لمَّا لم يتيقَّنوه، أو أنَّ أحدًا من الفضلاء صوَّب، فجاء مَنْ بعدَهُ عمله نسخة، أو أنَّ الرُّواة اختلفوا فى ذلك، وكيف كان، فالصَّواب: الإعجامُ، لا الإهمال، الإهمال وكسر الرَّاء تصحيفٌ، والله أعلم.

025

 

 

 ۞۞۞۞۞

 

المبحث الرابع: موارده فى الكتاب، وطريقته فى الإفادة منها

ومعرفة مصادر المؤلفين مهمّة لمن رام خدمة كتابٍ ما، ليتسنّى له مراجعة النقول، وتوثيقها، وتقويم النصّ، والتنبيه على الأوهام. وسيكون الحديث عن مصادر المؤلف، وما استجد له منها، وأثر ذلك فى صفة الكتاب ومظهره حتى كاد أن يكون كالمسوّدة، ثم أثر ذلك على المحقِّق، وما يلزمه ليخدم الكتاب، ويخرجه بالمظهر المناسب.

1. وأوّل موارده فى الشرح الأصلان القاهرى والدمشقى، وما فيهما من رموز النِّساخة عند المحدثين [29]، والحواشى التى عليهما.

وقد صرّح البرهان الحلبى فى المقدمة بجملة من المصادر التى اعتمد عليها، وأهمّها:

2. «التوضيح لشرح الجامع الصحيح»، لشيخه الحافظ سِراج الدين ابن الملقِّن، وإذا نقل عنه قال: (قال شيخنا الشَّارح)، قال: وقد قرأتُ عليه من أوَّل شرحه لهذا الكتاب إلى أوَّل (كتاب الجهاد)، ثمَّ ما فى الكتاب قد كتبتُه. وقال: وإذا نقلتُ فيه شيئًا عن غيره من مشايخي؛ ميَّزتُه وعيَّنتُه.

3. «حواشى الدِّمْيَاطى» على «البخارى»؛ وهو الحافظ شرف الدين أبو محمَّد عبد المؤمن بن خلفٍ الدِّمْيَاطى.

4. «التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح»، قال: ومَن قلتُ فيه: (قال بعضُهم)؛ فمُرادى صاحبُنا الإمام بدر الدين القاهرى الزَّرْكشى فى كتابه «التنقيح»، وهو كتابٌ حسنٌ مَليح، غيرَ أنَّ فيه أشياءَ غيرَ صحيحةٍ، وقد وقفتُ منه على نسخةٍ سَقيمةٍ غيرِ مُريحة.

5. نقل ما يتعلق بتراجم الرجال من «تذهيب التهذيب»، و «ميزان الاعتدال»، كلاهما للحافظ الذهبى مع التنبيه على ما صحّح عليه أو ذكره تمييزًا.

6. «الإفهام لما فى البخارى من الإبهام»، قال: وما نقلتُه فيه عنِ ابن شيخنا البُلقيني؛ فمِن كتابه «المبهمات»، وهو قاضى المسلمين الإمام جلال الدين عبد الرحمن بن شيخ الإسلام سِراج الدين أبى حفص عُمر بن رِسلان بن نُصير رحمهما الله، فقد كان للخيراتِ داعيًا، ولعلوم الشريعة واعيًا.

7. «هُدى السارى»، قال: ثمَّ اعلم أنَّ ما فيه عن (حافظٍ عصرى)، أو عن (بعض حفَّاظ العصر)، أو نحو هاتين العبارتين؛ فهو من قول حافظ هذا العصر العلَّامةِ قاضى المسلمين حافظِ الإسلام شهابِ الدين ابنِ حَجَرٍ، من كتابه الذى هو كالمدخلِ إلى «شرح البخارى» له، أعانَه الله على إكمال الشرح.

وغيرها من المصادر كثير إلا أنّ جلّ كتابه بناه على هذه المصادر [30].

ومن قلّب صفحات الكتاب فسيدرك سريعًا حرص الشارح على تسمية من ينقل عنهم، وخَتْم كلامهم بكلمة (انتهى)، وهذه ميزة يمتاز بها عن كثير من الشروح، فإن من أشقّ ما يعانيه من يحقق الكتب التى تكثر من النقل تحديد نهاية الأقوال ــ خاصة إذا كانت المصادر بعيدة أو مفقودة، أو كان النقل بالمعنى ــ مما يؤدى إلى ترك الكلام محتمِلًا أو إلى تداخل الأقوال فى بعضها، ونسبة القول إلى غير قائله.

ومع هذه الميزة التى امتاز بها الشارح، إلا أنّه بممارسة الشرح ومقابلته على موارده ظهرت إشكالات وصعوبات كان سببها ميزة أخرى امتاز بها المؤلف، ألا وهى إعادته النظر فى الكتاب، وتنقيحَه، والزيادةَ عليه حتى بات كالمسوّدة، وإكثاره من استعمال (اللّحَق)، وألفاظٍ نحو (انتهى) و (تقدم فى الأعلى).

وفى مثل هذه الحالة على المحقِّق أن يدرس الظواهر التى يلاحظها فى الكتاب، سواء كانت متعلقة بطريقة التأليف أو متعلّقة بالنّساخة وخوارج النصّ، وأن يفهمها قبل الشروع فى خدمة الكتاب الخدمة التفصيلية، والسبيل إلى هذا الفهم تتبّع تلك الظواهر، والمقارنة بين المتشابهات منها فى الكتاب من جهة، والمقارنة بينها وبين مواردها ــ إن كانت لها موارد ــ من جهة أخرى.

وسأقف مع جملة من الظواهر المرتبطة بموارده من جهة، وبمظهر المخطوط العامّ من جهة أخرى.

أولا: ما يتعلق بموارده فى الكتاب:

أ ـ النقل عن الحافظ ابن حجر العسقلانى:

وقد صرّح بأنّه ينقل من الكتاب الذى هو كالمقدمة للشرح، ولو راعينا مظهر الصفحة لوجدنا هذا الكلام ملحقًا بالمقدمة، وهذا يفيدنا علاوةً على كونه أحد موارده فى الكتاب أنّ ما ينقله عن الحافظ ابن حجر هو مما زاده على أصل الكتاب، ويمكن أن يكون هذا محلّ دراسة لأثر الحافظ ابن حجر فى تأليف الكتاب.

وكون هذه الزيادات ملحقةً على أصل الكتاب غير مستغرب فإنّه أنهى تبييض الكتاب سنة (825)، ورحل إليه الحافظ ابن حجر سنة (836)، أى بعد تبييض الكتاب بإحدى عشرة سنة، ولم يُحضِر الحافظ معه من الشرح سوى كراريس. ومن هنا فإنّ معظم ما ينقله عن الحافظ ابن حجر مأخوذ من المقدمة، وهو ملحق على هامش الكتاب [31].

026

ب ـ النقل عن الحافظ الذهبى:

نصّ على أنّه ينقل ما يتعلق بتراجم الرواة من «التذهيب» و «الميزان» للحافظ الذهبى، إلا أنّنى وجدت أنّه يعتمد على «الكاشف» كثيرًا، وينقل عنه دون تصرّف، ومن الأمثلة على ذلك:

ترجمة أبى الوليد الطيالسى فى شرح الحديث (107)، قال: هشام بن عبد الملك الطيالسى، الحافظ، عن هشام الدستوائى وشعبة، وعنه: البخارى وأبو داود وابن الضُّريس. قال أحمد: هو اليوم شيخ الإسلام. وقال أَبُو زرعة: كان إمامًا فى زمانه. وقال أَبُو حاتم: إمام فقيه حافظ، ما رأيت فى يده كتابًا قطُّ. مات سنة 227، وله 94 سنة، أخرج له «ع»، ذكره صاحب «الميزان» تمييزًا.

وهذه الترجمة إلى قوله: (أخرج له «ع») هى نصّ ما فى «الكاشف»، وهنا يلزم المحقِّق أن يقارن الترجمة ويوثّقها منه ابتداءً، ولا يصحّ أن يتجاوزه إلى غيره من المصادر ،وإن كانت للحافظ الذهبى.

ج ـ حواشى شرف الدين الدِّمْيَاطى:

وهو ممن أكثر النقل عنه جدًا، وقد عُلم مما سبق أنّه ينقل عنه بواسطة «الأصل القاهرى»، ومن لم يطّلع عل هذا الأصل، ويقارن بينهما، فسيظن أنه ينقل عنها بلا واسطة، أو أنّه ينقل عنه بواسطة «التوضيح» مثلًا، وسيفوته مصدر هامّ من مصادر تقويم النصّ وضبطه.

ثانيًا: ما يتعلق بـ النِّسَاخَة:

أ ـ اللّحَق:

واللّحَق ـ بالتحريك ـ هو: أن يُخرجِ من المكان الذى يريد الزيادة فيه خطًّا صغيرًا، ويميله جهة الهامش التى سيكتب فيه، ثم يختم الكلام بـ (صح) علامة على أن الزيادة من الأصل، وهى صحيحة لفظًأ ومعنى [32] .وقد نبّه العلماء إلى طريقة اللّحَق، والجهة التى يكون إليها، وأنه يكتب نازلًا لا صاعدًا

ومن عادة البرهان الحلبى أنّه إذا انتهى تعليقه على الموضع الذى يشرحه من الصحيح رسم دائرة إيذانًا بانتهاء الكلام، ثم يبتدئ من أوّل السطر الكلام على الموضع الجديد، فإذا أراد أن يلحق شيئًا، وكان موضعه آخر الكلام؛ مدّ خطًّا مقوّسًا من قبل الدائرة إلى ما بعدها، ثم أكمل الكلام باقى السطر، وإن كان موضع اللّحَق وسط الكلام مدّ الخط من وسط الكلام إلى الجهة التى سيكتب فيها اللّحَق.

وكتاب «التلقيح» كثير الإلحاقات جدًا، وقد أدّت هذه الإلحاقات إلى عدة صعوبات:

1 ـ توالى الإلحاقات وصعوبة تحديد مكانها.

فقد تكثر الإلحاقات وتتوالى فيحصل بينها تداخل، ويجد القارئ صعوبة فى تحديد اللّحَق المقصود، فعلى القارئ أن يتأنّى فى مثل هذه المواضع لئلا يُلحق كلامًا فى غير مكانه.

قال فى شرح حديث (7517): قوله: (فَأَوْعَيْتُ مِنْهُمْ إِدْرِيسَ فِى الثَّانِيَةِ): الأكثر: (فَوَعَيْتُ)؛ أى: حفظت، قال فى «المطالع»: الوَعْى: الحفظ للشيء، ووَعَيت العلم وأوعيته: حفظته، وجمعته، وقال فى «الأفعال»: وَعَيت العلمَ: حفظته، ووَعَتِ الأذنُ: سَمِعَتْ، وأوعى المالَ: جمعه فى الوعاء. انتهى، وكما فى «الأفعال» ــ وليس مرادُه «أفعال» ابن القطَّاع، ولا ابن القوطيَّة، وسأذكر كلامَ ابن القطَّاع ولكنّه ــ فى «صحاح الجوهرى»، والذى فى «أفعال ابن القطَّاع»: (وأَوعَيت العلم؛ مثل: وَعَيته)؛ فهو موافقٌ لِما فى «المطالع»، لا لِما فى «الأفعال» التى أشار إليها، والله أعلم.

وأصل الكلام: وكما فى «أفعال ابن القطاع» فى «صحاح الجوهرى»، ثم لما تبيّن له أنّه ليس فيه، استدرك بأنّه ليس فيه، ولا فى كتاب ابن القوطيّة، لكنّه فى «الأفعال» الذى ذكره الجوهرى فى الصحاح، ثم ألحق ما فى كتاب ابن القطاع، وأنه موافق لما فى المطالع لا لما فى «الأفعال»، فلما تكرر لفظ «الأفعال» زاد: (التى أشار إليها) ليتضح مراده. فيكون قد ألحق بالكلام استدراكًا، ثم ألحق زيادة، وزيادة على الزيادة، مما يصعّب تحديد مواضع الزيادة.

027

 

2 ـ وقوع الاضطراب فى سياق الكلام

قال فى شرح حديث (4424): قوله: (أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ): (عظيم البَحْرين): هو المنذر بن ساوَى كما تَقَدَّم،* وهو المنذر بن ساوَى التميمى الدارى ـ لعله: الدارمى ـ صاحب البَحْرين)، ثم ألحق فى أثنائه كلاما طويلا بعد (كما تقدم) وهو: ( ـ وساوَى بفتح الواو، كذا أحفظه، ورأيت عن الحافظ قطب الدين الحلبى ما لفظه: بكسر الواو، كذا رأيت بخطِّ شيخنا الرضى الشاطبى، وقال: ذكره عياض فى «التنبيهات» ابن الأخنس بن بيان بن عمرو بن عبد الله بن زيد بن عبد الله بن دارم الدارمى، صاحب البَحْرين، الأسبذيُّ؛ بالباء الموحَّدة، والذال المعجمة: نسبة إلى إسبذ؛ قرية بهجر، كانوا ينزلون بها، وقيل: فرس كانوا يعبدونه، وقيل: اسم رجل بالفارسيَّة، ويقال له: العبديُّ؛ منسوب إلى عبد الله بن دارم، انتهى ـ )، وإذا قرئ الكلام بعد الزيادة فأوّله مستقيم، وما بعد موضع اللّحَق يستشكله القارئ لما حصل فيه من التكرار، وقوله: (انتهى) يعود لكلام القطب الحلبى (المورد العذب الهنى 2/302-303).

ومثله ما فى شرح حديث (107) حيث استطرد بعد شرح الحديث فذكر ما يستحضره من الأحاديث التى حُكم بتواترها ومما قاله: (... وقد رأيت ادِّعاء التواتر فى أحاديث كثيرة * لا تحضرنى الآن، ولكن ذكرت لك منها ما أستحضره الآن، والله أعلم)، وألحق بعد كلمة (كثيرة) قوله: (فى غير كلام الأربعة الذين ذكرتهم أوَّلًا كما ذكر الحاكم فى «المستدرك» قال ما لفظه: (تواترت الأخبار: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد مختونًا مسرورًا)، وقد تعقَّبه فى ذلك الحافظ الذَّهبى فى تلخيصه للمستدرك، فقال: (ما أعلم صحَّة ذلك، فكيف متواترًا ؟!) انتهى، وقد ذكرت مسألة: هل ولد عليه السَّلام مختونًا أم لا؟ مطوَّلة فى تعليقى على «سيرة ابن سيِّد الناس»؛ فانظر ذلك إن أردته. صح)، وأنت بصير بأن أوّل الكلام ملائم لما قبله، وأما آخره (فانظر ذلك إن أردته لا تحضرنى الآن) فقلق.

والمناسب للمحقّق فى مثل هذه المواضع، وقد اطلع على حقيقة الحال، أن يستعمل علامات الترقيم المناسبة كأن يجعل اللّحَق بين معترضتين، وأن ينبّه عليها، لئلا يستشكل القارئ الكلام، ثم تذهب به الظنون ويبحث فى رفعه.

3 ـ اللّحَق فى أثناء الكلام المنقول

تقدّم أن من عادة المؤلف أن يقول عند تمام النقل (انتهى) إلا أنه قد يُلحق فى أثناء الكلام المنقول زيادة ليست منه، فإذا ما قوبل على مصدره وجد بينهما تغاير ! وهذا يشكل على القارئ الذى لم يعرف حقيق الحال.

جاء فى ترجمة سويد بن غَفَلة فى شرح حديث (2426): هو بفتح الغين المعجمة والفاء، الحنفى، أبو أميَّة، الجعفى، وُلِد عام الفيل، وأسلم فى حياته عليه الصَّلاة والسَّلام، قدم المدينة حين دفنوا النَّبى صلى الله عليه وسلم، وقد رُوِى: أنَّه رأى وصَحِب. انتهى. وسمع أبا بكر وعدَّةً، وعنه: سلمة بن كُهَيل وعَبْدة بن أبى لبابة، ثقة إمام زاهد قوَّام، تُوُفِّى سنة (81 )، أخرج له (ع)، وقيل فى وفاته غيرُ ما ذكرت.

وهذا السياق فيه إشكالان حيث اندرجت كلمة (انتهى) فى أثناء الكلام، ولم يعزُ الكلام إلى قائل.

ويرتفع الإشكال بالرجوع إلى نسخة المؤلف، ومعرفة أصل الكلام واللّحَق الذى فيه، ومعرفة المصدر المنقول عنه حيث لم يصرّح به، إلا أنّ سياق الترجمة يشبه أسلوب الذهبى فى «الكاشف»، وهو منه (ت 2197)، وأصل الكلام فيه: (هو بفتح الغين المعجمة والفاء، الحنفى، أبو أميَّة، الجعفى، وُلِد عام الفيل، [وأسلم فى حياته عليه الصَّلاة والسَّلام]، قدم المدينة حين دفنوا النَّبى صلى الله عليه وسلم، [وقد رُوِى: أنَّه رأى وصَحِب، انتهى]، وسمع أبا بكر وعدَّةً، وعنه: سلمة بن كُهَيل وعَبْدة بن أبى لبابة، ثقة إمام زاهد قوَّام، تُوُفِّى سنة (81)، أخرج له (ع). وقيل فى وفاته غيرُ ما ذكرت)، وما بين المعقوفتين لحَق على أصل الترجمة، فعلى المحقِّق أن يضع (نقطة) بعد (ع)، ليعرف القارئ منتهى الكلام المنقول، ويضع حاشية يعزو فيها الترجمة «للكاشف» ابتداء، وينبه على ما ألحق بها.

وقد رجعت فى هذا الموضع إلى فرع عن نسخة المؤلف عليها خطّه (69 أ) لأنظر إن كان غيّر فى مثل هذه المواضع، فوجدت الكلام على ما هو لم يتغيّر.

وليس هذا الموضع فردًا فى الكتاب، لكنّه متكرّر فى التراجم التى يأخذها من «الكاشف»، ثم يلحق بها زيادات، كما فى ترجمة ابن أخى الزهرى فى شرح حديث (27).

ب ـ استعماله كلمة (أعلاه).

ويريد بها الإشارة إلى كلام متقدم فى الصفحة ذاتها، وعادة المؤلفين أن يحيلوا إلى موضع متقدم، دون مراعاة للصفحة التى فيها الكلام، فإنّ الكتاب إذا انتسخ تغيرت مواضع الكلام فيه؛ فلا يكون لكلمة (أعلاة) معنىً ذا بال، بل قد يثير استشكالًا، وقد أكثر برهان الدين الحلبى من استعمالها فى كتابه، حتى بلغ عددها بالبحث (1235) مرة، وعدد لوحات الكتاب (1940) صفحة تقريبًا جدًا، ولهذه الكثرة التى لا يكاد يخطئها ناظر أكتفى بمثال واحد:

قال الإمام البخارى: (7139) حـدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهرى، قال: كان محمد بن جُبير بن مُطعم يحدّث: أنّه بلغ معاوية ــ وهو عنده فى وفد من قريش ــ أن عبد الله بن عمرو يحدّث: أنه سيكون ملك من قحطان ... تابعه نُعيم، عن ابن المبارك، عن معمر، عن الزهرى، عن محمد بن جُبير.

قال البرهان فى شرح الحديث: (رأيت بخط شيخ الإسلام شيخنا البُلقينى، قال: هذا الحديث إسناده منقطع، فإن الزهرى إذا قال: (كان فلان يحدث)؛ فليس هو بسماع، ذكر ذلك الحافظ صالح بن محمد الأسدى فى حديث الزهرى هذا، قال الحافظ الأسدى: ...)، ونقل كلامًا طويلًا، ثم قال: (وقال بعض حفّاظ هذا العصر على هذه الحاشية ما لفظه: قلت: الكلام فى نُعيم هذا مفرّع على تفرده بهذا الخبر، والواقع أن البخارى أخرجه من غير طريقه، وفى بعض طرقه التصريح بالسماع، كذا وقع عند الإسماعيلي؛ فتطلب حاشية شيخ الإسلام، انتهى).

وقال فى شرح المتابعة: (ورأيت بخط شيخنا البُلقينى ما نصه: فائدة: قوله: (تابعه نُعيم) لا يظهر؛ لأن السند السابق منقطع، كما تقدم، فتكون المتابعة على الانقطاع، وهذا لا يفيد، والعنعنة المذكورة من حديث نُعيم لا انقطاع فيها، فأين المتابعة؟! وكان ينبغى للبخارى أن يقول: رواه نعيم عن ابن المبارك، عن معمر، عن الزهرى، عن محمد بن جبير، انتهت. وقد تقدم ذلك بأطول من هذا أعلاه، وقد كتب عليه بعض حفاظ العصر: هذا الاعتراض أسقط من الأول، انتهى. يعنى بـالأول: ما ذكرته فى الحاشية أعلاه، والله أعلم).

ومن يقرأ الكلام هكذا، يمكن أن يفهم أن (أعلاه) بمعنى السابق، وأنه يقصد أن هذا الكلام تقدم بأطول منه فى موضع آخر، والقارئ للكتاب لا يعرف ما الحاشية السابقة؟ والكتاب بين يديه لا حواشى فيه !والكلام السابق ــ على طوله ــ مما ألحقه فى الحاشية على أصل الكتاب، وقوله (أعلاه) يشير إلى ما هو مكتوب فى الصفحة ذاتها، حيث ألحق فى أعلى الصفحة ما يتعلق بالانقطاع، وألحق فى وسطها ما يتعلق بلفظ المتابعة. [33]

028

 

ج ـ استعماله كلمة (انتهى)

وهى كلمة تدل على انتهاء القول المحكى أو المنقول، وقد أكثر البرهان منها جدًا، وبلغت المرات التى استعملها فى الكتاب (3615) مرة، وأحيانًا يقول: (انتهى لفظ...)، (قال ... ما لفظه)، أو يقول: (ملخّص)، (انتهى ببعض اختصار)، ونحو ذلك.

وقد أنعمت النظر فى مواضع شتى مما يقول فيها: (انتهى)؛ فظهر لى أنه يستعملها على أوجه متعددة:

1 ـ يستعملها عقب كلام لم يبتدئه بما يدلّ على أنه كلام منقول، كما تقدم قريبًا فى نقله عن «الكاشف»، ويستعمله عادة فى النقل من المصادر التى اعتمد عليها، وأكثر من النقل عنها، فهو عادة لا يصرّح بها إلا إذا أراد أن يبرز القائل ليتميز عن غيره من الأقوال، أو إذا أراد أن يتعقّبه.

2 ـ يستعملها مع التصريح بالنقل، فيقول: (قال فلان)، ويختم النقل بقوله: (انتهى)، لكن النقل قد يكون بالنصّ، وقد يكون بالمعنى، فيكون غرضه أن يبين منتهى الكلام؛ لئلا يختلط بغيره من الكلام، ولذا نجده ينصّ أحيانًا أن النقل (انتهى لفظه بحروفه).

3 ـ يستعمله فى اللّحَق، ويريد بها تمام اللّحَق، بمثابة النقطة؛ ليعود إلى أصل الكلام.

ولهذا فعلى المحقِّق أن يوسّع دائرة بحثه فى المصادر ليعرف نوع الاستعمال، وهل النقل باللفظ أو بالمعنى، ثم إن كان بالمعنى فعليه أن يتأكد من سلامة المعنى المحكى.

وهذه أمثلة لما سبق:

قال فى شرح حديث (122): قوله: (فَجَاءَ عُصْفُورٌ): عن بعضهم: أنَّه الصُّرَد، انتهى.

وهذا الكلام من أصل الشرح وليس لحقًا، وأبهم قائله، وقال بعده: (انتهى)، فالكلام من أحد المصادر التى اعتمدها، وهو «التنقيح» للزركشى، ولفظه: (ذكر بعضهم أنَّه الصُّرَد)، فأبهم القائل تبعًا للمصدر الذى نقله عنه.

وقال فى شرح حديث (128) فى عدّ أرداف النبى صلى الله عليه وسلم: وقال شيخنا الشَّارح فى «كتاب اللِّباس» من شرح هذا الكتاب: منهم - يعنى من الأرداف -: أولاد العبَّاس، وعبد الله بن جعفر، وأبو هريرة، وقيس بن سعد بن عبادة، وصفيَّة، وأم صُبَيَّة الجهنيَّة، انتهى. فأولاد العبَّاس ستَّة رجال من أمِّ الفضل، وإنْ أراد أولاده كلَّهم؛ فعشرة بتمَّام، وقد اختُلِف فى صحبته، وله رؤية، فيحرَّر ما أراد، انتهى. وعقبة بن عامر، وقد رأيته فى مصنَّفٍ لبعض الشافعيَّة استدركه على الأرداف ...).

 فبعد أن نقل كلام شيخه، ذكر ما يدخله من الاحتمال، وختمه بكلمة (انتهى)، ليرجع إلى استكمال ذِكْر من ورد أنّهم من أرداف النبى صلى الله عليه وسلم، والكلام كلّه من أصل الشرح لا لحَق فيه.

وقال فى شرح حديث (1758): قوله: (حَدَّثَنَا حمَّاد): هذا هو حمَّاد بن زيد، الإمام، تقدَّم، وقد تقدَّم مرارًا أنَّ عارمًا إذا أطلق حمَّادًا أو أطلقه سليمان بن حرب؛ فهو ابن زيد، وإن أطلقه التَّبوذَكِى أو عفَّان أو الحجَّاج بن منهال؛ فهو ابن سلمة، وكذا إذا أطلقه هُدبة بن خالد، انتهى. وكذا تقدَّم (أيُّوب): أنَّه ابن أبى تميمة السَّختيانى).

وقوله: (انتهى) إشارة إلى انتهاء اللّحَق، فبعد أن كتب ما تحته خط فى الهامش، كتب: (انتهى. صح).

ونقل فى شرح حديث (90) فى بيان المبهم فى الحديث، فقال: قال ابن شيخنا البُلقينى فى «مبهماته»: لَمْ يُرَ هذا مبيَّنًا، يعنى: هذا الإمام المشار إليه هنا، لكن فى «مسند أبى يعلى الموصلى» ما يدلُّ على أنَّ الإمامَ أُبى بن كعب، وسنبسطه فى بابه، وقد ذكر فى حديث معاذ: «فانصرف رجل»، فذكر الخلاف فيه، وسأذكره فى حديث إمامة معاذ. انتهى.

وأصل الكلام لجلال الدين البُلقينى، أدرج فيه البرهان الحلبى جملة بيانية، ثم عقّبه بأنّه ذكره فى موضع آخر، ثم قال: (انتهى) يعنى الكلام فى المسألة.

وعلى ما سبق فيكون تنسيق الكلام على النحو الآتى: قال ابن شيخنا البُلقينى فى «مبهماته»: (لَمْ يُرَ هذا مبيَّنًا ـــ يعنى: هذا الإمام المشار إليه هنا ـــ لكن فى «مسند أبى يعلى الموصلى» ما يدلُّ على أنَّ الإمامَ أُبى بن كعب، وسنبسطه فى بابه)، وقد ذكر فى حديث معاذ: «فانصرف رجل»، فذكر الخلاف فيه، وسأذكره فى حديث إمامة معاذ. انتهى.

د ـ استعمال الدائرة:

وهى بمثابة النقطة، يستعملها عند تمام الكلام على القول المشروح، كما يستعملها عند تمام اللّحَق أحيانًا، وقد تقدمت الإشارة إليها عند الحديث على اللّحَق.

 

۞۞۞۞۞

 

المبحث الخامس: تقويم النصّ، وضبطه، وإخراجه:

وهذه ثمرة جميع ما سبق من فهم شخصية المؤلف، ومقصده فى كتابه، وطريقته فيه، وموارده، وكيف أثّر ذلك فى الكتاب شكلًا ومضمونًا، بحيث يخرج المحقِّق الكتاب ويحليه بعلامات الترقيم والتعليقات التى تكشف عن مراد المؤلف، وتعكس ما رآه المحقِّق من الجوانب المؤثرة فى المعنى.

والغرض هنا التذكير بجملة أمور قد تغيب عن المحقِّق، ولها أمثلتها فى كتاب «التلقيح».

1 ـ مقابلة النصّ على مصادره التى نقل منها.

وهذا أمر ضرورى، وقد كفانا الشارح مؤنة التنقيب عن مصادره، فصرّح بذكرها فى المقدمة، وقد سبقت معنا نكات عُرفت بالمقابلة على المصادر، وتكون مهمة المقابلة أصعب حينما لا يصرّح بمصدره، أو حينما يكون المصدر حاشية له أو لغيره على أحد الكتب.

ومن المصادر التى قد لا يتنبّه لها المحقِّق نسخ المؤلف من الكتب التى يعزو إليها، فقد تكون عليها حواشٍ له أو لغيره ينقل منها كما تقدمت الإشارة إليه، ومثاله أيضًا ما ذكره فى شرح حديث (115) حيث قال: تنبيه: وقع فى بعض نسخ «الكاشف» وكذا وقع فى «التَّذهيب» كلاهما للذهبى: أنَّها زوجة المقداد، وليس ذلك بصواب، وفى «التَّهذيب»: زوجة معبد بن المقداد. ثمَّ إنِّى راجعت نسخة من «الكاشف» صحيحة مقروءة؛ فوجدتها قد خُرِّج فيها على الهامش بعد (زوجة): (معبد بن)، وصحَّح عليه، وهذه النُّسخة مقروءة على الحافظ تقى الدِّين بن رافع، وهذا هو الصَّواب...

وهذا التنبيه والحاشية نقله على هامش نسخته من «الكاشف»، وكتب نحو ما قاله هنا، ثم قال بعده: وصحّح عليه على أنه من الأصل، فغيره غلط، والله أعلم ا.ه. والجمع بين هذين الموضعين أفادنا قيمة النسخة التى صُحّح عليها، وأن هذه الزيادة ساقطة من كثير من نسخ الكتاب، فلا يعوّل على سقوطها منها.

ومن فوائد المقابلة اكتشاف الوهَم، فإن المؤلف مهما بلغ من التحرى والضبط؛ إلا أنّه كغيره يقع له السهو والوَهَم، وقد وقفت على شيء مستغرَب من ذلك، أذكره ليكون عنوانًا على ما عداه:

ترجم فى شرح حديث (112) لشيبان النّحْوى نقلًا من «الكاشف» على عادته، ثم تكلّم عن النسبة، ومما قاله: وفى «التذهيب» أيضًا للذَّهبى فى ترجمة شيبان هذا، قال ابن أبى داود وغيره: إنَّ المنسوب إلى القبيلة: يزيد بن أبى سعيد النحوى لا شيبان هذا. انتهى، وكذا فى «الكاشف» كلام ابن أبى داود وغيرِه لا الأوَّل.

والذى يلفت الانتباه أنه بعدما نقل ترجمته من «الكاشف» عزا إليه كلامًا حول النسبة، ليس فى الكلام الذى نقله قبلُ، وسياقه مما يُستغرب وجوده فى «الكاشف»، وبعد الرجوع إلى نسخة البرهان من «الكاشف» تبيّن أن الكلام من حاشيته هو على «الكاشف»، وليس من أصل الكتاب كما هو ظاهر فى الصورة (ل 59 أ).

029

 

وقال فى شرح حديث (122): قوله: (فَجَاءَ عُصْفُورٌ): عن بعضهم: أنَّه الصُّرَد. انتهى، والصُّرَد: على وزن (الجُعَل)؛ وهو طائر فوق العصفور، قاله اللَّيث. وعن النضر بن شميل: أنَّه طائر أبقع، ضخم المنقار، له بُرش عظيم. يعنى: أصابعه عظيمة، وفى الصُّرَد كلام غير هذا، والله أعلم.

هكذا قال: (بُرش)، وكذلك هى فى فرع عن نسخة المؤلف عليها خطّه، والذى يظهر أنّها مصحّفة من (بُرثن) ـ وهو المخلب ـ كما فى مصادر اللغة، وأما البُرش، فله عدّة معانٍ تدور حول الألوان ولا علاقة له بالأحجام.

ونقل فى شرح حديث (2003) عن الحافظ ابن حجر كلامًا ذكره فى أصل الشرح، عند قوله: عن حُميد بن عبد الرحمن (أنّه سمع معاوية بن أبى سفيان t يوم عاشوراء عامَ حجَّ، على المنبر) الحديث.

قال فى الشرح: (قال بعض حُفَّاظ العصر فى هذا المكان: صوابه: أنَّه قاله سنة أربع وأربعين، أوَّل حجَّة حجَّها بعد أن استُخلِف؛ ذكر ذلك أبو جعفر الطَّبرى فى «تاريخه الكبير»، انتهى).

ذكر الحافظ هذا عند شرحه للحديث فى «فتح البارى»، إلا أنّه وقع فى النقل اختصار وتغيير، والذى فى «الفتح»: (وكأنه تأخّر بمكة أو المدينة فى حجته إلى يوم عاشوراء، وذكر أبو جعفر الطبرى: أن أوّل حجّة حجّها معاوية بعد أن استخلف، كانت فى سنة أربع وأربعين، وآخر حجّة حجّها سنة سبع وخمسين. والذى يظهر أن المراد بها فى هذا الحديث الحجّة الأخيرة)، فالطبرى أرّخ لزمن حجّه، ولم يتعرّض لتحديد زمن الحجّة المذكورة فى الرواية، واستظهر الحافظ أنّها الأخيرة منهما، وهذا كله على خلاف ما نقله البرهان عنه، ولا أدرى إن كان للحافظ كلام على هذا الموضع فى كتاب آخر، والأظهر أنه نقله على المعنى، فوهم فيه، خاصّة وأن الكلام هكذا فى الإبرازتين الأولى والثانى للفتح، الله تعالى أعلم.

2 ـ عدم المسارعة إلى التوهيم بناء على ما فى المطبوعات

والمطبوعات تتقاوت تفاوتًا كبيرًا فى إتقانها، وقد تتعدد روايات الكتاب الواحد ونسخه، وحينئذ لا يجوز الحكم بوَهم الشارح ابتداءً إذا كان ضابطًا متقنًا، وكان يعتمد على نسخ موثوقة من الكتب. وبالنسبة للبرهان الحلبى فإنه ينبّه إن كان نقله من نسخة سقيمة، كما يصف النسخ المتقنة التى كان يعتمد عليها، وما كان منها بخطوط أصحابها.[34]

ومن الأمثلة المستغربة على مثل هذه المسارعة، ما وقع لأحد الباحثين عند قوله فى شرح الحديث (5652): وقال بعض حفاظ المصريين بعد أن ذكر أنها أمّ زُفر، وأن أبا موسى سماها فى «الذيل» سُعيرة بالمهملات. حيث كتب الباحث مكان «الذيل»: «الدلائل»، وعلّق عليها بقوله: (فى المخطوط: «الذيل»، والتصويب من فتح البارى 1/328. ا.ه.)، والذى فى «التلقيح» هو الصحيح، والكلمة على الصواب فى مخطوطة «هدى السارى»، و«فتح البارى» عند شرح الحديث، وكلُّ ما فى الأمر أنّها تصحّفت فى المطبوع من «المقدمة».

3 ـ التوثيق.

وهذا لا يكون إلا بعد مراجعة نصوص الكتاب على مصادره، إلا أنّ من مزالق المحقِّقين تجاوز مصادر المؤلف فى التوثيق، أو معاملتها كسائر المصادر، فيوثق المحقِّق النصّ من مصادر لا حاجة، ويزداد الأمر غرابة حينما يوثق المحقِّق من مصادر متأخرة عنه! كأن يحيل فى تراجم الرواة فى كتاب «التلقيح» إلى «تهذيب التهذيب» و «تقريب التهذيب»، أو أن يعزو إلى «فتح البارى» ويتجاوز «هدى السارى».

كما أن على المحقِّق أن يكتشف أنواع النقل من المصادر، والمصادر التى نقل منها ولم يصرّح بها، ويميّز بين المنقول بالنص أو بالمعنى، وينبّه على ما وقع فيه وهم.

4 ـ مراعاة منهج الشارح فى العزو.

فإن كان للشارح منهج معتبرٌ، فعلى المحقِّق أن يكون خادمًا لمقصد المؤلف فيه، وقد نصّ البرهان الحلبى على اصطلاحه فى عزو الأحاديث، فقال فى شرح الحديث (1347): واصطلاحى أن أعزى المتابعات إلى ما هى فيه من الكتب السِّتَّة أو بعضها فقط، وقد أعزى بعض المتابعات أو الشواهد لخارج الكتب السِّتَّة أحيانًا.

5 ـ اختيار علامات الترقيم.

وسبقت الإشارة إلى طرفٍ من هذا، والشروح الحديثية تتفاوت فى علامات الترقيم سهولة وصعوبة، وكلّما توسّعت مصادر المؤلف، وقويت مُكنته؛ زادت الصعوبة، ومن أسبابها ــ غير معرفة منتهى الأقوال التى سبق ذكرها ــ كثرة الاقتباسات وتداخلها، فيتحيّر المحقِّق فى اختيار العلامة التى تؤدى المعنى ولا تفسده، وقد يضطره الأمر إلى أن يكسر القاعدة العامّة ليلبّى حاجة الكتاب والقارئ جميعًا، وليس فى هذا ما يعيب؛ بل هو أمارةُ التمكّن؛ فإن الألفاظ قوالب المعانى، ووظيفة المحقِّق أن يوصل المعانى التى لم تحملها رقوم الأحرف بالعلامات الهادية إلى المعانى الصحيحة.

وقد لا يواجه محقق الشروح الحديثية المبتكرة التى استأنفها أصحابها كشروح الخطابى وابن عبد البرّ صعوبةً فى علامات الترقيم، لكنّه يواجهها فى كتب الشروح الجامعة التى أحاطت بشروح السابقين، وأربت عليها، (وحينئذ قد يُضطر الكاتب أو المحقِّق أن يخالف بعض تلك الأصول الترقيمية المقرّرة، حين تطول العبارات جدًّا، أو تجتمع علامات مختلفة أو متماثلة، أو تتداخل وتتعاظل، فى أمكنة متقاربة من العبارة، أو حين يكون قطع اضرارى للفقرات) [35].

والأنسب فى كتب الشروح المتأخرة أن يتخفّف المحقِّق من استعمال (الفاصلة) عند وضوح السياق، مثل الكلمات المتعاطفة؛ لئلا تفحش فى عين القارئ، ولأن الإكثار منها عند وضوح السياق، يؤدى إلى ضَعف أدائها فى العطف بين الجمل، خاصّة الطويلة منها، وأما (الفاصلة المنقوطة) فمن المؤلفين من يتوسّع فيها، ويضعها بين كلِّ جملتين بينهما تعلّق، وهذا الاختيار لا يناسب كتب الشروح الحديثية؛ لكثرة هذا النوع من الجمل، والأولى أن تستعمل بين الجمل المترابطة بالسببية أو المسببية، إذا بعدتا عن بعضهما البعض، والإكثار من استعمالها كذلك يضعف دورها فى المواضع التى قد تستغلق على القارئ، وقد لا تتضح له إلا بالمراجعة والتأمّل. ومن العلامات المهمّة فى كتب الشروح (المعترضتان)؛ فإنّ لهما حضورًا فى الكتاب الحديثى، سواء فى كتب الشروح، أو فى كتب الرواية فى سياق الأسانيد والمتون.

وأوضّح شيئًا من المقصود من خلال هذين المثالين:

قال فى ترجمة أبى مصعب الزهرى فى شرح حديث (119): ذكره فى الميزان فقال ثقة حجَّة ما أدرى ما معنى قول أبى خيثمة لابنه أحمد لا تكتب عن أبى مصعب واكتب عمَّن شئت انتهى.

ففى هذه الترجمة نقل عن الميزان، وفيه قول لأبى خيثمة، وفيه استفهام إنكارى، فأقترح أن تكون العلامات هكذا: ذكره فى «الميزان» فقال: ثقة حجَّة، ما أدرى ما معنى قول أبى خيثمة لابنه أحمد: «لا تكتب عن أبى مصعب، واكتب عمَّن شئت»؟! انتهى.

فيوضع قول أبى خيثمة بين أقواس صغيرة، وتوضع علامتا الاستفهام والتعجب بعد القوسين، لتعودا إلى قول الذهبي؛ وإلا لظن القارئ أنهما وضعتا لقول أبى خيثمة.

وقال فى ترجمة أخرى: ذكره فى «الميزان» فقال: (قال محمَّد بن عثمان ابن أبى شيبة: سألت عليًّا عنه، فقال: كان عندنا ثقة، وكانوا يوهِّنُونَه فى أشياء رواها عنِ الزُّهرى. وسُئِل أحمد ابن حنبل عنه فوثَّقه، ولم يرضه فى الزُّهرى.).

والأصل وضع الفاصلة بين المتعاطفات، إلا أن وضع فاصلة قبل (وسئل أحمد) توهم أنه من كلام على بن المدينى، فتوضع نقطة للدلالة على نهاية كلام ابن المدينى، ويقوس على القولين جميعًا لكونهما جميعًا من كلام الذهبى.

 

۞۞۞۞۞

 

 الخاتمة

تناول البحث المنهج الأمثل لتحقيق كتب الشروح الحديثية، وهو المنهج الذى تُرسم معالمه بعد فهمٍ عميقٍ لشخصيّة المؤلّف، ومقاصده فى كتابه، ومصادره، وكيفية استمداده منها، وكيف أثّر ذلك فى تأليفه للكتاب، ومن ثمّ يضع المحقِّق منهجه، ويحدّر الخدمات التى سيخدم بها الكتاب؛ ليخرج فى الصورة التى تعبّر عن مراد المؤلف، وتوصل للقارئ المعانى التى لا يوصلها نصّ الكتاب وحده، وللقارئ حاجة إلى معرفتها لما لها من أثرٍ فى فهم الكتاب، ومن أبرز النتائج التى خَلُص إليها البحث:

1 ـ اقتصر برهان الدين الحلبى على التأليف فى الحديث وما يتصل به، وكانت له عناية كبرى بصحيح البخارى تحمّلًا وإقراء وشرحًا.

2 ـ يدور كتاب «التلقيح لفهم قارئ الصحيح» فى فلك الإقراء، وما يحتاج إليه الشيخ والتلميذ، ومن هنا اشتدت عنايته بضبط الألفاظ، وتمييز الرواة، وإبراز الصناعة الحديثيّة فى الصحيح.

3 ـ ضرورة أن يضبط المحقِّق الشّرح الذى يحققه وفق رواية الكتاب الحديثى الذى شرحه.

4 ـ أهمية الرجوع إلى حواشى المؤلف وتقييداته على النسخ الخطية فى تقويم النصّ.

5 ـ يتعيّن الاعتماد فى التَّحقيق على المطبوعات المتقنة، أو النسخ الخطيّة الموثوقة، ومن نقائص التَّحقيق الركون إلى المطبوعات دون تمييز.

6 ـ تجدر عناية المحقِّق بعلامات الترقيم، لما لها من أثر فى إزالة الالتباس عن النصوص، وتزداد أهميتها فى كتب الشروح الحديثية التى تُعنى بالجمع وتحقيق الأقوال.

وأخيرًا، فإن مجالات التصنيف عند المحدثين متعدّدة، وكلُّ مجال منها تحته فروعٌ، يقع بينها اشتراك وتمايز، وأقترح أن يضع المختصّون والمهتمون بتحقيق التراث معيارًا لجودة التَّحقيق ـ فى كلِّ مجال من مجالات التصنيف الحديثى ـ يُحتكم إليه، ويسترشد به المشتغلون بالتَّحقيق.

هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 ۞۞۞۞۞

 

قائمة المراجع

  1. الأتابكى، يوسف بن تغرى بردى، المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى، تحقيق د. محمد محمد أمين، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985م.
  2. الأشبيلى، عبد الحق بن عبد الرحمن، الجمع بين الصحيحين، تحقيق حمد بن محمد الغماس، الرياض، دار المحقِّق، 1409/1999م.
  3. البخارى، محمد بن إسماعيل، الجامع المسند الصحيح، نسخة خطية محفوظة بتركيا.
  4. البقاعى، إبراهيم بن عمر، عنوان الزمان فى تراجم الشيوخ والأقران، تحقيق د.حسن حبشى، القاهرة، دار الكتب والوثائق القومية، 1422/2001م.
  5. الثبيتى، د. على جابر، برهان الدين إبراهيم بن محمد الحلبى وجهوده فى علوم الحديث، رسالة دكتوراه فى جامعة أم القرى، 1418 (غير منشورة).
  6. الحلبى، برهان الدين إبراهيم بن محمد بن خليل:

‌أ. ـ التلقيح لفهم قارئ الصحيح، مخطوط محفوظ فى مكتبة شيخ الإسلام فيض الله أفندى برقم 435، 436 .

‌ب.                    ـ نثل الهميان فى معيار الميزان، تحقيق شادى بن محمد آل نعمان، صنعاء، دار النعمان، 1435/2014م

7.الخطابى، أبو سليمان حمد بن محمد، أعلام الحديث فى شرح صحيح البخارى، تحقيق د. محمد بن سعد آل سعود، مكة، مركز إحياء التراث الإسلامى، 1409/1988م.

8.الذهبى، محمد بن أحمد:

‌أ. ـ تذكرة الحفاظ، حيدر آباد الدكن، مجلس دائرة المعارف النظامية، 1333.

‌ب.الكاشف فى معرفة من له رواية فى الكتب الستة، مخطوط محفوظ فى مكتبة الأسد الوطنية بدمشق.

‌ج. ومقدمة التَّحقيق للأستاذ محمد عوّامة، جدة، دار القبلة ومؤسسة علوم القرآن، 1413/1992م.

9.السخاوى، محمد بن عبد الرحمن:

‌أ. ـ الجواهر والدرر فى ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، تحقيق إبراهيم باجس عبد المجيد، بيروت، دار ابن حزم، 1419/1999م.

‌ب.الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، بيروت، تصوير دار الجيل، 1412/1992م.

10.الشهرزورى، عثمان بن عبد الرحمن، علوم الحديث، تحقيق د. نور الدين عتر، دمشق، دار الفكر، 1406/1986م.

11.العسقلانى، أحمد بن على بن حجر:

‌أ. إنباء الغمر بأبناء العمر، ت: د.حسن حبشى، القاهرة، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1419/1998م.

‌ب. الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة، الهند، مجلس دائرة المعارف العثمانية، 1348.

‌ج. المجمع المؤسس للمعجم المفهرس، تحقيق د.يوسف المرعشلى، بيروت، دار المعرفة، 1415/1994م.

12.قباوة، فخر الدين، علامات الترقيم فى اللغة العربية، حلب، دار الملتقى، 1428.
13.الكردى، أحمد بن أبى بكر، العقد الغالى فى حلّ إشكال صحيح البخارى، منشور ضمن موسوعة صحيح البخارى الإلكترونية.
14. المقريزى، تقى الدين أحمد بن على، السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق د. سعيد عبد الفتاح عاشور، القاهرة، مركز تحقيق التراث بدار الكتب والوثائق القومية، 1973م
15. المكى، تقى الدين محمد بن محمد ابن فهد، لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ، تحقيق حسام الدين القدسى، دمشق، 1347.
 



 [20] ترجم له الحافظ فى إنباء الغمر3/415، فى وفيات سنة (800)، وقال فيه: وكان صالحًا خيّرًا متعبّدًا، وهو آخر فقهاء حلب المتعبّدين العاملين، كثير التلاوة والخير والعبادة والإيثار، وقدم القاهرة فأخذ عن شيخنا العراقى وعن ابن الملقِّن والجلال التبانى، وحج وجاور، وكان مشاركا فى النحو والأصول، مات فى ثامن عشر شهر رمضان. وجاءت نسبته فى المطبوع (السعانى)، وفى الدرر الكامنة (السافى)، ولا أدرى ما هى، والذى فى إجازته وفى عدد من بلاغات السماع (البسقاقى) لا غير.

 [21] محمد بن خليل بن هلال، عز الدين الحاضرى الحلبى الحنفى، ولد فى إحدى الجمادين سنة سبع وأربعين وسبعمائة، ورافق برهان الدين الحلبى إلى القاهرة، وسمع كلٌّ منهما بقراءة الآخر من قبل الثمانين وما بعدها. قال ابن حجر: أخذ عن مشايخها كثيرًا سماعًا واشتغالًا، وقرأ على شيخنا العراقى فى علوم الحديث وأجاز له. وقال: قال البرهان المحدّث بحلب ــ ومن خطه نقلت ــ: لا أعلم بالشام كلها مثله ولا بالقاهرة مثل مجموعه الذى اجتمع فيه من العلم الغزير، والتواضع والدّين المتين، والمحافظة على صلاة الجماعة، والذكر والتلاوة والاشتغال بالعلم. وقال فى «المجمع المؤسّس»: ورحل إلى القاهرة فأخذ بها عن الجمال الإسنوى، وولى الدين المنفلوطى، وجلال الدين التبَّانِى. وسمع من شيخنا ابن الملقِّن. وقرأ فى علم الحديث على شيخنا العراقى، وقرأ القراءات السبع، ففاق أقرانه مع الدّين والتقشّف.

 [31] ومع هذا ففى الشرح أشياء ألحقها وهى فى «فتح البارى» كما فى شرح الباب قبل ح (2192)، وشرح الأحاديث: (3737، 5332، 5590)، وتوجد مواضع فى أصل الشرح كما جاء فى شرح الحديث (2003)، ويوجد فيه ما ليس فيهما، ففى شرح حديث (6608) نقل جوابه على سؤال سأله أيّاه ابنه أبو ذر، وفى شرح حديث (7139) نقل عن تعليقه على حاشية لشيخه البُلقينى، لكنّه لم يقل إن تعليقه كان مكتوبًا، بل قد يكون مما أخذه عنه شفاهًا، وفى حديث (5888) نقل تعقّبًا له على جلال الدين البلقينى، قال فيه: (كتب بعض الحفاظ المتأخرين)، وما نقله عنه ليس فى الفتح ومقدمته، فيمكن أن يكون كتبه على نسخة البرهان أو على ورقة مثلًا. ومن المفيد هنا فى صنعة التَّحقيق المقارنة بين المواضع التى أشار فيها أحدهما للآخر كما فى هذا الحديث، وكما فى شرح حديث (5374) عند قوله: (وعن أبى حازم).