تحقيق النص الحديثى بين أصول المحدثين ومناهج المحققين
د. أيمن عيد عبد الحليم الحجار
عضو اللجنة المعاونة للسنة النبوية بهيئة كبار العلماء
العودة لصفحة المؤتمر
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خاتم النبيين، ورحمة الله للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ثم أما بعد:
فمما لا ريب فيه أن تحقيق النصوص التراثية وَفْق القواعد العلمية التى وضعها العلماء القُدامى [1] لخدمة النص وأيضًا ما أضافه المعاصرون [2] من أصول حاكمة، وضوابط لازمة؛ لخدمة النص التراثى -أصبح ضرورة علمية؛ لاستخراج الكنوز التى ورثناها عن علمائنا الذين خلَّفوا لنا عقولهم وأفكارهم لكى نغوص فى لآلئها وجواهرها من خلال ما سطَّروهُ من علومٍ ومعارفَ أصيلة تُعدُّ فخرًا تاريخيًّا فى مجال البحث العلمى، وسببًا من أسباب نهضة الأمة الإسلامية وريادتها فى أزهى عصورها.
۞۞۞۞۞
مفهوم تحقيق النص
وقد عرّف المعاصرون تحقيق النص بأنَّهُ: إخراج النص التراثى فى أقرب صورة إلى ما تركه عليه المؤلف؛ حيث شهد هذا العلم طفرةً كبيرة ًسواء على مُسْتوى الأفرادِ، أو عَلى مُسْتوى المُؤسَّساتِ، والمراكزِ البحثيَّةِ، فتمَّ استخراجُ وإحياءُ كنوزٍ تُراثيةٍ كثيرةٍ وَفْق قواعد التحقيق والتدقيق التى أصبحت مشتركًا علميًّا بين أهل العلم المختصين بالنص التراثى.
۞۞۞۞۞
أثر علماء الحديث فى تأصيل قواعد علم التحقيق
يُعدّ علماء الحديث النبوى هُم أوّل من وضع قواعد لتحقيق النص وضبطه، ثم كانت النهضة الأوروبية بعد ذلك فنشط بعض المستشرقين – وذلك فى القرن التاسع عشر الميلادي- فقاموا بإخراج بعض النصوص التراثية من لغةٍ وفقهٍ وحديثٍ وعقيدةٍ وغيرها من العلوم الشرعية والعربية، وكانت تقتصر جهودهم على نشر الكتاب على نسخة خطية وإبراز الفروق بين النسخ فقط فى الغالب، ثم ظهرت بعد ذلك التحقيقات العربية بدءًا من العلامة أحمد زكى باشا (ت: 1353هـ) الملقب بشيخ العروبة[3]، ومرورًا بعمالقة التحقيق أمثال: العلامة محمود شاكر(ت: 1418هـ)، والشيخ أحمد شاكر(ت: 1377هـ)، ومحمد أبو الفضل إبراهيم (ت: 1401هـ)، وعبد السلام هارون(ت: 1408هـ)، والسيد صقر(ت: 1401هـ)، ومحمود الطناحي(ت: 1419هـ)، وعبد الفتاح الحلو(ت: 1414هـ)، وغيرهم من فحول المحققين وتميزت بخدمة علمية للنص الحديثى من تخريجٍ لأحاديثه، وحُكمٍ عليه، وغير ذلك من الجهود العلمية التى تُشكر ولا تجحد.
ولقد حاول البعض أن يَنسِب الفضل فى نشأة علم التحقيق، ووضع أصوله إلى المستشرقين، والحقُّ أن المستشرقين قد استفادوا من المنهج العلمى الذى وضعه القدماء من علماء الأمة الإسلامية فى تحقيق النصوص، لا سيما الجهود التى قام بها علماء الحديث، والتى كانت تمثل نقطة فارقة، وتحولًا مُهمًّا فى الحفاظ على التراث الحديثي؛ لذا كانت جهودهم مثار إعجاب، ومحل تقدير لدى كل منصفٍ محب للعلم ولتراث الأمة.
ولقد تبلورت وتراكمت جهود علماء التحقيق وضبط النصوص حتى صار التحقيق علمًا مُحْكَمًا أصيلًا له أدبياته، ومدارسه، ومعاقله التى أخرجت نصوصًا علمية كثيرة ازدانت بها المكتبات العلمية، وأشرقت بها شمس المعرفة فى فنون شتَّى.
۞۞۞۞۞
خصائص النص الحديثى
يأتى «النص الحديثى» من بين هذه النصوص التراثية؛ حيث يتميز بمزايا، ويختص بخصائص تُميّزه عن غيره من النصوص، ومن هذه الخصائص:
1- أن النص الحديثى يتعلق بالوحى الشريف؛ حيث إن النصوص النبوية الثابتة الصحيحة وحى مُنزَّل، وهى مصدر من مصادر التشريع، فلذا كان لها من العناية والخصوصية ما ليس لغيرها من النصوص.
2- أن النص الحديثى يتكون من جزئين: إسناد، ومتن، وكل واحد منهما له قواعده التى تضمن ضبطه وصحته وسلامته، ولذا قام علماء الحديث خير قيام بتأصيل القواعد التى تضمن سلامة السند والمتن ووصوله إلينا غضًّا طريًّا من غير زيادة ولا نقصان[4].
۞۞۞۞۞
المحدثون وقواعد ضبط النص الحديثى وتحقيقه
لقد وضع المحدثون قواعد لصيانة وضبط النص الحديثى مثّلت الأساس واللبنة الأولى لعلم تحقيق النصوص، ومن أول من كتب فى هذه القواعد من المحدثين:
أ. الإمام الشيخ أبو محمد الرامهرمزى (ت: 360هـ) فى كتابه «المحدث الفاصل بين الراوى والواعى» حيث تناول مسألة تقويم اللحن بإصلاح الخطأ[5] ثم عقد بابًا فى المعارضة[6]، وبابًا فى الدائرة بين الحديثين[7]، والحكّ، والضَّرب[8]، والتخريج على الحواشى[9]، والنقط والشَّكل[10].
ب. الإمام الحاكم أبو عبد الله النيسابورى (ت: 405هـ)، حيث عقد فصلًا فى التصحيف والتحريف[11]، كما أنه ذكر مبحثًا لمعرفة المتشابه فى قبائل الرواة وبلدانهم وأساميهم وكُنَاهم[12].
جـ. الإمام ابن عبد البر القرطبى المالكى (ت: 463هــ) فى كتابه «جامع بيان العلم وفضله»، فقد عقد فصلًا فى أهمية معارضة الكتاب ومقابلته[13]، وفصلًا فى الأمر بإصلاح اللحن والخطأ فى الحديث، وتتبع ألفاظه[14].
د. ثم الإمام الخطيب البغدادى (ت: 463هـ) كانت له بصمة واضحة فى ميدان تحقيق النص الحديثى، حيث ذكر فى كتابه «الكفاية فى علم الرواية» بابًا للمقابلة، وتصحيح الكتاب[15]؛ ثم عقد بابًا لذكر ما يجب ضبطُه واحتذاءُ الأصل فيه، وما لا يجب من ذلك [16]، ثم ذكر فصلًا فى ما جاء فى تغيير نُقَط الحروف لما فى ذلك من الإحالة والتصحيف[17]، ثم عقد بابًا فى قضية إصلاح المحدث كتابه بزيادة حرف أو نقصانه [18]، وغير ذلك، ثم ذكر فى كتابه «الجامع لأخلاق الراوى وآداب السامع» باب الحِبر والكاغد وقال: يستحب أن يكون الحبر برّاقا جاريًا، والقرطاس نقيًّا صافيًا[19]، ثم ذكر باب تحسين الخط وتجويده[20]، واستحباب الخط الغليظ، وكراهة الخط الدقيق[21]، وكتابة الأسماء بالشَّكل والإعجام حذرًا من بوادر التصحيف والإيهام [22]، وكيفية وضع الدارة فى آخر الحديث [23]، والاستدلال بالضرب والتخريج على صحة الكتاب[24]، وغير ذلك.
هـ. الإمام القاضى عياض(ت: 544هـ) فى كتابه «الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع»[25]؛ حيث أفرد هذه الضوابط بمؤلف مستقل صار مرجعًا لكل من جاء بعده، وتعرض لمسائل كثيرة جدا تُعد أصولا من أصول تحقيق النص الحديثى، فقد بوب فى كتابه: بابًا للتقييد والضبط والسماع[26]، وبابا فى التقييد بالكتابة، والمقابلة، والشكل، والنقط، والضبط[27]، ثم عقد بابًا للتخريج والإلحاق للنقص[28]، وبابًا آخر للتصحيح والتمريض والتضبيب[29]، وبابًا للضَّرب، والحكّ، والشقّ، والمَحو[30]، وبابًا فى تحرى الرواية والمجيء باللفظ [31] وبابًا لإصلاح الخطأ وتقويم اللحن [32]، ثم بابًا فى ضبط اختلاف الروايات[33].
و. ثم جاء ابن الصلاح(ت: 643هـ) أيضًا والذى مثل كتابه« معرفة أنواع علم الحديث» نقطة فارقة فى تاريخ علوم الحديث، فذكر فى النوع الخامس والعشرين بابًا فى كتابة الحديث، وكيفية ضبط الكتاب، وتقييده [34]، رصد فيه ما استجد من قواعد لضبط النص بحسب تطور الزمن، ونبّه على ضرورة تقييد الواضح الذى لا يكاد يلتبس، وأن يكون هناك اعتناء لضبط الملتبس من أسماء الناس، بل ذكر أنه يستحب فى الألفاظ المشكلة أن يكرر ضبطها، بأن يضبطها فى متن الكتاب، ثم يكتبها قبالة ذلك فى الحاشية مفردة مضبوطة، فإن ذلك أبلغ فى إبانتها، وأبعد من التباسها، وما ضبطه فى أثناء الأسطر ربما داخله نقط غيره وشكله، مما فوقه، وتحته، لا سيما عند دقة الخط، وضيق الأسطر، وبهذا جرى رسم جماعة من أهل الضبط[35]، وأيضًا تعرض لكيفية شطب ما وقع فى الكتاب وليس منه، وبيان ضرورة الاعتناء بضبط اختلاف نسخ الكتاب والتمييز بينها، ثم الاصطلاحات والرموز التى ذكرها المحدثون مثل: كلمة حدثنا وأخبرنا، واختصارات هذه الرموز وغير ذلك.
ز. ابن جماعة (ت: 733هـ) الذى ألف كتابه «تذكرة السامع والمتكلم فى معرفة آداب العالم والمتعلم»، وذكر فى الباب الرابع فى الآداب مع الكتب وما يتعلق بها[36]، فذكر آداب النسخ وقواعده[37]، وتحدث عن الخط والقلم ومواصفاتهما[38] والمقابلة على الأصل، وأن يُشكل المُشكِل [39]، وكتابة الأبواب والفصول بالحمرة[40].
ويعد هذا الكتاب فتحًا عظيمًا فى باب تحرير النصوصِ وضبطِها، وهو يدلُّ على الرِّيادة ِالعلمية التى وصل إليها علماءُ الحديث مِن الدِّقةِ والإتقانِ فى التعامل مع النّص، وصيانته صيانة تامة، واتخاذ إجراءاتٍ علمية مُتقنة استفاد منها المستشرقون، ومن جاء بعدهم ممن له عناية بالمخطوط سواء من ناحية (الكوديكولوجى) أو من ناحية (خدمة النص وإضاءته)، ولولا خشية الإطالة لذكرت كلامه بكامله ففيه من الفوائد العزيزة ما لا يوجد فى غيره بحسب زمانه[41].
ح- الإمام شمس الدين السخاوى (ت: 902هـ) الذى خصَّصَ مبحثًا لكتابة الحديث فى كتابه «فتح المغيث بشرح ألفية الحديث» [42]، وذكر كل ما سبق من مباحث تعرَّض لها من سبقه من علماء الحديث فى الغالب، ثم ذكر كيفية كتابة التسميع، وطريقة العمل حين تختلف الروايات، وتعرض لقضية إصلاح اللحن والخطأ، وتخريج الساقط، كذا لقضية الرموز الحديثية، وغير ذلك.
۞۞۞۞۞
أهم القواعد والضوابط التى وضعها المحدثون لتحقيق النص
أولًا: الـمُقابلة، والمعارضة للنص
ثانيًا: إصلاحُ النصِّ بالتَّخْريج والإلحاق، وعلاج الخطأ وبيان الصواب بوضع رموز مُعلمة بذلك.
ثالثًا: ضبطُ النَّص، وقد استعمل المحدثون عدة إجراءات منها: النقط والشكل، وضبط الأسماء والألفاظ المشكلة، وتمييز المتشابه من الأسماء والألقاب والكنى، والمؤتلف والمختلف، والمُتَّفِق والمفتَرِق منها، والتنبيه على غلط المحدثين، وغير ذلك.
رابًعا: عمل الحواشى التى تُصْلِح خطأً أو تُعالج سقْطًا أو تنبه على فائدة أو قيد يتعلق بالنص، ولهم فيها طرق لبيان اللَّحق وتخريج الساقط.
خامسًا: بيان الآداب والإجراءات والمصطلحات الحديثية التى استعملها الكُتَّاب والنساخ: مثل الفصل بين الحديثين بالدائرة، ووضع نقطة فى الدائرة بعد المقابلة، والرمز للألفاظ المكررة، وبيان هذا والتنبيه عليه فى مقدمة الكتاب، أو فى الحاشية، كما أنهم ذكروا الآداب التى ينبغى التزامها عند النسخ من الكتاب بأن تكون الكتابة بخط واضح وكبير لا يستعجم على القارئ، وذكر السماعات وتواريخها فى الطِّباق، والتنبيه على عدم إصلاح الكتاب إلا فى حاشية الكتاب، وغير ذلك من القواعد والآداب.
۞۞۞۞۞
الجانب التطبيقى لمنهج المحدثين فى ضبط النص الحديثى (الإمام اليونينى[43] أنموذجًا)
- إن المدقق فى تاريخ علم التحقيق يرى أن المحدثين قاموا بتحرير النصوص وضبطها ضبطا علميًا يتسم بالعناية التامة، والدقة الشديدة، والخبرة والدُّربة الطويلة فى معايشة النص، وقراءته قراءة صحيحة، ومن هؤلاء الأعلام الإمام اليونينى رحمه الله (ت: 701هـ)[44]؛ حيث قام بتحقيق وضبط نسخته من صحيح الإمام البخاري(ت: 256هـ)، والذى طبعت عنها الطبعة السلطانية وإخراجها فى حلة قشيبة بعناية كوكبة من علماء اللغة والحديث.
- جهود الإمام اليونينى فى ضبط وإقامة نص صحيح البخارى:
وقد بذل الإمام اليونينى جهدا مُضنيًا فى خدمة نسخته من صحيح الإمام البخارى، و أعانه على هذا عدة أمور منها:
- ما تحلَّى به الإمام اليُونينى من أَناةٍ وصبرٍ شديدين مع التزامه الدقة والعناية التامة بالنص المقروء، وهذه من سمات المحقق وأخلاقياته.
- تمكنه الشَّديد من علوم الحديث واللغة مما جعلهُ أهلًا للتصدى لهذه المَهمة الكبيرة والشاقة[45]، وهذه أيضًا مؤهلات للمحقق ينبغى أن تتحقق فيه حتى يكون مُؤتَمنًا على النص الذى يعتنى به.
- استعانته بأهل الخبرة فى هذا الشأن من أهل اللغة، وهو الإمام الكبير جمال الدين ابن مالك صاحب الألفية المعروفة فى النحو.
- حضور نبهاء طلاب الحديث فى مجالس المقابلة والمُعارضة مما جعل العمل مجمعيًّا مؤسسيًّا.
* كل هذه العوامل ساعدت الإمام شرف الدين اليونينى فى نجاح عمله العلمى وخدمته لصحيح الجامع الصحيح والذى أصبح عمدة تلك النسخ لما تميزت به من ضبط تام وعناية فائقة، ولذلك لما قرر السلطان العثمانى طباعة الصحيح اتخذ العلماء القائمون على هذا العمل العلمى نسخة الإمام اليونينى أصلًا يرجع إليه ويُعول عليه
وقد أفصح الإمام اليونينى عن خطة عمله فى مقدمة نسخته للصحيح[46] ومنهجه فى ضبط النص وتحريره فقال:
- الأصول المشار إليها مما أحلت عليه فى هوامش نسختى من «صحيح البُخارِى»، وما أعلمت عليه فى نفس الكتاب بين الأسطر.
- فما وقع عليه اتفاق الأئمة الحفاظ الأربعة وهم: أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلى، والحافظ أبو ذر عبد بن أحمد الهَرَوى، والحافظ أبو القاسم على بن الحسن بن عساكر الدمشقى، والأصل المسموع على أبى الوَقْت بقراءة الحافظ أبى سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور السَّمْعانى. كتبت عليه (هـ ص: س ظ) هكذا.
- وما اتفق عليه ثلاثة منهم أسقطت رسم أحدهم، وكذلك إن اتفق اثنان منهم رُقم ما جعل رسمًا لهما.
- وإن لم يكن عندهم فإما أن أكتب على الهامش سقط عند (هـ ص: س ظ) أو أكتب عليه: (لا) وأرقم رسم من ليس عنده. مثاله: إنه وقع فى أصل سماعى حديث بدء الوحى: (جمعه لك فى صدرك). ووقع عند (5 ص: س ظ) (جمعه لك صدرك) بإسقاط: (فى)ففأنا أرقم على: (فى) (لا)، وأرقم فوقها أو إلى جانبها (هـ ص: س ظ)، هذا إن وقع الاتفاق على سقوطها.
- وإن كانت عند أحدهم وليست عند الباقين كتبتُ عليها: (لا)، ورقمت عليها الحرف المصطلح عليه، وعلى ذلك فقس فى كل ما تراه مرقومًا عليه، فافهم الرسم، واحذر من الغلط، وراقب رَقْم أبى ذر ومشايخه الثلاثة: الحَمُّويى، والمُسْتَمْلِى، وأبى الهيثم، فيما خالف أصل سماعى.
- فإن كانت المخالفة من الجميع كتبته فى الهامش ورقمت عليه (هـ) هكذا، أو صححت عليه (صح) هكذا، وإن وافق أحد مشايخه أصل سماعى كتبتُ الذى خالف، إما فى الأصل بين الأسطر ورقمت عليه ما تقرر من الاصطلاح إنه قد رسم له، أو فى الهامش وكتبت فوقه الرَقْم.
- فالحَمُّويى رَقْمُهُ (حـ) هكذا، والمُسْتَمْلِى (سـ) هكذا، واُلكشْميْهَنى (هـ) هكذا، فإن كان عند الحَمُّويى والمُسْتَمْلِى رقمت عليه (حسـ) هكذا، أو إن كان عند الحَمُّويى وأبى الهيثم رقمت عليه (حهـ) هكذا، وإن كان عند المُسْتَمْلِى وأبى الهيثم رقمت عليه (سهـ) هكذا.
- وإن كان ثابتًا عند أحدهم دون الآخر رقمت عليه رسمه، إما فى الأصل أو فى الهامش.[47]
فهذا النص يبين كيفية تحقيق الإمام اليونينى لنص الإمام البخارى والإجراءات العلمية التى استخدمها الإمام اليونينى، ثم إنه استعان بإمام اللغة ابن مالك ليشاركه فى ضبط ومقابلة النسخة.
ومن خلال تتبع صنيع الإمام اليونينى نَرى أنه اعتمد خمسة نسخ لصحيح البخارى وهى نسخة أبى الوقت، ونسخة أبى ذر الهروى، ثم نسخة الأصيلى، وأصل أبى القاسم بن عساكر، وأصل الحافظ أبى سعد بن محمد بن منصور السمعانى المسموع على أبى الوقت بقراءته.
وقد قام بجهد كبير فى مقابلة هذه النسخ لفظة لفظة، ووذكر مواضع الاختلاف والاتفاق بين هذه النسخ، وإذا كانت هناك زيادات فى بعض الروايات وليست فى أصل سماعه فإنه يذكر فى الحاشية، ويضعُ فوقها ما يدلُّ على الرواية التى جاءت فيها[48]، وقد ذكر العلامة أحمد شاكر فى مقالة له عن الإمام اليونينى مبينًا الجهد العلمى الذى بذله فى تحقيق نسخة صحيح البخارى فقال: « وقد عقد الحافظ اليونينى مجالس بدمشق لإسماع صحيح البخارى بحضرة ابن مال، وبحضرة جماعة من الفضلاء، وجمع منه أصولًا معتمدة، وقرأ اليونينى عليهم صحيح البخارى فى واحد وسبعين مجلسًا مع المقابلة والتصحيح.
فكان اليونينى فى هذه المجالس شيخًا قارئًا مُسمعًا، وكان ابن مالك – وهو أكبر منه بأكثر من عشرين سنة- تلميذا سامعًا راويًا هذا من جهة الرواية والسماع على عادة العلماء السابقين والصالحين فى التلقى عن الشيوخ الثقات الأثبات، وإن كان السامع أكبر من الشيخ.
وكان اليونينى فى هذه المجالس نفسها تلميذًا مُستفيدًا من ابن مالك فيما يتعلق بضبط ألفاظ الكتاب من جهة العربية والتوجيه والتصحيح [49]».
وقد أفاد الحافظ القسطلانى رحمه الله تعالى ( المتوفى: 923هـ) من نسخة اليونينى حينما أراد أن يشرع فى شرح البخارى، وقد ذكر كلامًا نفيسًا يظهر كيف قام الإمام اليونينى بضبط وتصحيح نسخة الصحيح: فقال رحمه الله:..وقد اعتنى الحافظ شرف الدين أبو الحسن تقى الدين بن محمد بن أبى الحسين اليونينى الحنبلى رحمه الله تعالى بضبط رواية الجامع الصحيح، وقابل أصله الموقوف بمدرسة «أقبغا آص» بسويقة العِزّى خارج باب زويلة من القاهرة المعزية، الذى قيل فيما رأيته بظاهر بعض نسخ البخارى الموثوق بها وقف مقرها برواق الجبرت من الجامع الأزهر بالقاهرة، إن (أقبغا) بذل فيه نحو عشرة آلاف دينار والله أعلم بحقيقة ذلك. وهو فى جزأين فقد [قابل] الأوّل منهما بأصل مسموع على الحافظ أبى ذر الهروى، وبأصل مسموع على الأَصيلى، وبأصل الحافظ مؤرخ الشام أبى القاسم بن عساكر، وبأصل مسموع على أبى الوقت وهو أصل من أصول مسموعاته فى وقف (خانكاه السميساطى) بقراءة الحافظ أبى سعيد عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعانى بحضرة سيبويه وقته الإمام جمال الدين بن مالك بدمشق سنة ست وسبعين وستمائة، مع حضور أصلى سماعى الحافظ أبى محمد المقدسى. وقد بالغ رحمه الله فى ضبط ألفاظ الصحيح جامعًا فيه روايات من ذكرناه راقمًا عليه ما يدل على مراده. ولقد عوّل الناس عليه فى روايات الجامع لمزيد اعتنائه وضبطه ومقابلته على الأصول المذكورة وكثرة ممارسته له، حتى أن الحافظ شمس الدين الذهبى حكى عنه أنه قابله فى سنة واحدة إحدى عشرة مرة، ولكونه ممن وصف بالمعرفة الكثيرة والحفظ التام للمتون والأسانيد كان الجمال بن مالك لما حضر عند المقابلة المذكورة إذا مرّ من الألفاظ يتراءى أنه مخالف لقوانين العربية قال للشرف اليونينى هل الرواية فيه كذلك؟، فإن أجاب بأنه منها شرع ابن مالك فى توجيهها حسب مكانه، ومن ثم وضع كتابه المسمى بـ«شواهد التوضيح»، ولقد وقفت على فروع مقابلة على هذا الأصل الأصيل فرأيت من أجلها الفرع الجليلى الذى لعله فاق أصله، وهو الفرع المنسوب للإمام المحدث شمس الدين محمد بن أحمد المزى الغزولى وقف (التنكزية) بباب المحروق خارج القاهرة، المقابل على فرعى وقف مدرسة الحاج مالك، وأصل اليُونِينِى المذكور غير مرة بحيث أنه لم يغادر منه شيئًا كما قيل.
فلهذا اعتمدتُّ فى كتابة متن البخارى فى شرحى هذا عليه، ورجعتُ فى شَكْل جميع الحديث، وضبطه إسنادًا ومتنًا إليه، ذاكرًا جميع ما فيه من الروايات وما فى حواشيه من الفوائد المهمات» [50].
والمتأمل لصنيع الإمام القسطلانى يرى أنه استفاد من جهد الإمام اليُونِينِى أثناء شرحه لصحيح البخارى وزاد عليه من النسخ الفرعية المحررة شيئًا فى الضبط، وهذا من أهم مزايا شرح الإمام القسطلانى فإنه قام بتحقيق وتحرير لفظ الصحيح مما جعل عمله يُعد تتميمًا للبناء الذى قام به الإمام اليُونِينِى.
ولعلك تلمح معى أيها القارئ الكريم أن ما قام به ابن جماعة الكناني- المُتوفى بعد انصرام العِقْد الثالث من القرن الثامن (ت 733هـ) – من تنظير فى كتابه «تذكرة السامع والمتكلم» الذى قدّمنا طرفًا منه والذى يدل على اكتمال منهج التحقيق - أن الإمام اليونينى المتوفى فى مطلع نفس القرن (ت: 701) قد طبَّق هذا عمليًّا، وكأن ثقافة التحقيق فى هذا العصر قد بلغت أَوْجَها، حيث تراكمت هذه الجهود منذ عصر الإمام الرامهرمزى ومرورًا بالأئمة: الحاكم، والخطيب، وابن عبد البر، وعياض، وابن الصلاح ووصولًا إلى اليُونِينِى وابن جماعة وغيرهم... فكونت لنا هذا المنهج العلمى الذى نظّر له الإمام ابن جماعة مستفيدًا من جهود مَنْ سبقه، وطبَّقهُ عمليًّا الإمامُ اليونينى رحمه الله.ولعل أبرز من أثَّر فى هذا الباب من وجهة نظرى هو القاضى عياض وابن جماعة تنظيًرا، والإمام اليُونِينِى تطبيقًا. والله الموفق والمعين، وصلى الله وسلّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
۞۞۞۞۞
فهرس بأهم مصادر البحث
1-إرشاد السارى لشرح صحيح البخارى، للإمام أبى العباس أحمد بن محمد بن أبى بكر القسطلاَّنى القُتيبى المصرى، (المتوفى: 923هـ)، الناشر: المطبعة الكبرى الأميرية، مصر، الطبعة: السابعة، 1323 هـ.
2-إرشاد القارى إلى النص الراجح لحديث «ويح عمار» من صحيح البخارى، لشيخنا العلامة الدكتور أحمد معبد، طبعة حكماء المسلمين الطبعة الثانية، 1440-2019م.
3-الأصنام، لأبى المنذر هشام بن محمد ابن بشر الكلبى (المتوفى: 204هـ)، تحقيق: أحمد زكى باشا، الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الرابعة، 2000م.
4-الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع، للقاضى عياض بن موسى اليَحصبى السبتى، أبى الفضل (المتوفى: 544هـ)، تحقيق: السيد أحمد صقر، الناشر: دار التراث، المكتبة العتيقة - القاهرة / تونس، الطبعة: الأولى، 1379هـ - 1970م.
5-تحقيق مخطوطات العلوم الشرعية وعلم الكلام، أعمال مؤتمر طبع بمؤسسة الفرقان بلندن الطبعة الأولى 1437هـ، 2016م.
6-تذكرة السامع والمتكلم، تحقيق محمد بن مهدى العجمى، طبعة دار البشائر، الطبعة الثالثة 1433هـ، 2012م.
7-جامع بيان العلم وفضله، لأبى عمر ابن عبد البر (المتوفى: 463هـ)، تحقيق: أبى الأشبال الزهيرى، الناشر: دار ابن الجوزى، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1414 هـ - 1994 م.
8-الجامع لأخلاق الراوى وآداب السامع، للخطيب البغدادى (المتوفى: 463هـ)، المحقق: د. محمود الطحان الناشر: مكتبة المعارف – الرياض.
9-الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة، لأبى الفضل أحمد بن على ابن حجر العسقلانى (المتوفى: 852هـ)، عناية/ محمد عبد المعيد ضان، الناشر: مجلس دائرة المعارف العثمانية - حيدر آباد/ الهند، الطبعة: الثانية، 1392هـ/ 1972م.
10-روايات الجامع الصحيح ونسخه «دراسة نظرية تطبيقية»، للدكتور جمعة فتحى عبد الحليم، الناشر: دار الفلاح بالفيوم -الطبعة: الأولى، 1424 هـ - 2013 م.
11-علوم الحديث، ويسمى بـ «معرفة أنواع علم الحديث»، ويُعرف ب«مقدمة ابن الصلاح». لعثمان بن عبد الرحمن، أبى عمرو، تقى الدين المعروف بابن الصلاح (المتوفى: 643هـ). المحقق: نور الدين عتر. الناشر: دار الفكر- سوريا، دار الفكر المعاصر – بيروت. سنة النشر: 1406هـ - 1986م.
12-فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقى للحافظ السخاوى-بتحقيق الشيخ/ على حسين على-ط/ دار الإمام الطبرى- الثانية 1412هـ، وطبعة دار المنهاج، بتحقيق الدكتور عبد الكريم الخضير ود الفهيد.
13-الكفاية فى معرفة أصول علم الرواية، لأبى بكر أحمد بن على المعروف بالخطيب البغدادى (المتوفى: 463 هـ)، تحقيق: ماهر ياسين الفحل، الناشر: دار ابن الجوزى – الدمام، الطبعة: الأولى، 1432 هـ.
14-المحدث الفاصل بين الراوى والواعى، لأبى محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزى (المتوفى: 360هـ)، تحقيق: د. محمد عجاج الخطيب، الناشر: دار الفكر – بيروت، الطبعة: الثالثة، 1404م.
15-معجم الشيوخ الكبير، لشمس الدين الذهبى، (المتوفى: 748هـ)، تحقيق: الدكتور محمد الحبيب الهيلة الناشر: مكتبة الصديق، الطائف - المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1408 هـ - 1988 م.
16-معرفة علوم الحديث، لأبى عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابورى. الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت. الطبعة الثانية، 1397هـ - 1977م. تحقيق: السيد معظم حسين.، وط.دار المعارف بتحقيق أحمد فارس السلوم الطبعة الثانية 1431هـ.
17-مقدمة اليونينى مخطوط بالمكتبة الأزهرية برقم [225 مجاميع] 5474)، وهى بخط أحمد بن محمد السحيمى القرشى القلعى سنة (1173) هـ.
18-النسخة اليونينية من صحيح الإمام البخارى، للشيخ أحمد شاكر، مقالة نشرت فى مجلة الكتاب، المجلد الحادى عشر، السَّنة السَّابعة، الجزء الثامن، المحرم 1372 هـ =.987- أكتوبر 1952 م.